علي عطروس / «لا» 21 السياسي -
بعد أقل من ثلاث ساعات من ساعة تنفيذ المقاومة الفلسطينية عملية طوفان الأقصى، صباح السبت 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 خرج اليمنيون بأعداد كبيرة في مختلف الساحات مباركين ومؤيدين ومساندين تلك الملحمة، ليخرج السيد القائد عبدالملك بدر الدين الحوثي بعد أقل من 72 ساعة من صباح ذلك اليوم في قولٍ أول تبعه ألف فعل، معلناً مناصرة غزة والانتصار لأهلها في وجه الوحش الصهيوني وآلته المتوحشة، وتجاه التواطؤ العالمي والإسلامي والعربي الرسمي، ومنذ البداية «كان موقفاً واضحاً وموقفاً مشرفاً، أعلنا وقوفنا بشكل كامل مع الشعب الفلسطيني والمجاهدين في غزة، الموقف العسكري وعلى كافة المستويات، وأن نتحرك لنصرتهم والوقوف معهم، وهذا الموقف هو موقف رسمي وشعبي أيضاً». وجسد الشعب اليمني «هويته الإيمانية بخروجه الجماهيري في المظاهرات والمسيرات، وبما لا مثيل له في أي بلد عربي أو إسلامي أو في أي بلد على المستوى العالمي، أكبر خروج وتعبير عن حالة الغضب وعن المساندة للشعب الفلسطيني».
«أما على مستوى التحرك العسكري فإخوتنا في القوة الصاروخية بدؤوا عملهم ونفذوا عدداً من العمليات بالقصف الصاروخي إلى جنوب فلسطين المحتلة لاستهداف أهداف صهيونية، وكذلك الإخوة في الطيران المسير»، متوعداً السفن الصهيونية في البحر الأحمر، وبالذات في باب المندب وما يحاذي المياه الإقليمية اليمنية، بالاستهداف والتنكيل(1). وتزامن القول مع الفعل مباشرةً، وحرك الشعب اليمني قواته الصاروخية والمسيّرة لتبدأ باستهداف العدو الصهيوني في فلسطين المحتلة وعلى مستوى البحر الأحمر وخليج عدن والبحر العربي، ليمنع تحرك السفن الصهيونية والسفن المرتبطة بالكيان الصهيوني(2).
«كيف لا نتحرك باستناد إلى الالتزامات الإيمانية؟! كيف لا نتحرك لنصرة المظلوم في مواجهة أولئك الظالمين؟! كيف لا نتحرك بناءً على تلك التعليمات المقدسة من الله سبحانه وتعالى؟! (... و) إذا لم نجاهد في مواجهة الأمريكي الصهيوني المجرم فضد من ستقف وستجاهد أمتنا؟! (...) نحن من هذا المنطلق ننطلق في موقفنا لمناصرة الشعب الفلسطيني الذي يقتله الصهاينة اليهود بجرائم إبادة جماعية ويحتلون أرضه ويدمرون مدنه ويستهدفون مقدسات الأمة فيه وعلى رأسها المسجد الأقصى. وهذا التزام إيماني وعلينا أن نكون أكثر جدية واهتماماً تجاه تحرك الأمريكي من منطلق التزامه الصهيوني. والأمة بين التزامين: التزام الأمريكي الصهيوني، والتزام أمتنا الإيماني».
الشعب اليمني اختار الخيار الثاني، وأثبت التزامه الإيماني من خلال «وقفته الكاملة بالقول والفعل لمناصرة الشعب الفلسطيني المظلوم ومجاهديه الأبطال على المستوى العسكري بالصواريخ البالستية والمجنحة وفي الموقف البحري في استهداف السفن المتجهة إلى الكيان الصهيوني»(3).
«سنصرخ في وجه المستكبرين، وإن كان البعض منا داخل أحزاب متعددة، سنصرخ أينما كنا، نحن لا نزال يمنيين، ولا نزال فوق ذلك مسلمين، أليس هذا الزمان هو زمن الحقائق ويتجلى فيه كل شيء؟! لا يجوز أن نسكت، بل يجب أن نكون سبّاقين، وأن نطلب من الآخرين أن يصرخوا في كل اجتماع، وموقف بلادنا واضح».
هكذا سلط القائد الشهيد السيد حسين الحوثي منذ أكثر من عقدين الضوء على العقيدة اليمنية وثقافة المقاومة عند الشعب اليمني والفكر المقاوم المنبعث من الاعتبار الديني المستقى من نور القرآن والوعي بطبيعة العدو الأميركي-الصهيوني، حيث بوصلة العداء تشير بثبات إلى أشد الناس عداوة للذين آمنوا، زيادةً إلى استناد اليمنيين إلى إرثٍ تاريخي صنع عقيدة راسخة وثقافة عدائية قوية وعميقة للصهيونية العالمية، إضافة إلى الدور التاريخي والكبير للشهيد القائد السيد حسين الحوثي وللسيد القائد عبدالملك الحوثي في إحيائهما ثقافة الموالاة والمعاداة في الوجدان الشعبي العام.
يخرج اليمنيون في «موقف جامع يحظى بإجماع واسع وأكثر من قضاياه الوطنية. لم يكن إجماع الشعب اليمني في موقفه تجاه العدوان عليه، بمستوى الإجماع والتفاعل مع القضية الفلسطينية والمظلومية الفلسطينية ومناصرة الشعب الفلسطيني وأبناء غزة. وليست المسألة تخص فئة معينة لهذا الشعب؛ لكنه تحرك لكل أبناء الشعب اليمني حتى في المحافظات المحتلة، وهم مع هذا الموقف الذي يعبر عن الشعب اليمني وضميره الحي وموقفه الشجاع والجريء والمسؤول، الذي ينسجم مع مبادئه وشرفه وحريته»(4).

منذ اليوم الأول لإعلان اليمن الدخول في معركة الدفاع عن الفلسطينيين، تواصل البروباجندا العبرانية محاولاتها للسخرية والتقليل وتشويه هذا الموقف، وما كان من «داعٍ أن يأتي أحد ليشوش على مواقفنا، لأن موقفنا ليس مزايدة أو مفاخرة، ولكنه موقف إيماني»(5).
«كان البعض من ذوي الدناءة والخسة يسخرون من هذا الموقف، حتى ضج منه العدو الصهيوني وتعطل بعض موانئه التي يعتمد عليها، وحتى صاح الأمريكي وصاح اللوبي الصهيوني»، ولو «كان موقف لا قيمة له لما صاح منه الصهيوني ولما احتل مساحة في إعلامه، عن خطورته ومستوى تأثيره الآثار الناتجة عنه»(6).
وكان «للموقف البحري أثر كبير جداً. كنا ندعو الله أن يوفقنا للموقف الفاعل المؤثر في نصرة الشعب الفلسطيني ومجاهديه الأبطال. ووفقنا الله بهذا الموقف، الذي نلمس مدى تأثيره بالذي أغاظهم وأغضبهم، إلى درجة العدوان على بلدنا. لم يعودوا يتحملون أن يستمر هذا الموقف، أصبح يمثل مشكلة وعامل ضغط حقيقي على العدو الصهيوني»(7).
ومن أجل إعطاء الموقف اليمني بعض قدره وقيمته يلزم النظر إليه بدءاً في سياق الفهم بأن الخطوة اليمنية جاءت في مياهٍ تمتلئ بالأساطيل الغربية والحليفة للغرب، وأن ذلك يبرز تفوق القدرة العسكرية اليمنية وبراعة التكتيكات التي تتبعها القوات المسلحة اليمنية في ظل ميزان قوى مائل ضدها بوضوح، وهي الخارجة للتو من سنوات عدوان تسع، فكأنها جاءت كـ»طوفان أقصى» بحري، وأن استهداف اليمن للسفن الصهيونية أو المرتبطة بالكيان الصهيوني حركة دفاعية في مواجهة التمدد الصهيوني من البحر الأحمر إلى خليج عدن(8).
و»برز اليمن، بفعل تموضعه إلى جانب فلسطين، قوة عسكرية فاعلة في الخارطة الجيوسياسية والبيئة الاستراتيجية المحيطة به والفناء الخارجي للمنطقة، وبذلك كسرت صنعاء التوازنات العالمية المتحكّمة في غرب آسيا وشمال أفريقيا منذ الحرب العالمية الثانية»(9).
وبات «الحصار المذهل الذي يفرضه اليمنيون في اليمن على البحر الأحمر يمتد إلى ما هو أبعد من الشحن العالمي وسلاسل التوريد وحرب الممرات الاقتصادية، فهو عمل على تقليص حجم قوة البحرية الأمريكية إلى درجة عدم أهميتها، وثمة احتمال بأن تتحول هذه الخطوة المنفردة إلى نقلة نوعية –بلا عودة– هو الذي يزيد من نهاية الهيمنة»(10).
وتمكن اليمنيون من «تحويل الحصار الصهيوني على غزة، والجرائم غير المسبوقة في العالم التي ترتكبها قوات الاحتلال هناك، إلى قضيةٍ عالمية مصلحية، بعد أن تحولت إلى قضية عالمية أخلاقية بفعل حرب الصورة، واستنهاض التاريخ التي خاضها الفلسطينيون ومعهم كل المتضامنين حول العالم. وإذا كان كيان الاحتلال قد خسر الحرب الأخلاقية (واحدة من محددات الهزيمة الاستراتيجية) بمجموعة ضرباتٍ قاضية تكتيكية، وبات على طريق تدمير الصورة التي صنعتها البروباغندا الصهيونية منذ احتلال فلسطين، فإن الكيان يخسر أيضاً القضية المصلحية التي فرضها اليمنيون، بأن جعلوا التجارة مع الكيان خاسرةً وعملاً محفوفاً بالمخاطر، فضلاً عن أنه عمل مشوب أخلاقياً»، و»تجاوز تأثير الجبهة اليمنية ضرب صورة الردع الصهيونية، ليترك آثاره على صورة الردع الأميركية في المنطقة»(11). و»أنجزت صنعاء ثلاثة أهداف واضحة ومباشرة:
• كسر القرار الأميركي الاستفراد بغزة ومنع تدخل أيّ طرف من خارجها في الحرب.
• تحدّي الإرادة الأميركية في ضمان الهيمنة على البحر الأحمر لمصلحة الكيان الصهيوني.
 • ضرب الهيبة الأميركية»(12).
«المسانَدة التي يقدمها اليمن عبر الانتقال بالدعم من مرحلة التصعيد العسكري بالمسيّرات والصواريخ البالستية إلى مرحلة احتجاز كافة السفن التجارية المتجهة إلى الكيان الصهيوني، هي بمثابة تعويض عن غياب الفاعلية الاقتصادية لدى المقاومة الفلسطينية، بمعظم أجنحتها. صحيح أن الضرر واقع أصلاً بالاقتصاد الصهيوني، جرّاء عوامل متداخلة في الحرب؛ لكنه ليس من النوع الذي يجبر الكيان الصهيوني على التراجع تحت ضغط الركود أو الانكماش الحاصلين في الاقتصاد لديها، ما سيُجبِر الصهاينة على التفكير مليّاً في مراجعة خطط الحرب، إلى حدّ وقفِها، إضافة إلى العاملين الأميركي والداخلي الخاص بالصراع السياسي على السلطة، هو حصول تأثير عكسي على اقتصادهم، بحيث لا يعود الشلل مقتصِراً على الاقتصاد الفلسطيني، كما هو حاصل الآن. هذا لن يتحقّق إلا عبر حرمانهم من الموارد الأساسية التي تغذّي الدورة الاقتصادية، وعلى رأسها سلاسل الإمداد والتوريد والذي سيصيب انقطاعها الدورة الاقتصادية الصهيونية، بمجملها، بالشلل، الأمر الذي يجعل تأثيرَه يتجاوز البعد الاقتصادي، ويجعل من أيّ عامل جيوسياسي عاملاً اقتصادياً، بالضرورة، يكمن في هذا الربط بين البعدين الجيوسياسي والاقتصادي للمواجهة في سياقٍ هو الوحيد الذي لا يستطيع الكيان الصهيوني تحمّله، ليس على المدى البعيد فقط، بل أساساً على المدى القريب. اقتصاده، الذي عجز عن الاندماج في الإقليم طوال عقود، لن يصمد كثيراً أمام ذلك الحصار البحري الذي يُفرض عليه للمرة الأولى في تاريخ صراع العرب والفلسطينيين معه»(13).
وقد «تبدو الضربات اليمنية للسفن الصهيونية والمتوجّهة للكيان الصهيوني ذات طابع رمزي - لدى البعض، استناداً إلى الصورة الانطباعية التاريخية بأنّ التجارة الخارجية لذلك الكيان تتم مع أوروبا والولايات المتحدة بالأساس، لكن الأمر ليس كذلك، فهي ضربات موجعة فعلاً لا رمزاً، حيث تغيّر التوزيع الجغرافي للتجارة الخارجية للكيان الصهيوني بشكل جوهري في العقود الثلاثة الأخيرة، حيث يتوجه ربع الصادرات الصهيونية إلى الدول الآسيوية، ويحصل الكيان الصهيوني على ثلث وارداته السلعية من الدول الآسيوية، وتبلغ القيمة الإجمالية للواردات السلعية الصهيونية من كل دول العالم نحو 107 مليارات دولار. ويجري الجانب الأكبر من تلك التجارة مع الصين الأم والأقاليم الصينية، وتحديداً هونج كونج وتايوان. وتمر تلك التجارة كلّها عبر البحر العربي وباب المندب والبحر الأحمر، لتتوجه إلى ميناء «إيلات» (أم الرشراش) على رأس خليج العقبة بدون تحمّل أي رسوم، لأنّ مضيق تيران صار دولياً بعد تنازل السلطة المصرية عن جزيرة تيران للسعودية، وحتى قبل ذلك التنازل كان المرور التجاري عبر المضيق يتم بلا رسوم، وهي خيبة حكومية ممتدة من العهد الملكي وحتى التنازل عن الجزيرة وعن مصرية المضيق»(14).
وهكذا لم يعد البحر الأحمر بعد اليوم تفصيلاً في الجغرافيا فقط. كما أن اليمن بدأ يعيد لنفسه دوره التاريخي في إعادة الاعتبار إلى مفهوم الكرامة.
منذ البداية «وصلتنا رسائل الترغيب والترهيب، وقد قلنا في إجابتنا على الرسالة الأمريكية عندما قالوا إنهم وجهوا دول المنطقة بألا يكون من جانبها ردة فعل ولا أي موقف، قلنا: لا تحسبونا معهم، لسنا ممن يتلقى توجيهاته منكم، فنحن لا نخضع لأوامركم، شعبنا شعب ينتمي إلى الإيمان بصدق، شعب شجاع وشريف وأبي وحر بكل ما تعنيه الكلمة، لن يخنع لأعدائه ولن يستعبده أحد، لا الأمريكي ولا البريطاني ولا أي من عملائهم، ولن يرده عن موقفه الإنساني والإيماني أحد أبداً»(15).
و»إذا كان الأمريكي يريد أن يخضع أمتنا لتبقى متفرجة على الجرائم التي يرتكبها العدو الصهيوني فإن شعبنا قرر ألا يخنع وألا يتراجع عن هذا الموقف الديني والأخلاقي والإنساني. والأمريكي الذي يحاول أن يهدد ويتوعد لن يثنينا أبداً عن موقفنا الديني والأخلاقي المساند لفلسطين الذي أعلناه منذ البداية ونحن نعرف مدى انزعاج الصهيوني والأمريكي منه»(16).
«هذا الموقف هو من منطلق إيماني. وعلى الأمريكي الذي يقف موقف الظالم أن يفهم ماذا نعني بموقفنا الإيماني، والذي عليه نحيا وعليه نموت»(17).
هكذا يخاطب قائد اليمنيين العالم، وهكذا يتحدى زعيم أنصار الله أمريكا، حيث «لم يسبق الخطاب الفعل وحتى لم يتبعه، بل إن الخطاب السياسي المتعلق بفلسطين كان رديف الفعل السياسي والعسكري طوال سنوات الحرب ضد العدوان السعودي-الأمريكي. نحن هنا ولأول مرة منذ عقود وعلى المستوى العربي نرى العروبة كممارسة سياسية، لا كخطاب فقط، ونرى الحدود الوطنية ذهنية وجغرافية نحيلة بشكل غير مسبوق. ونحن، بدون مبالغة وبكل موضوعية وتاريخية، نتكلّم عن أكبر حركة اجتماعية وسياسية في تاريخ الجزيرة العربية، بل وفي تاريخ الوطن العربي، وعن حالة ثورية تحررية يجب نقلها عربيًا»(18).
في المقابل بنت الولايات المتحدة نظريتها للهيمنة على العالم، بعد الحرب العالمية الثانية، على القبض المباشر على البحار والمحيطات والممرات المائية الحيوية، كشرط استراتيجي لضمان التفوق الكمي والنوعي على المنافسين المحتملين، كما لضمان تحكمها في حجم نمو القدرة عند خصومها وهامش الحركة لدى حلفائها.
و«تحسبُ أمريكا نفسها القوة البحريّة العظمى، التي هزمت الاتحاد السوفييتي، الذي مثّل نظرية القوة البريّة الجيوبوليتيكية، بميزانية عسكرية باذخة، بلغت 858 مليار دولار، مقارنة بميزانية الصين البالغة 224 مليار دولار، وميزانية روسيا المقدرة بـ111 مليار دولار. وتملك واشنطن 11 حاملة طائرات، ونحو 800 قاعدة عسكرية خارج حدودها. كما تحسبُ واشنطن نفسها بمثابة «شرطي العالم»، المعني بتنظيم سير السفن في محيطات وبحار ومضائق العالم، ليس في شمال الكرة الأرضية وحسب، وإنما في جنوب الصين، كما في الشرق الأوسط»(19).
غير أن جرأة الدولة اليمنية على تحدي هذا النظام، فتحت الباب أمام العالم للتفكير في إمكانية التصادم معه عند الضرورة - وسبق للإمبراطورية البريطانية الانهيار وهي إمبراطورية بحرية كما هي أمريكا اليوم. إنه صراع حقيقي وفاعل لاستراتيجية واشنطن الثلاثية في منطقتنا لأكثر من نصف قرن: السيطرة على المضائق ومنابع الطاقة وحماية الكيان الصهيوني .
«لقد انتقل الفعل اليمني من المستوى التكتيكي المرحلي إلى المستوى الاستراتيجي الدائم، وهذا ما يمسّ جوهر فكرة الولايات المتحدة عن الإمساك بقرار العالم عبر التحكم بالبحار والمحيطات والممرات المائية ويفرض على الأميركيين مسؤولية التخلص من هذا التهديد الداهم» عبر استمرار العدوان على اليمن والذي -للمفارقة- «أسهم في تحقّق أهداف صنعاء أكثر ممّا أضرّ بها، وهي التالية:
• تحوّل المجال الاستراتيجي للبحر الأحمر إلى مجال غير آمن وغير قابل لاستعادة الأمن ما لم يتمّ وقف النار في غزة.
•  توسع دائرة الأهداف اليمنية لتشمل المصالح العسكرية وغير العسكرية لكل من واشنطن ولندن.
• تسليط ضغوط إضافية على الإدارة الأميركية، على أبواب معركة انتخابية معقّدة وغير مضمونة النتائج.
• انكشاف الدعاية الأميركية حول تهديد اليمن لسلامة الملاحة في البحر الأحمر، وخلق مناخ دولي ضاغط لمصلحة المقاومة في غزة.
• ظهور الولايات المتحدة كدولة مارقة، لا تحترم القوانين الدولية، وتتصرّف وفقاً لمصالحها ولو على حساب مصالح العالم أجمع.
• ظهور الهجوم الأميركي بوصفه دعائياً وغير مؤثر؛ كون معظم الأهداف التي طالها كانت قد ضُربت سابقاً منذ بداية عدوان 2015، من دون أن يؤثّر ذلك في القدرة العسكرية اليمنية.
•  تعزيز تمسك اليمن قيادة وشعباً بقرار محاصرة الكيان ونصرة غزة، وجعْل إمكانية تعليق هذا القرار أكثر صعوبة.
• تعزيز الحضور اليمني على المستويين الشعبي والسياسي في العالمين العربي والإسلامي، والمساعدة في بناء صورة أيقونية لليمن الذي ينخرط في مجابهة مباشرة مع الغرب من أجل قضية فلسطين.
• خلق واقع معقّد لدول الخليج التي تجد نفسها مضطرة لغسل يدها من الهجمات على اليمن، لاعتبارَين: الأول يتصل بمسؤوليتها المباشرة في تلك الحالة عن دعم قرار إبادة الشعب الفلسطيني، والثاني أنها غير مستعدة للعودة إلى اشتباك مباشر مع اليمن بعد هزائمها المتتالية على مدى تسع سنوات(20).
«لم يأخذ الأمريكي الدروس والعبر فيما حصل من عدوان لتسع سنوات اشرف هو عليه»(21).
كما لم يستفد الأمريكي من دروس الهزيمة التي منيت بها، حيث «خاضت واشنطن حرباً امتدت لعقدين في كل من فيتنام وأفغانستان، وانتهت الحربان إلى فشل ذريع. وبالمقارنة مع فيتنام الجنوبية، اليمن ثلاثة أضعاف المساحة وضعف عدد السكان، ومع كامل فيتنام اليمن مرة ونصف مساحة فيتنام وثلث عدد سكانها. وبالمقارنة مع أفغانستان، اليمن أقل بـ10% في المساحة وعدد السكان، وهذا يعني أن عامل المساحة وعدد السكان ليسا سبباً لاستبعاد تكرار نتيجة الفشل في حربي فيتنام وأفغانستان في حرب اليمن. واليمن بمساحة نصف مليون كيلومتر مربع وعدد سكان يزيد عن ثلاثين مليون نسمة، مشروع فيتنام أخرى وأفغانستان جديد. بقياس التضاريس الطبيعيّة، اليمن أقرب لوعورة أفغانستان، وبقياس التمرّس بالقتال وامتلاك الأسلحة النوعيّة متفوّق على أفغانستان وفيتنام. وبقياس ما يمكن للأميركي فعله، فاليمن لا يزال تحت آثار حرب استخدمت فيها ضده الأسلحة ذاتها التي يأتي بها الأميركي بهدف إخضاعه. وفي اليمن بنية قتالية عقائدية استشهادية، وملايين من الشباب الجاهز للتضحية، وتقنية عالية في أسلحة الجيل الجديد للحروب، الطائرات المسيّرة والصواريخ الموجهة، وقد أثبت بعد الغارات الأميركية وحشود المدمرات المجهزة بوسائل الحرب الإلكترونية أن صواريخه تنطلق لتصل إلى أهدافها رغم محاولات التشويش والسيطرة. العاقل لا يستطيع أن يُغفل حقيقة أن نتيجة التورط الأميركي في اليمن لن ينتهي إلا بأسوأ ما انتهت إليه حربا فيتنام وأفغانستان(22).
ختاماً: تزخر المؤسسات البحثية والصحف العالمية بتناول التحليلات التي تحذر مما يصفونه بالتهديدات التي تشكلها هجمات اليمنيين في البحر الأحمر، أحد أهم طرق العبور للتجارة العالمية، وتستفيض في شرح المخاطر الجيوسياسية التي تهدد أمن هذه المنطقة، ثم تأخذ في شرح وتفكيك الأبعاد الاقتصادية والعسكرية لتلك الهجمات على أمن البحر الأحمر، ثم تبدأ في توضيح مسألة الأمن الاقتصادي على الطرق البديلة لشركات الشحن الدولية، والتكاليف التي يتحملها الاقتصاد العالمي، وأقساط مخاطر التأمين، وفي نهاية المطاف ربما تذهب لاقتراح فرض مسألة الأمن العسكري، من إطار أمن باب المندب وخليج عدن، وحماية طرق التجارة الدولية واقتصاد العالم ورفاهية ورخاء مواطنيه.
مشكلة هذه التحليلات والرؤى أنها تتعامل مع كل مشاكل العالم بمنظور استعماري شديد وبعلو وتكبر وعنجهية، وهو ما أشار إليه أمين عام حزب الله، سماحة السيد حسن نصر الله، في خطابه بأسبوع الشهيد وسام طويل.
فلا ولم يقرأ الأمريكيون اليمن جيداً، وإلا لكانوا قد أدركوا أنه «بين ليلة الـ26 من آذار/ مارس 2015 وليلة الـ12 من كانون الثاني/ يناير 2024 الجاري، عشرةُ أعوام كَبرَ خلالها اليمن عشرة قرون، مشروعاً وقراراً وطنياً جريئاً ووجوداً فارقاً ودوراً قلب موازين القوى على مسرح إقليمي ودولي كان أحادياً قبل أن يتداعى اليوم لجهة انبعاث رقم يمني صحيح ووازن إقليمياً ودولياً. في المقابل وفي عِقد المسافة بين الليلتين الآنفتين خسرت قوى الإمبريالية بقيادة أمريكا عشرة قرون من وزنها الاستعماري الضاغط على أقطار الكوكب وشعوبه ومن هيمنتها الأحادية على مصائر بلدانه وشعوبه وهي تتدحرج اليوم بالنتيجة لهذا الانحدار الوجودي المتسارع، صوب أن تصبح عقلة إصبع في عيون عبّادها وعلى المسرح الإقليمي والدولي! لقد انعتق الزمن اليمني بلا رجعة من زمن الحظيرة الأمريكية واستنفد الحاوي الأمريكي كل أحابيله القذرة سلفاً ولا جديد في جرابه النافق يهدد به العنقاء الطالعة من سنوات الرماد العشر والمحلقة فوق أنقاض ملكوت الأحادية القطبية المتداعية والآفلة»(23).


الهوامش

(1) خطاب السيد عبدالملك الحوثي، 1 جمادى الأولى 1445.
(2) خطاب السيد عبدالملك الحوثي، 7 جمادى الآخرة 1445.
(3) خطاب السيد عبدالملك الحوثي، 1 جمادى الأولى 1445.
(4) خطاب السيد عبدالملك الحوثي، 7 جمادى الآخرة 1445.
(5) خطاب السيد عبدالملك الحوثي، 1 جمادى الأولى 1445.
(6) خطاب السيد عبدالملك الحوثي 7 جمادى الآخرة 1445.
(7) خطاب السيد عبدالملك الحوثي، 7 رجب 1445.
(8) إبراهيم علوش: أثر خطوة الاعتراض اليمنية في البيئة الاستراتيجية لباب المندب، «الميادين نت».
(9) لقمان عبدالله: اليمن يفعّل قوته: لا هيمنة غربية على البحار، «الأخبار» اللبنانية.
(10) بيبي سكوبار، في موقع (thecradle).
(11) نور الدين إسكندر: الجبهات الشريكة تحوّل هزيمة «إسرائيل» العسكرية إلى هزيمةٍ استراتيجيةٍ، «الميادين نت».
(12) أمريكا تضيّع هيمنتها على البحار، «الأخبار» اللبنانية.
(13) ورد كاسوحة: اليمن يجترح الفاعلية الاقتصادية للمواجهة، «الأخبار» اللبنانية.
(14) أحمد السيد النجار: الأبعاد الاقتصادية للضربات اليمنية، «عروبة 22».
(15) خطاب السيد عبدالملك الحوثي، 1 جمادى الأولى 1445.
(16) خطاب السيد عبدالملك الحوثي، 7 جمادى الآخرة 1445.
(17) خطاب السيد عبدالملك الحوثي، 7 رجب 1445.
(18) موسى السادة: أرادوا الخروج فأعدّوا له: ساحل تهامة طريقاً لـ»الطوفان»، «المساء برس».
(19) عباس بوصفوان: أذن يمنية طرشاء للصفارة: أميركا لم تعُد شرطياً محترماً، «الأخبار» اللبنانية.
(20) حسن شعبان: ورطة أمريكا في اليمن: مفاعيل عكسية للعدوان، «الأخبار» اللبنانية.
(21) خطاب السيد عبدالملك الحوثي، 7 رجب 1445.
(22) بين اليمن وفيتنام وأفغانستان، جريدة «البناء».
(23) صلاح الدكاك: بين ليلتين وضحى الفتح الموعود.. أمريكا في سواء الجحيم، صحيفة «لا».