حلقات يومية يكتبها القاضـي محمد الباشق / لا ميديا -
ومن النماذج التي أخبرنا عنها الله جل شأنه في كتابه العزيز نموذج «أصحاب الجنة» (أصحاب البستان)، لما كانت تمثل لهم من مصدر لرغد العيش، فخططوا بكل مكر، وباعثهم انحراف فهم وحب الذات، الذي وصل بهم إلى وضع خطة منع وحرمان الفقراء، وكان اتفاقهم على استغلال عامل الوقت، قبل أن يأتي الفقراء لأخذ نصيبهم، وغفل هؤلاء في ليلة وضع خطتهم أن خالق الزمان والمكان والمنعم عليهم بالجنة يملك الوقت ويتصرف فيه.
وهنا أحب أن أضيف فائدة، وهي: لماذا كانت عقوبة أصحاب القرية التي كانت حاضرة البحر في ذواتهم بمسخ شكلهم البشري، إلى أن صارت صورهم صور قردة وخنازير، بينما أصحاب الجنة كانت عقوبتهم هلاك تلك الجنة ومسخ أشجارها وثمارها، بل وحتى تربتها، فصارت لا جنة، حطاما، لا يمكن عودتها، خسروا مصدر رزقهم، مصدر رغد معيشتهم؟
الجواب من عدة أوجه:
1 - إن أصحاب الجنة مصدر إهانتهم لأنفسهم تعظيمهم للنعمة (الجنة) ونسوا ما أوجب عليهم المنعم من إكرام وإحسان للمساكين، وقالوا «ألا يدخلنها اليوم عليكم مسكين»، وجحدوا بذل ثمار ونتاج تلك الجنة للمستحقين لها، إيثارا لأنفسهم وطاعة للهوى واستجابة لوعد إبليس لهم بخسارتهم ما يحسنون ببذله ويحسنون بدفعه في إهانة لذواتهم وظلم وحرمان لغيرهم، لأن مصدر التخطيط وباعث نية المنع والحرمان فرحهم وأنسهم وسرورهم بجنتهم لتكون لهم ولأولادهم من بعدهم، في انسلاخ من أي علاقة لهم ببني جنسهم، فكانت العقوبة للمصدر، وهو جنتهم.
2 - أصحاب القرية التي كانت حاضرة البحر مخرجات حوار المحرفين المنحرفين، التي ظهرت في صناعة أحواض للحيلة، فما في نفوسهم من إهانة لذواتهم وسوء طواياهم وخبث نواياهم ظهر وتجلى واقعا من البر التراب وفي البحر الأحواض، ونظروا إلى صنعهم بكل رضا وإعجاب. أما أصحاب الجنة فلم تخرج نواياهم للواقع، مكروا وخططوا لزمان معين، فكان الهدف هو المكان، والوسيلة هي الزمان في آخر الليل، قبل مجيء المساكين في الصباح، فكانت العقوبة المناسبة أن تمسخ جنتهم فيزول عنها وصف الجنة، وتصير أرضا محروقة يرونها وتراها أجيال البشرية طول الزمن.
3 - إن من مسخهم الله قردة وخنازير ماتوا وهم في حال المسخ؛ لأن مستوى الحيلة في التلاعب بمفهوم تطبيق الدين وتنفيذ العبادة وصلوا فيه إلى مرحلة منحطة لم يسبقهم أحد إلى ذلك المستوى من المسخ في هويتهم بطاعتهم لهواهم، فماتوا وهلكوا. أما أصحاب الجنة فإن داء البخل ومرض الشح الموجود فيهم وفي أمثالهم الكثير والكثير من البشر عبر العصور، فكانت العقوبة موجودة على الأرض مشاهدة، ليعلم من خطا على خطاهم وحدة المصير. أما من مُسخ كما مُسخ أصحاب القرية التي كانت حاضرة البحر فإن مستوى المسخ وإن لم يظهر للناس في مشاهدتهم قردة وخنازير فإن تمكن أي فئة من البشر من فعل كفعلهم سيرى المجتمع الذي هم فيه صنوف العذاب بمقدار الصمت والحياد، الكل يعاقب، وهذه العقوبة في مجال الاقتصاد سماها الحق «حرب الله ورسوله» على من يستحل محرما، كاستحلال الربا وصناعة حوض فكري اسمه حسب قولهم إن البيع مثل الربا.
ولكم إخواني القراء الكرام أن تنطلقوا بأفكاركم إلى أن إخوة يوسف وقعوا في جزئية من مكر وحيلة أصحاب القرية وأصحاب الجنة. وكل محتال يرى الندم ويحرم الاستفادة مما استخدم الحيلة من أجله ويشاهد ثمرة فعله خسارة وندامة. فسبحان من يدبر الأمر ويصرف الآيات.