علي نعمان المقطري / لا ميديا -

النهضـة والقيـادة التاريخيــة
لقد تقطعت بشعوبنا وبأمتنا طريق النهضة طويلا وامتدت لقرون، ومازالت تائهة تبحث عن السبيل السليم لبلوغ أهدافها، وهي قد ضلت على هذا النحو لزمن طويل، وقد رزقت بقيادات عجيبة غريبة ترجو النهضة والتقدم في أيدي الأعداء وفي أحضان الاستعمار، لا جهلا بطريق النهضة الحقة، ولكن خبثا واستغباء وتناقضا وحيرة واستحمارا منها، تريد النهضة وتريد عكسها في وقت واحد، وهذا واحد من أهم معوقات النهضة والحرية والاستقلال.

ولما كانت التغيرات الكبرى في المجتمعات لا تقوم بها إلا طبقات كاملة لها مصلحة في التغيير، فإن الحرية والنهضة لا تتحققان إلا بقيادة الطبقة والتحالف الطبقي الاجتماعي الشعبي الذي تتطابق من خلاله مصالح الأمة ككل ومصالح التحالف الطبقي القائد للحرية والنهضة. فالأمر ليس متعلقا بقيادة فرد أو زعيم أو مجموعة صغيرة من الناس لا تشكل أغلبية الأمة.
وقد انتكست النهضات السابقة، لأنها وقعت في انتكاستين: ذاتية، وموضوعية؛ وذلك أنها قد قادتها شخصيات لا تنتمي إلى عامة الشعب، وإنما هي في الغالب شخصيات من داخل طبقات الحكم والمجتمع الاقتصادي السائد، فقد كان أغلبها ينتمي للقطاع التجاري، اجتماعيا وطبقيا، وفي مصر والشام مثلا كان هذا واضحا، حيث إن أفكار النهضة حملتها النخب القومية التي تأثرت بأفكار الغرب الليبرالي ودرست في معاهده ومدارسه، فلم تكن تتبنى قضايا ومظلوميات أغلبية الشعب العربي المحروم والمقهور والمستلب الحقوق، من الفلاحين والمزارعين والعمال والحرفيين والقبائل والعشائر وصغار التجار والموظفين والجند وعوام الناس من أهل البلاد والأرض الأصليين الذين سُلبت أراضيهم وانتُهكت حقوقهم منذ قرون من السيطرة الأجنبية العثمانية والغربية. ولأن تلك النخب كانت تنحدر من فئات ثرية أو من أقليات تركية أو فئوية أو دينية عليا وتنتمي إلى علية القوم من حيث أسرها وطبقاتها الاجتماعية، فإن ثقافتهم السياسية الاجتماعية التي تشبعوا بها كانت تقفز بهم فوق مستوى قضايا الغالبية الشعبية المقهورة التي لا ينظرون إليها إلا كسواد يكثر من أعداد الناس ولا يؤثر في مصيرهم كثيرا، وقد ورثوا من الثقافة التقليدية العثمانية مفاهيم "أهل الحل والعقد"، ومن الغرب ورثوا مفهوم "أهل الحيثية والملك".
ولم يكن لسواد الناس، المحرومين والفقراء، أي قيمة قبل الحرب العالمية الأولى وقبل الثورات الكبرى الحديثة، وخاصة الثورتين الروسية والصينية الشعبيتين. ومن هنا ظلت النخب المثقفة فوق واقعها وخارج تاريخها الواقعي. وكان هذا الواقع الاجتماعي التاريخي للقادة يجعلهم عاجزين موضوعيا وذاتيا عن مواصلة طريق النهضة بنجاح، وكانوا يكابدون صراعات وتمزقات في نفوسهم وأفكارهم ومع طبقاتهم التي يقفون معها على قاعدة مشتركة ومصائر واحدة في نهاية المطاف، ولا يستطيعون الانحلال منها أو التخلي عنها، وإن رغبوا في خدمة الجماهير الشعبية ومساعدتها فإنهم يفعلون ذلك دون أن يمسوا امتيازات وأوضاع طبقاتهم الثرية.
والمشكلة الاجتماعية كانت أصلا قد تكونت بسبب تسلط تلك الطبقة الثرية المتعاونة مع المحتل والأجنبي، ولا يمكن الانتصار للشعب الكادح إلا إذا انتزعت الأراضي والثروات الكبرى التي اكتنزتها من حقوق الشعب والأمة. وكانت تلك حدود أولئك النهضويين الأحرار حسني النوايا، فإن أحسنهم نوايا وحماسا شعبيا كلاميا كانوا يحاولون البحث عن حلول خارج المجتمع القائم وخارج التاريخ. وأما الطبقة الثرية الأقلية البرجوازية الرأسمالية التجارية الطفيلية الصغيرة والوسطى والكبيرة، فكلها مرتبطة من حيث وجودها وتمركزها وتوسعها وتطورها الاقتصادي والثقافي والسياسي بوجود الاستعمار نفسه؛ لأنها كانت تقف في موقع الطبقة المسيطرة على المجتمع ثقافيا واجتماعيا، ولم تسمح لقوى اجتماعية أخرى بالنهوض وتجاوزها وتحمل دور القيادة التاريخية للأمة بدلا عنها، فقد استغلت سيطرتها المادية الاقتصادية لكي ترسي نظامها وتضمن امتيازاتها وإعاقة تحرر الأمة من هيمنتها هي وحلفائها المستعمرين والأجانب، بعد أن أصبحت وكيلة اقتصادية تجارية لهم وشريكة ربحية حصرية، وتداخلت المصالح بينهما، وصار وجود أحدهما ضرورياً للآخر، وكل استهداف لأيٍّ منهما استهدافاً للآخر وإضرارا به، فأصبحت كل مواجهة للاستعمار هي بالضرورة خصم من مصالحها التجارية وأرباحها ومصيرها وامتيازاتها وما حققته وما تحققه، ولذلك وقفت في منتصف الطريق، في أحسن الأحوال، ثم سقطت محاولاتها تلقائيا من الداخل وسقطت سلطاتها تدريجيا، فقد وصلت إلى نقطة لا تستطيع معها التقدم للأمام ولا البقاء حيث وصلت.
وقد ظلت الشعارات المرفوعة عن الحرية والتقدم والاستقلال والعدالة والنهضة، مجرد شعارات وزوبعة في فنجان، وهذا في أفضل الاحتمالات، لدى قيادات وأنظمة البرجوازية العربية البيروقراطية العسكرية والقبلية والكولنيالية الناشئة، وسواء كان ذلك في تجارب البعث القومي أو الناصري أو في التجارب اليسارية القومية الوطنية، وأبرز أنظمتها كان في مصر والعراق وليبيا والجزائر واليمن (الشمال والجنوب) والصومال والسودان وسورية الستينيات وفلسطين.
ورغم أنها كانت تطرح نفسها وتقدمها على أنها قوى تقدمية وشعبية ووطنية وقومية ويسارية وثورية، إلا أنها كانت تقف عاجزة عن مواجهة طبقاتها المتشابكة مصالحها مع الرأسمال الأجنبي التجاري ومع الاستعمار الغربي. فالاستعمار هو في النهاية رأسمال إمبريالي ليس إلا مسلحاً بالقوات المحتلة لتحقيق أهدافه الاقتصادية والتجارية التي هي جوهر وغاية الاحتلال.

أزمة البرجوازية التجارية (المستعمرة)
في المجتمع المستعمر والتابع يتم تمويت وإذابة وانحلال البرجوازيات الإنتاجية الوطنية التقليدية الأصيلة المستقلة في الزراعة والحرف والصناعات المحلية كضرورة أولية مع دخول الاستعمار الأجنبي وسيطرته، ثم يقوم هو بإنشاء برجوازية تجارية محلية جديدة غير إنتاجية موزعة مستوردة تتشارك مع الأجنبي النشاط والاستغلال والأرباح والفوائد، وتغدو جزءا عضويا من اقتصاده الدولي والإقليمي. وينشئ الاستعمار الأجنبي المهيمن تركيبة اقتصادية وطبقية جديدة تلائم مصالحه الاقتصادية والسياسية، من أهم سماتها أنها تكون من البداية تابعة له ولاقتصاده وتجارته ووكيلة لشركاته التجارية وبنوكه ومؤسساته. وكثيرا ما يستخدم الأجنبي شرائح من الأقليات الدينية والعرقية الموجودة في البلاد والمستعدة لخدمة الرأسمال الأجنبي وتتشارك معه المصالح على اعتبار الموضوع موضوع تجارة، فهي لا تنتج وإنما تروج وتستهلك وتستورد وتوزع ما عند الأجنبي وبضائعه وسلعه الجاهزة المصنعة وراء المحيطات والبحار، فهو ينتج وهي توزع وتبيع وتروج وتخرب الداخل الإنتاجي وتفلس الصناعات المحلية الوطنية، لكي تخلي المجال أمام السلع القادمة من الخارج، وهو يأتي ويشتري المشروعات العامة المنتجة المفلسة المخربة ليعيد تأهيلها على أساس جديد، ليحل محلها ويحتكر السوق والمواد الخام، ويسيطر على البنوك والشركات ومصادر التمويل والقروض والثروات الوطنية والمواقع الاستراتيجية.

في المجتمع المُستعمر ينشئ الأجنبي المهيمن تركيبة اقتصادية تلائم مصالحه ويقضي على الصناعات المحلية. وهكذا بدلا من محلات الحرف القديمة والسلع الوطنية ترى محلات مخازن ووكالات الاستيراد ومواقع التوزيع والترويج للسلع الأجنبية، وتتحول الطبقة القديمة الوطنية الإنتاجية تدريجيا إلى طبقة بائدة عتيقة مفقرة (بروليتارية) غالبيتها تفلس وتخرب، والقسم الصغير منها (الأقلية) يغدو شريحة جديدة متبرجزة (كولونيالية) ثرية مرتبطة بالأجنبي ومتشاركة معه في المصالح الاقتصادية والتجارية والسياسية ومندمج بالاقتصاد الاستعماري الأجنبي الغازي عملا بمقولته الفكرية الشهيرة القائلة بأن "السياسة الحديثة تتبع الاقتصاد أينما حل واستقر"، وتصبح جزءا عضوياً من سياسته.
الاستقلال التام أو الموت الزؤام
عندما كان القوميون الوطنيون خارج الحكم والسلطة كانوا وطنيين وثوارا وأحرارا، كانوا متحمسين للحرية والعدالة والاستقلال التام أو الموت الزؤام، وهذا كان شعار سعد باشا والنحاس باشا في مصر خلال ما سموها "هوجة سعد باشا" خلال العشرينيات، يقصدون ثورة الشعب حين حصل سعد باشا زغلول على تفويض عام من كافة جماهير الشعب لتمثيله في المطالبة بحقوقه في الحرية والاستقلال في المحافل الدولية الغربية، حيث كانت تعقد المحافل والمؤتمرات المطالبة باستقلال الشعوب والدول بالوسائل الحضارية السلمية والتفاوضية. وكانت تلك حيلة غربية ذكية لخداع الشعوب وتسليمها إلى جلاديها وماصي دمائها من طريق ملتوٍ، بدلا من أن تتجه إلى طريق الثورات الشعبية الجادة الجذرية العنيفة التي لا تعرف الوسائل "الحضارية "الرقيقة" والجمل القانونية المفخمة، ولا تجيد المداهنات والتملقات والمجاملات الزائفة لأناس متوحشين في حقيقتهم لا يعرفون سوى لغة الموت والقتال والحروب والقوة والغلبة وحدها. وهذه الوسائل "الرقيقة" و"القانونية" في المطالبات بالاستقلال والحرية لا تخيفهم ولا يخشون منها، بل هي تساعدهم على البقاء والاستمرار والخداع للشعب.

برجوازية مهجنة معجمة
كانت البرجوازية المصرية المهجنة قد مضى عليها نصف قرن وهي تتشارك الفوائد والعوائد والأرباح مع الإنجليز والفرنسيين وشركاتهم الأجنبية في ظل الاحتلال البريطاني، تهادنهم وتتوسط بينهم وبين الشعب لعقد تسويات لتهدئة مطالب الشعب بالحرية والاستقلال التي تفجرت على ضوء ثورة أكتوبر الاشتراكية 1917 وشقيقاتها الأوروبيات والآسيويات والأفريقيات واللاتينيات وتدفق تيارات الأفكار الثورية الجديدة التي فجرتها ثورات ما بعد وعشية الحرب العالمية الأولى ونتائجها الدولية والاجتماعية والاستراتيجية.
ولكي تتجنب بريطانيا هذا المصير في مستعمراتها ومناطق سيطرتها واحتلالها فقد أوعزت لرجالها أن يتصدوا لمهمة الاستقلال والحرية لبلادهم قبل أن يتقدم إليها الثوار الشعبيون والحقيقيون، وحصل هذا في أغلب المستعمرات الناهضة، وهي لعبة سياسية استراتيجية جديدة اخترعها المخيال الغربي النشط بهدف إجهاض الحركات الثورية الجذرية القاطعة الحاسمة مع المستعمرين بعد تفجر الثورة البلشفية الروسية السوفييتية وتوسع سيطرتها وانتقال وهجها الحار إلى المحيط الأوروبي والآسيوي والأفريقي واللاتيني، وهكذا ولدت ما عرفت بالثورات الملونة الأقدم مطلع القرن الماضي لتكون بديلا مقبولا عن الثورات الحمراء والشعبية التي لا يمكن السيطرة عليها وعلى نتائجها، والتي لا بد أنها ستطيح بمواقع المستعمرين القديمة ويتفاهمون مسبقا على حدود التغيير الممكن الضروري الذي يجب إخراجه تحت تسميات استقلالية وليبرالية مقبولة ومخادعة لا تحتوي على مضامين حقيقية في النهاية، وإنما شكلية وصورية يتم من خلالها إعادة تدوير وإخراج الاستعمار الأجنبي بصورة جديدة من الشكل المباشر إلى الشكل غير المباشر للتحكم الأجنبي عبر العملاء والوكلاء المحليين الذين يعينهم المستعمر ملوكا وحكاما يختارهم من أخلص رجاله وأجهزته وطبقاته الثرية المتشاركة معه المصالح والأرباح. وهكذا حصلت "الهوجة" و"الهوجة المضادة" وتم التوقيع على نتائج المفاوضات بين الوفد وسعد باشا والإنجليز، وتم إخراج حكومة من الباشوات وملك فاسد من بقايا أسرة محمد علي باشا، كبار عملاء الإنجليز ووكلائهم في مصر، وعلى دستور يقسم السلطات حسب تقدير الإنجليز وحسب مصالحهم وأولوياتهم.
وجعلت السلطة الفعلية بأيدي المستعمر، الذي حصل على تفويض شرعي منهم لاحتلال منطقة القناة والوصاية على العرش المصري، والإنجليزي صاحب الأمر والنهي الحقيقي، يختار الملك صاحب السلطة الصورية بالوكالة عنهم وممثل الباشوات والأغنياء والإقطاعيين والرأسماليين المغربنين، طبقة عليا تسيطر على الشعب (الفلاحين والعمال والبسطاء والحرفيين وصغار الملاك والشباب والجنود والمزارعين أصحاب البلاد الأصليين من العرب المصريين)، والشعب يصدق أنه حقق الاستقلال، والحكومة تتشكل من أحزاب الملك والإنجليز، التي تزور الانتخابات بانتظام، وتتطاحن الأحزاب السياسية التابعة للعرش وللإنجليز وتقسم ولاءات الشعب المخدوع.
ويوجد مثيله في البلاد العربية الشبيهة كلها. الكل قالوا تلك الشعارات الحماسية العظيمة؛ لكنهم جميعا تناسوها عندما اقتربوا من السلطة والحكم.
وفي اليمن رفع الثوار العسكريون القوميون السبتمبريون شعارات عالية المطالب تجسدت في الأهداف الستة للثورة، والبيانات والأدبيات الاستراتيجية التي ظلت تتوالى خلال فترة نهوضها التي عرفت بالسنوات الخمس الأولى بين سبتمبر 62 ونوفمبر 67، ثم انكفأت على نفسها وانطفأت شعلتها بانقلابها العسكري الإقطاعي الرأسمالي الكومبرادوري يوم 5 نوفمبر 67، الذي خططت له الدوائر الاستعمارية في الرياض ولندن وواشنطن، حين قسمت القوى واشترت ووظفت أعوانها المندسين داخل مؤسسات الثورة نفسها، ففتكوا بالثوار الحقيقيين بشتى السبل؛ منهم من أعدم أو قتل أو اغتيل أو طرد أو غيب، ومنهم من تم شراؤهم بالوظائف المربحة وإرسالهم سفراء في الخارج، وتناسوا القضية، ومنهم من تكيف مع المؤامرة وكان جزءا منها، ومنهم من عينوا في مناصب مالية وأسكتت ألسنتهم إلى الأبد حين فتحت لهم الأبواب على مصارعيها للاتجار بالبلاد وباقتصادها.
ورأينا ضباطا كانوا وطنيين وثوارا وأحرارا وقد صاروا وكلاء لشركات الاستعمار التجارية وبنوكها ومصالحها، وصاروا شركاء في أقسام من العوائد والأرباح ومن الاتجار بالأرض والعقارات العامة والوقفية والخاصة، ومن موظفي الدولة الكبار النافذين والوزراء والرؤساء تكونت ثروات الجماعات الجديدة المتبرجزة، فقد صارت الوظيفة العامة مناصب للاغتنام وسلاحا فتاكا للسيطرة والبسط ووضع الأيدي والتعدي على الأراضي والممتلكات العامة والخاصة في كل مكان من البلاد دون استثناء.
ولو فتشنا قليلا في سجلاتها سنجد أن أغلبها وأهمها كانت لضباط النظام الانقلابي وحلفائهم من قادة البعث اليميني والإخوان والوهابية، وقد سطوا على مساحات هائلة من الأرض بقوة السلاح والمدافع والرشاشات والقبيلة العسكرية المسلحة بأسلحة الدولة، ومن هذا الانقلاب خرجت كافة بلاوي البلاد ومصائبها وثعابينها بالتوالي عبر انقلابات جديدة وانقلابات كلما رأت مصالح الأجنبي السعودي الغربي التغيير تلجأ إلى "التغيير" بطريقتها البشعة المتخلفة الحاقدة الانقلابية.

من المفارقات الغريبة في التاريخ أن ضباط وسياسيي الثورة وصناعها من البعثيين والقوميين، الذين انقلبوا على القيادة الوطنية للثورة ممثلة في المشير عبدالله السلال وعبدالله جزيلان وبقية القيادات الوحدوية، وتعاونوا مع السعودية والدوائر الأمريكية الغربية البريطانية عبر الفريق العمري والنعمان والإرياني والأحمر وهادي عيسى والأهنومي والرعيني... وغيرهم، وكلهم قيادات بعثية عسكرية قومية كبيرة؛ كانوا هم أنفسهم الثوار والأحرار يوم 26 أيلول/ سبتمبر 62، وهم أنفسهم أصحاب الانقلاب العسكري الرجعي يوم 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 67، وهم أنفسهم أصحاب مذابح آب/ أغسطس 68، وهم أنفسهم أصحاب وحماة ومنظرو ونشطاء مؤتمرات حاشد وعمران والجَنَد، القبلية الرجعية المعادية للثورة ولقياداتها الوطنية، كما كشفت الوثائق والمؤرخات من قبل الرجعية السعودية والمخابرات البريطانية، وهو ما أكدته وثائق المخابرات الأمريكية عبر موقع "ويكيليكس" من سنوات؛ ثم كانوا هم أنفسهم أصحاب عضوية مجلس القيادة مع إبراهيم الحمدي في حركة 13 حزيران/ يونيو 74 التصحيحية، حيث شغلوا قوام المجلس المكون من 15 عضوا قياديا من القوات المسلحة، ومنهم مجاهد أبو شوارب وأحمد الناصر وعلي أبو لحوم ومحمد أبو لحوم ودرهم أبو لحوم وعبدالله عبدالعالم وعلي عبدالله صالح وأحمد الغشمي وأضيف إليهم بعد ذلك عدد آخر من الضباط بعد نشوب النزاع الداخلي على السلطة مع جماعه أبو لحوم والأحمر وآخرين، كلهم ينتمون إلى البعث في الأصل، ماعدا إبراهيم الحمدي، الذي كان في السابق ناصرياً قومياً اشتراكياً قبل أن ينقلب على رفاقه الشباب من الحركيين القوميين العرب في آب/ أغسطس 68 وينضم إلى حركة البعث اليميني وعُيّن سكرتيرا لمكتب الفريق العمري وقائدا للاحتياط العام، وقاد معركة تصفية اليسار العسكري من الجيش والوحدات العسكرية التي انتصرت في حصار السبعين يوما من الصاعقة والمضلات والمشاة والمدفعية والشرطة العسكرية والمدرعات والمقاومة الشعبية، التي سقط خلالها آلاف المقاتلين الجمهوريين قتلى وجرحى وأسرى، لأنهم جمهوريون متشددون آنذاك يساريون، كما يلقبونهم. وجوهر سبب المذبحة هو رفضهم التصالح مع السعودية وعملائها أو القبول بالصلح وتغيير سياسة الحكومة التي أغلبها بعثيون برئاسة الفريق العمري، والكل ينتمون إلى البعث القومي وحلفائه من السلفيين والوهابيين والإخوان، وكلهم محل رضا الدوائر السعودية، التي كانت ترى العقبة الأولى أمام السيطرة والهيمنة تكمن في سيطرة اليساريين الجمهوريين على الوحدات العسكرية المسلحة، المتشددة ضد السعودية والرجعية، فكان عليهم أن ينظفوها من الجمهوريين المتشددين بقيادة المقدم عبدالرقيب عبدالوهاب، قائد قوات الصاعقة ورئيس هيئة الأركان العسكرية، والنقيب حمود ناجي سعيد، قائد قوات المضلات قائد المحور الشرقي، والنقيب محمد جبران، قائد قوات المدفعية، والنقيب محمد صالح فرحان، قائد سلاح المشاة، والنقيب عبده قاسم الحبيشي، قائد قوات المقاومة الشعبية خلال حصار السبعين، الذي حققوا فيه النصر على قادة النظام وضباطه الذين تركوا صنعاء لمصيرها وفرّوا منها قبل إكمال الحصار عليها.
وقد ادعوا العقلانية والاعتدال وعدم التطرف وتسليم العاصمة للسعوديين ونقل العاصمة إلى تعز، رافضين القتال ضد السعودية وعملائها وتسليم العاصمة لهم. وعادوا إلى العاصمة بعد انتصارها على الحصار بقيادة اليساريين الجمهوريين المتشددين، وأرادوا استعادة مناصبهم بدلا من أن يحالوا إلى المحاكم العسكرية ويحاسب كل واحد منهم. وتلك كانت المصيبة المضحكة بقدر ما هي محزنة للأسف.
وقف الناس مذهولين أمام الصفاقة والوقاحة التي أبداها أولئك المخابيل الذين كأنهم أودعوا المناصب إيداعاً فقط عند "المتشددين"، فإن انهزموا وهلكوا فليكن وهو المطلوب ففي النهاية ستكون شراكة ملكية مجمهرة مشتركة بالتناصف حسب العرض السعودي السابق، وإن انتصروا باسم الجمهورية فنحن لهم بالمرصاد في الحديدة وفي الخارج، وإن نجحوا في كسر الحصار فليكن فسوف يتم قتلهم بمبرر أنهم متطرفون يرفضون السلام مع الأشقاء في المملكة الجارة الكبرى وصاحبة اليد العليا وصاحبة النعمة عليهم، ويمكن اتهامهم بأنهم شيوعيون وملاحدة، والتهم والفتاوى جاهزة لاستحلال دماء الوطنيين الجمهوريين الحقيقيين، لأن المطلوب كان تسليم العاصمة للرجعية السعودية والهروب إلى تعز والخارج واستلام الثمن من السعودية.
وكما كشفت الوقائع والوثائق التاريخية فإن الجماعة كانوا قد عقدوا اتفاقاً سرياً مع السعودية قبل الانقلاب على السلال، واستلموا منها الأموال التي أداروا ودبروا بها المؤامرات ضد الجمهورية وهم محسوبون عليها منذ بداية الجمهورية مطلع الستينيات، كما كشف موقع "ويكيليكس" الأمريكي وثائق السفارتين السعودية والأمريكية في صنعاء وجدة والخارجية الأمريكية المتصلة باليمن، مقابل القبول بهم وكلاء لها في اليمن. وقد قاد المذابح آنذاك إلى جانب إبراهيم الحمدي كل من العقيد علي سيف الخولاني، والفريق حسن العمري، وكلهم بعثيون كبار وقوميون كما كانوا يدعون، وكان علي أبو لحوم، قائد لواء مدرع بعثيا عسكريا، وكان درهم أبو لحوم قائد ألوية تعز، وكان محمد أبو لحوم قائد لواء الاحتياط العام، وكان النقيب الشيخ سنان أبو لحوم محافظ الحديدة لعقود طويلة، وكان اللواء يحيى المتوكل بعثيا معروفا وقياديا كبيرا في وزارة الداخلية وفي اللجنة العامة للمؤتمر الشعبي العام...
ولو راجعنا التاريخ سنجد أن الفريق الذي سيطر على الدولة عسكرياً طوال الأربعين عاماً الأخيرة (الفترة 1967 - 2011) هي أجيال الفريق البعثي العسكري نفسه، بحيث انتقلت القوة والسيطرة من فريق بعثي عسكري قديم إلى فريق بعثي عسكري جديد في كل مرحلة، بما فيها مرحلة الحمدي القصيرة، وقبلها مرحلة السلال الأولى، حيث كانت سيطرة ضباط البعث العسكري هي السمة المميزة منذ أيلول/ سبتمبر 1962.
حتى سلطة الحمدي كانت في جوهرها تنويعا للبعث، حيث كان أربعة أخماس مجلس القيادة الـ15 من ضباط البعث الكبار وقادة ألويته المسلحة ومناطقه العسكرية، ومنهم الشيخ مجاهد أبو شوارب، نائب رئيس القائد الأعلى للبعث العسكري القبلي وقائد لواء المجد المتمركز في محافظة حجة، والمقدم أحمد الغشمي، قائد اللواء الأول مدرع، والرائد علي عبدلله صالح، قائد لواء تعز، والمقدم علي محمد صلاح، قائد لواء محافظة تعز ونائب رئيس أركان الجيش فيما بعد،  والمقدم أحمد فرج، قائد تعز فيما بعد، والمقدم مجاهد القهالي، قائد لواء، والمقدم عبدالله عبدالعالم، قائد قوات المظلات والصاعقة بعد دمج القوتين لأول مرة، والشهيد إبراهيم الحمدي، بعد أن ترك حركة القوميين العرب اليسارية في منتصف الستينيات، وكان إلى جانب الفريق العمري زعيم البعث العسكري القديم خلال الستينيات، الذي يعد مهندس التبعية للسعودية الأشهر والأقوى حتى مطلع السبعينيات، وعبدالعزيز عبدالغني، عضو مجلس القيادة ورئيس حكومات الحمدي والغشمي وعلي صالح، وقبله محسن العيني، الذي عين رئيساً للحكومات المتوالية حتى بداية عهد الرئيس الحمدي.

كان منصب رئيس الحكومة وأغلب الوزراء وأهمهم فيها، طوال العهود المختلفة للرؤساء الذين توالوا منذ انقلاب تشرين الثاني/ نوفمبر 67، منحصرا في حركة البعث العسكري اليميني بدرجة أساسية. وهذا مؤشر لافت يكشف مدى النفوذ الذي مارسه والسلطة التي تمتع بها هذا التيار السياسي اليميني المتطرف بالتعاون مع القوى القبلية والسعودية والرجعية، التي انقضّت على الثورة اليمنية جنوبا وشمالا عبر مراحل مختلفة. لقد كان هذا التيار مسيطرا ومتوغلا في مفاصل القوات المسلحة اليمنية وأجهزتها ومواقع قيادتها منذ منتصف الخمسينيات، مستغلا علاقاته الإقليمية والدولية.
ومنذ فجر اليوم الثاني للثورة السبتمبرية الأولى 1962 كان قد موضع نفسه سياسيا واستراتيجيا بطريقة تناقضية مزدوجة انتهازية، وتوزع على جبهتي الصراع القائم بين الثورة وأعدائها في الوقت نفسه، فقد كانوا في ظاهر الأمر حلفاء للتيار القومي الناصري، وفي الوقت نفسه كانوا حلفاء للرجعية العربية والغربية سرا وعلنا، وقد أكلوا على مختلف الموائد، ليضمنوا بقاءهم في قمم السلطة الجمهورية. وخلال حصار السبعين الشهير مالوا بأغلبيتهم القيادية العسكرية المسيطرة إلى ممالأة القوى الوطنية الجمهورية في الظاهر، وفتح جرارات سرية مستمرة طوال الحصار وبعده وقبله مع الرجعية السعودية المعتدية على اليمن ومحاصرة عاصمتها وصب البلاء عليها ليل نهار لتستسلم أمامهم وتزيل الجمهورية. وقد مارسوا الضغوط الشديدة على شباب الضباط الجمهوريين في الجيش، الذين كانوا مصرّين على الصمود والدفاع عن عاصمة الجمهورية.
وفي كتابات المؤرخين والذين عايشوا تلك الأحداث وشهدوها عن كثب وشاركوا فيها، أيضاح للكثير من الأسرار والوقائع التي تسود صفحاتهم. ويعترف أحد كبار قادتهم خلال السبعين يوما، في مذكراته المنشورة، وهو اللواء علي محمد صلاح، نائب رئيس الأركان العامة في عهد علي صالح، بأن أغلب الضباط والقادة التابعين لسلطة الإرياني والعمري آنذاك مع بدء الحصار تسلموا توجيهات من القاضي الإرياني، رئيس المجلس الجمهوري، بالانسحاب إلى تعز وإلى خارج البلاد، وأن يتخلوا عن مواقعهم في العاصمة، بعد أن فشل في إقناع الجمهوريين المتشددين بأن يسلموا العاصمة للملكيين والسعوديين. وكان المشروع المتواطئ بينهم آنذاك هو أن يقسموا اليمن إلى قسمين: قسم ملكي سعودي في صنعاء ومحافظات الشمال، وقسم جمهوري في تعز وحواليها، وقيام حكومتين ودويلتين تتفاهمان بينهما على استبعاد القوى الجمهورية المتشددة، كما يسمونها، وتصفيتها عسكريا من الدولة وطردها نحو الجنوب، بعد سيطرة الجبهة القومية على السلطة في الجنوب وتحقيق الاستقلال بقيادتها وهروب جماعة البعث والرابطة من هناك إلى الشمال والسعودية، حيث ترافق الحصار على العاصمة اليمنية مع نجاح الجبهة القومية في طرد الإنجليز من الجنوب وتحريره.
وقد وضع البعث نفسه منذ ذلك التاريخ في خدمة المشروع الاستعماري الجديد، وهو محاربة الجنوب وإسقاط حكومته الوطنية المتشددة ضد الرجعية السعودية والاستعمار الغربي (البريطاني والأمريكي) الذي اعتقد أن انتصار الوطنيين المتشددين في الجنوب هو خطر على الاستعمار الغربي الطامع في السيطرة على موقع الجنوب الاستراتيجي، المسيطر على البحرين الأحمر والعربي وخليج عدن وسقطرى والجزر الهامة جدا على مداخلهما. وكان هذا هو الدور الوظيفي التبعي الإمبريالي لنظام صنعاء الرجعي الانقلابي الدموي الخائن لقضايا الأمة والوطن والاستقلال والحرية، والذي أدخل بيديه ورجليه منظومات التبعية الأجنبية السعودية الأمريكية إلى اليمن ودافع عنها بالتأجير المالي المباشر. وقد ترسخت تلك التبعية في معاهدة العار الموقعة مع السعودية في جدة عام 70، والتي مازلنا نرسف تحت حديدها وقيودها الاستعبادية وأغلالها المهينة. وكان أداة تحقيق ذلك هو البعث العسكري اليميني وحلفــاؤه الإخـــوان والوهابيـــون والإقطـــاع القبلــي والكومبـــرادور التجاري الأجنبي.

تموضع استراتيجي كولونيالي للبعث العسكري وحلفائه
هذه هي خلفية أنظمة التبعية وقاعدتها وأساسها. وكان ذلك التموضع الاستراتيجي هو السبب الرئيسي في نجاح الانقلاب الدموي السعودي يوم 11 تشرين الأول/ أكتوبر 1977 ضد الشهيد إبراهيم الحمدي، وهو سر عجز الحمدي عن المبادرة إلى التغيير الحاسم واستباق الانقلاب المخطط والمدبر بين السعودية والبعث اليميني وحلفائه، وهو كان يعرف نوايا الانقلاب من مدة طويلة، وهو ما صرح به قادته بعد الأحداث، وهذا موثق في العديد من المذكرات. هذا هو السبب الرئيس الذي يفسر كيف انقلب عبدالله عبدالعالم على الحمدي في آخر لحظة، ولم يتحرك بالمظلات ليخرجهم من العاصمة، بالتفاهم مع الغشمي والسعودية عبر علي بن مسلم واستلامه أموالا سعودية كبيرة، كما ذكر أشقاء الشهيد الحمدي ومجاهد القهالي، وقيامه بإبلاغ الغشمي عن نوايا الانقلابيين الثوريين الجدد ضد الغشمي، وإفشاله الانقلاب المخطط قبل قيامه. وقد كانت قوات المظلات ذات الأكثرية اليسارية الثورية الوطنية ستقوم بالدور الرئيسي فيه من مواقعها المسيطرة في شرق العاصمة، وسوف تنضم إليها اللواء الخامس في عمران والشرطة العسكرية واللواء الثاني مدفعية وألوية قوات العمالقة في ذمار من غرب وجنوب العاصمة.
وهذا يفسر لنا كل ما وقع من أحداث غريبة عجيبة في تعز والحجرية خلال وجود عبدالعالم هناك بعد وصوله إليها من صنعاء مع المظلات وإرسالها إلى الجنوب بعد ذلك لإبعادها عن ساحة المعركة الرئيسية في العاصمة، بعدما كانت تقلق وتخيف الغشمي والسعودية أكثر من أي خطر آخر بعد انقلابهم على الحمدي، ولذلك جاء من السعودية مندوب ملكي يحمل الأموال بطائرة خاصة، وهو الأمير علي بن مسلم، مدير مكتب الأمير سلطان بن عبدالعزيز، رئيس اللجنة الخاصة، المسيطرة على اليمن سعودياً، وعقد صفقة صلح سري بين عبدالعالم والغشمي قبل خروج المظلات وعبدالله عبدالعالم إلى الحجرية.
هذه المراجعات تجيب لنا على الأسئلة المحورية الكبرى التي أحاطت بانهيار محاولات الشهيد الحمدي النهوض باليمن، وتدمير مشروعاته الإصلاحية، وتجيب على السؤال الكارثي: كيف أمكن للقوى الرجعية أن تحقق انقلاباتها المتكررة تلك، خاصة ضد الشهيد الحمدي، الذي كان يبدو أنه كان يُحكم قبضته على السلطة ومفاصلها الرئيسية ويحظى بشعبية هائلة في المجتمع والدولة والجيش وبين مختلف أوساط الرأي العام اليمني؟!
لكن الحقيقة كما ظهرت بوضوح فيما بعد هي أن دولة الشهيد الحمدي كانت مخترقة من جانب أقرب العناصر البعثية اليمينية المدسوسة، التي كان يعتقد أنها تقف إلى صفه وإلى صف الوطن والنهضة والإصلاحات والتغيير، بينما هي في حقيقتها كانت تخفي ولاءها للأجهزة السعودية الأمريكية الإمبريالية المعادية.

كانت مأساة الشهيد الحمدي للأسف هي في طبيعته الحسنة النوايا الزائدة عن الحد، وفي اعتقاداته الخاطئة عند تقييم الأفراد والقيادات التي اعتقد أنها موالية ومخلصة له، وهي التي كانت في حقيقتها توالي الرجعية السعودية والأمريكية وتبيع ولاءها لمن يدفع قبل كل شيء، والسعودية كانت الأقدر على الدفع والإغراء والإغواء والإفساد.
وكان الشهيد الحمدي شخصية مسالمة ووسطية وإصلاحية تتجنب الحلول الجذرية وترضى بالحلول الوسطية مع الخصوم والأعداء، ويعتقد أن الآخرين لا بد أن يكونوا مثله، ولذلك راح بقدميه إلى كمين الجريمة بدون حتى حراس مرافقين، وكان لو تأخر قليلاً في بيته لوصله عدد من الضباط الوطنيين الشرفاء لتحذيره مما يرتب له في بيت الغشمي؛ ولكنهم وصلوا بعد دقائق معدودات فقط من مغادرته إلى بيت الغشمي.
وكان الحمدي يفتقر إلى روح الانضباط الأمني والعسكري، فهو لو رفع السماعة من بيته للاتصال بحراسته وهم بالقرب منه، أو لو سأل عنهم أو رفع السماعة واتصل إلى أقرب قادته، وهو الرائد علي قناف زهرة، قائد اللواء المدرع، الموالي له وصهره ونصيره، لعرف أنهم قد اغتيلوا غدرا الليلة السابقة للانقلاب، ولعرف أن أخاه قد اغتيل صبيحة يوم الانقلاب 11 تشرين الأول/ أكتوبر 1977، ولعرف أن قائد حراسته، المقدم عبدالله الشمسي، كان قد اختُطف ثم اغتيل في منتصف ليلة الانقلاب. كل هذه المعلومات كان مفترضا أن تكون عنده وعند رئيس حراسة منزله كرئيس جمهورية، وعند مسؤول عملياته ومدير مكتبه كقائد أعلى وعام للقوات المسلحة ومسؤول أمنه ومخابراته الخاصة، ولا بد أن يسرب إليه أحد تلك الأجهزة العديدة المرتبطة به مباشرة، وأي من هذه الجهات والمصادر المعلوماتية والأمنية لو أنها وصلت إليه كانت كفيلة بأن تحذره فورا ولبادر لمعرفة أخبارها وما عندها من علوم وعدم إقدامه على أي خطوة قبل معرفة الموقف، خاصة وأنه كان عنده إنذارات كثيرة مسبقة حول تحركات الغشمي العسكرية وانقلابه وتوزيع القيادات وصرف الأموال الكثيرة للضباط الموالين له والقيام بتعيينات للضباط الموالين له وحده، وكلها تشير إلى مراميه القادمة لأي مراقب للأحداث. وكانت هناك بلاغات متكررة من القوى الوطنية المتعاطفة مع الحمدي ومن العناصر القريبة منه تحذره من تحركات الغشمي الأخيرة، ومع ذلك لم يأخذها بجدية، بل أحيانا كان يسيء تفسيرها ويخوِّن نواياها، ليقع في سوء تقديره للأحداث والأفراد والشخصيات والدول السلطوية المحيطة به، وعدم إدراكه طبيعة المؤامرات المترصدة له، ووعيه القاصر لما يحيط به من مخاطر واقعية، وهذا يشير إلى واقع القيادة ومستواها وحنكتها.
ومثال ذلك ما أوردته قيادات عسكرية عديدة وسياسية رفيعة من أنصاره من معلومات هامة فحواها أنه كان قد تعرض لمحاولات اغتيال سابقة من المخابرات والسعودية ووكلائها المحليين، وتم اعتقال المنفذين واعترفوا، بمن فيهم الدافع والمحرض والممول، وكان أبرزهم الشيخ أبو شوارب والشيخ ابن الأحمر؛ ولكنه بادر إلى إطلاق سراح المجرمين دون أن يتخذ أية إجراءات أمنية وقانونية تردعهم ومن خلفهم، وهو ما شجع العناصر الخيانية في الدائرة المحيطة به على أن تتحرك بدون خوف أو قلق من العقاب؛ لأن التصرفات السابقة أوصلت لهم رسالة ورسائل بأن الطريق للمؤامرة مفتوح، وأن الرئيس الحمدي مشلول الإرادة ومنكسر العزم وعاجز عن اتخاذ أي خطوات حازمة تردع المتآمرين، وهو التصرف الذي يصعب أحيانا تفسيره؛ لأنه متناقض منطقيا وواقعيا، فهو يقبل التفسير الواحد وعكسه في الوقت نفسه.
فرجل الدولة، أي رجل دولة، سواء كانت جمهورية أم ملكية تقليدية عتيقة أم حديثة لبيرالية أو ثورية أو إصلاحية، أياً كانت الدولة التي يمثلها، تفرض بالضرورة سلوكا وتصرفات وإجراءات موضوعية حتمية وقواعد وأعرافا ثابتة لا بد أن يسلكها للدفاع عن سلطته ودولته وحكمه، وأن يكون جاهزا لكي يخوض الصراع من أجل قمع خصومه وأعدائه في أي لحظة تصل إليه المعلومات المؤكدة عن نوايا الخصوم للتحرك المعادي.
والمؤكد الآن أنه لم تكن المؤامرة مفاجئة، ولم تكن بدون مقدمات ومؤشرات مسبقة، بل على العكس، كانت كل المقدمات والمؤشرات من الوضوح إلى الحد الذي لم يبق سوى معرفة موعد الانقلاب بالدقيقة فقط. أما الانقلاب ذاته والمؤامرة فكانا معروفين للحمدي نفسه ولأركانه وللقوى الوطنية الصديقة له، والتي حذّرته مرارا وتكرارا، من واقع ما يصل إليها من قبل أعضائها وأنصارها في الأجهزة الحكومية العسكرية والأمنية والسياسية للدولة. وما هو مؤكد الآن أن ضباطا شرفاء عديدين وصلوا إلى الحمدي وقابلوه قبل الأحداث بفترة كافية، ومنهم الشهيد زيد الشامي، الذي كشف للحمدي أن الغشمي كان قد اتصل به وأنه طرح له أن ينضم إليه في انقلاب قادم يعده سريا.
ولكن الشهيد الحمدي بدلا من أن يحتفظ بالمعلومات لنفسه ويتأكد منها دون أن يعرفها الطرف المعني بالتآمر راح يطرح للغشمي المعلومة ويستفسره عن مدى صحتها، بحضور المحذر، فأجاب الغشمي بالقول بأن "هذه يا فندم مؤامرة هاشمية ضدنا لكي نتقاتل ونتمزق وينفتح المجال أمام الهاشميين للسيطرة على السلطة"! وأظهر الغشمي الكثير من الخضوع والانضباط الصوري والخنوع والاستعطاف المتصنع لاستدرار عطف الرئيس الحمدي المستهدف، فصدق كلام الغشمي واعتذاره، ومنحه مزيدا من الثقة وألقى التحذير جانبا.
وكانت النتيجة أن الغشمي، وسريا، قام باعتقال زيد الشامي واغتياله مباشرة بعد الحدث، وأشاع أنه حاول اغتياله في مبنى القيادة العامة. إنها فاجعة بحق ألمت باليمنيين والعرب؛ لكنها لم تكن محتمة بأي شكل من الأشكال، وقبل ذلك هي تشير إلى الخلل الكامن في شخصيات القيادات التي تولت قيادة النهضة الإصلاحية ذات المنحى البرجوازي البيروقراطي العسكري المرتبطة بالكمبرادور وبالغرب وبالسعودية.
كان الحمدي مثالا للشخصية النهضوية قصيرة النظر حسنة النوايا والساذجة سياسيا واستراتيجيا وجيوسياسيا، فكيف تتخيل أنها يمكن أن تحقق نهضة، ولو متواضعة ومحدودة، في ظل سيطرة النفوذ الأجنبي الاستعماري المكشوف؟! فقد كان اليمن واقعاً تحت النفوذ الإمبريالي السعودي الأمريكي المكشوف منذ الستينيات، وهو عندما جاء إلى الحكم جاء بعون سعودي/ أحمري معروف. كان هدف السعودية هو التخلص من نظام القاضي الإرياني/ العيني؛ لأنه كان قد وقع اتفاقية الوحدة اليمنية مع الجنوب اليساري المعادي للغرب والذي تعاديه السعودية بعد حرب الأشقاء في 1972 التي مولتها وحرضت عليها السعودية وحلفاؤها؛ لكنها انهزمت وخسرت الحرب العدوانية ضد الجنوب، فأقدم الإرياني على توقيع اتفاقية الوحدة لالتقاط أنفاسه وإعادة بناء قواته التي منيت بضربات وبخسائر كبيرة وحلت بها الهزيمة.

عندما خسرت السعودية حربها العدوانية ضد الجنوب عام 1972 أوعزت إلى حلفائها ووكلائها أن ينقلبوا على الإرياني ويأتوا بنظام آخر موالٍ لها، فوقع الاختيار على العقيد إبراهيم الحمدي، للتعاون معه، وهو الذي كان طامحا إلى السلطة والإصلاحات. واعتقدت المملكة أنها تستطيع السيطرة عليه لينجز المقدمات التي تؤدي إلى الانتقال إلى مرحلة تالية بعده تصير السلطة إلى المؤسسات القبلية العسكرية بعودة مجلس الشورى بقيادة الشيخ الأحمر وجماعته، بعد أن رصت للحمدي طاقما من 15 قائدا عسكريا بعثيا وإخوانيا مواليا لها، كان عليهم أن يكسروا إرادة الحمدي ويشلوا حركته وعزمه ويخربوا كل تحرك لا يخدم سيطرتها التي يمسك بكافة خيوطها الملحق العسكري السعودي في صنعاء والأمير سلطان ولجنته الخاصة والسفارتان السعودية والأمريكية في صنعاء.
لكن الحمدي -للأسف!- لم يفهم قواعد اللعبة التي تدور حوله ومترتباتها، ولم يعمل بمقتضياتها، أي مقتضى المعرفة. كما لم يستجمع الإرادة الكافية والصلبة. وقد قرر السير نحو التغيير والوحدة والإصلاحات والاستقلال. وكان طيبا تستهويه الشعارات والتحايا والعواطف الإيجابية والشعبية، ويصدق أعداءه بسهولة، وكانت تلك أخطر نقاط ضعفه، فقد ظل الغشمي يحضر انقلابه تحت نظره، وهو يحسن الظن به ولا يصدق التحذيرات منه، وفي لحظات ربما اعتقد أنه صديق عمره المخلص كما كان عبد الناصر وعبد الحكيم عامر.

القيادة المأمولة
لا نهضة ولا استقلال ولا حرية ولا تقدم بدون القيادة القادرة على إنجاز المهمة التاريخية. وليس أي قيادة تكون قادرة على إنجاز المهام التاريخية إلا إذا كانت أرفع من تحدياتها في جميع مستوياتها. ورب قضية كبرى هُزمت لأن قيادتها كانت أقل من مستوى التحدي الماثل أمامها. ولا تأتي شرعية القيادة من الأسبقية في شغل موقع ومقام القيادة من حيث الزمن والمبادرة أو من حيث الإرث والحسب والنسب الاجتماعيين فقط، فهذا طيب؛ ولكنه لا يكفي وحده، ورب قيادة كانت الأولى من حيث المبادرة للقيادة والأصل والإرث كانت الأفضل حسبا ونسبا ومشروعية عامة، ولكنها كانت أقل من مستوى التحديات التي واجهتها فهُزمت وهُزمت معها القضية الوطنية وتأخرت الحرية والاستقلال والنهضة لعقود وقرون، ففي ظروف الاحتلال والهيمنة الأجنبية والمصائب الاجتماعية والقومية يتراجع العديد من المقاييس السابقة المناسبة لظروف السلام والحياة العادية. أما الآن والبلاد قد وقعت تحت الهيمنة الأجنبية، والوقت وقت حرب وكفاح وصراعات، فإن ذلك يسقط الكثير من مقاييس المشروعيات السابقة، ويفرض مقاييس جديدة هي مقاييس الحرب والكفاح والضرورات التاريخية الواجبة، "وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"، كما يقول المشرعون.
إن مشروعية الحق يقابلها ضرورة أداء الواجب والقيام بحقها وحمايتها من الاغتصاب والاستباحة والاحتلال. وكثيرا ما يلجأ المستعمر إلى اللعب بقضية الشرعية الحاكمة وحقها وإرثها ونسبها وحسبها إذا كانت قريبة منه ومن أهدافه، وإذا كانت ضعيفة وخاملة وفقيرة الهمة خوافة هيابة كثيرة التردد والتراجع أمام التحديات والمصاعب، فنجده يحرص على بقائها على رأس القوى الوطنية الاستقلالية، ليس احتراما لشخوصها وإنما استصغارا لشأنها وعدم الخوف منها، وسهولة السيطرة عليها وتوظيفها لصالح أهدافه الشريرة، وعرقلة مسيرة الاستقلال الوطني، كما حدث في الكثير من البلاد العربية والإسلامية، في تونس والمغرب والأردن والعراق والسودان والجزائر ومصر والحجاز ونجد والهند وإندونيسيا وليبيا... وغيرها.

مصدر الشرعية هو الشعب الثوري المظلوم
السلطة هي ملك الأمة والشعب، وبخاصة القسم الذي يحمل عن بقية الأمة الأكلاف والتضحيات وصون الأرض والعرض والاستقلال والحرية، حيث إن الأمة بشكل عام لا تستطيع في ظروف الحرب والاحتلال والتبعية أن تعبر بإرادتها الحرة والمستقلة عن أهدافها وأحلامها ورغباتها، حيث تكون في وضع الواقع تحت التبعية والقهر غير المالك حريته بعد، فينتقل الدور تلقائيا إلى النخبة الثورية الحرة من طلائعها نيابة عنها، وباسمها تبادر النخب الوطنية الثورية إلى تسنم قيادة أمتها في الكفاح ضد الاستبداد والطغيان والاحتلال والتبعية وكافة أشكال القهر، دون أن تستأذن أحدا ولا تطلب تكليفا رسميا، فهي تعتمد على المبادرة الذاتية والتطوع واستشعار الحقوق والغيرة الوطنية والإحساس بالكرامة القومية والعزة الإنسانية والدينية واستحضار القوة الكامنة في النفوس والقلوب والأرواح وتحشيدها في مواجهة الطغيان الأجنبي وعملائه.
وفي ظروف كتلك لا مجال للديمقراطية على الطريقة الغربية والانتخابات المستقلة الحقيقية التي تعبر عن رغبة الأمة والشعب؛ لأن السلطة تحت الهيمنة الأجنبية القاهرة، رغم أن المستعمر والطاغية والمهيمن يبادر إلى سلق انتخابات مزورة شكلا ومضمونا ليكسب شرعية زائفة لسلطته فاقدة المشروعية والمنطق والقبول، رغم مظاهر التصفيق والهتافات والأناشيد والدعاية الإعلامية والاحتفالات المظهرية وإنفاق المليارات من الأموال العامة. إن كثرة المصوتين ولو بلغوا الملايين والملايين من الناس لا يعطي الشرعية المطلوبة إذا كان أهم مقتضياتها مفقودا، أعني الاستقلال والحرية وزوال الهيمنة والتبعية الأجنبية والاستبداد.
وفي ظروف كهذه لا يمكن الحديث عن مشروعية لما يجري من قبل حكام البلاد التوابع والطغاة والمستبدين، فالشرعية مفقودة ابتداء، وما بني على باطل فهو باطل، والباطل هو الإكراه والتزييف والتزوير والمال السياسي والرشوة والفساد والإغراء والإغواء والترهيب والترغيب والقهر واستلاب إرادة الناس. وقد شهدنا انتخابات كثيرة في البلاد المحتلة والتابعة والواقعة تحت الهيمنة الأجنبية والطغيانية، وفي بلادنا العربية واليمنية، رأينا طوال 40 عاما حملات انتخابية تهرق فيها المليارات من الدولارات لشراء أصوات الناخبين البسطاء والعوام الذين يسيرون خلف الذي يملك الأموال والمؤونة ويستطيع أن يمنحهم يوما واحدا من الاستقرار المالي الاقتصادي في ظل الفقر والبؤس الذي فرضوه على الناس، حتى أصبح الناس وبعضهم يبيع أولاده لكي يعيش بثمنهم بعض أيام من الشهر. وكان السعودي وأزلامه هم من يشترون أصوات الناس وأبناءهم من العصابات التي تخطفهم من الشوارع والقرى، وهناك عصابات كثيرة كانت تخطف وتورد للسعوديين الأبناء الصغار الذين يرغبون في استعبادهم منذ طفولتهم أسوة بالمماليك في مصر في القرون الماضية، وقد بلغ عدد الأطفال الذين يتم تهريبهم إلى السعودية سنويا أكثر من 10 آلاف طفل سنويا أيام حكم عفاش وجماعاته وحلفائه، وهذا كان جزءا من نظام التبعية السعودية، وكثير من هؤلاء المساكين يتم تجنيدهم للعمل ضد بلادهم فيما بعد، دون أن يدركوا هويتهم الأصلية بعد أن يكونوا قد تعرضوا لغسيل أدمغة مكثف.

كان الذين يملكون الأموال هم حلفاء ووكلاء السعودية ورجالها وعملاءها وقواها في الداخل اليمني، وكانوا بالطريقة تلك يسيطرون على نتائج الانتخابات الصندوقية ببساطة وسهولة، ولا يستطيع أن ينافسهم أحد في نيل المراتب والمواقع والنفوذ والإدارة والمناصب السياسية والإدارية العليا في الدولة "الصالحية الأحمرية"، وهي قصة طويلة تستحق البحث فيها طويلا وعميقا؛ ولكن الآن نحن نمر عليها سريعا، فالمهم هو توضيح قصة الديمقراطية الصندوقية التي ظل يتباهى بها عفاش وعلي محسن وزبانيتهما، وحميد الأحمر مازال لم ينسَ أبدا أن يذكرنا بإعجازية "صندقته" المهيبة التي تحولت إلى عشرات الملديارات من الدولارات خلال سنوات قليلة، بفضل جهاد "الصندقة الحميدية"، وكان يريد أن يغطي بغربال ما كشفته الشمس؛ ولكن الغربال يظل غربالا، مهما تغيرت أسماؤه وصفاته وألبسته أثوابا مهيبة.
في أحد مؤتمرات وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، كونداليزا رايس، في القاهرة، قاطعها أحد المشاركين قائلا لها: "أنتم الأمريكيين تخليتم عن ثورة 25 يناير في مصر". فردّت عليه فورا: "ولكن مَن الذي صنع ثورة 25 يناير أصلا؟! أليس نحن الأمريكيين؟!".
ويقول الرئيس الأمريكي السابق أوباما أمام الكونجرس الأمريكي: "نحن أعطينا الإخوان في مصر من عشرة إلى عشرين مليار دولار للفوز في انتخابات مصر وثورتها الملونة عام 2011".
ويقول أحمد أبو الغيط، وزير الخارجية المصري السابق في عهد مبارك، في مذكراته المنشورة، إن جورج بوش الابن زار مصر عام 2004، وقابل الرئيس مبارك، وبحضوره قال له صراحة: "من الآن نحن نراهن على الإخوان وحكمهم لإنجاز ما لم تستطيعوا أنتم أن تعملوه، وقد التزم لنا الإخوان بأنهم سوف ينجزون ما يُطلب منهم من أهداف أمريكية إسرائيلية مشتركة، ونحن سوف ندعمهم للفوز في جميع البلاد العربية والإسلامية، فلا تعترضوا ولا تعرقلوا أنشطة صناديقهم وشركاتهم للفوز في مجلس الشعب والحكومة". وقد علق الرئيس مبارك على ذلك الكلام بأن الأمريكيين قد فقدوا عقولهم.
ومن ذلك الوقت كان الإخوان ينطلقون في حملة استراتيجية للصعود إلى الحكم في الشرق الوسط كله، ولم يكن هناك مانع عند أوباما أن يكون مجلس خلافة إسلاموي إخواني عثماني الشكل أيضا لمزيد من التمويه على هذا التعاون الاستعماري المشترك بين الإخوان والأمريكان. وقد عين أوباما مستشارا سياسيا لشؤون الخلافة الإسلامية في عهده، ويمكن الرجوع إلى وثائق تلك الواقعة الشهيرة، وقد عاش مبارك بعدها مرحلة من الإحساس بالضياع في مصر، هل هو من يحكم فعلا؟ أم هو مجرد موظف صغير لدى الأمريكان في الواقع؟!
وقد قال الموظف الكبير في مكتب مبارك، اللواء جمال البنا، في مقابلاته مع الإعلام: "الحقيقة هي أن مبارك وغيره لم يكونوا سوى صور وديكورات لحكم مصر، مثل غيرهم في المنطقة"، فالقرارات الهامة، كالتحكم بالجيش والترقيات العسكرية الكبرى وتحريك الرتب العليا للجيش والقوات المسلحة المصرية، لا تتم إلا بعد استشارة القيادة الأمريكية، الموجودة في العاصمة الأمريكية والتي في المناطق الإقليمية، ولم يكن مبارك أو مَن قبله يملكون كامل السلطة في الدولة المصرية، وإنما هي شراكة بين الداخل والخارج، بين الرئيس المحلي الواجهة وحزبه وبين الأمريكيين ومؤسساتهم وقياداتهم وسفاراتهم وملحقياتهم العسكرية التي تدير هي الشؤون الاستراتيجية العسكرية والأمنية، ولذلك لم تظهر هيمنته على قيادة الجيش المصري ووحداته كلها، بما فيها الحرس الجمهوري، الذي نظريا يؤمن حماية الرئيس والحكومة والمباني السيادية للحكم القائم ما دام هو متوافقا مع القيادة الأمريكية تحديدا.
فالقيادة العليا للجيش والقوات والأمن في الظروف الطارئة والثورات والحراكات الشعبية والتمردات والأزمات يوقفون ارتباطاتهم بالرئيس والقائد الأعلى للقوات المسلحة إداريا، ويتسلمون التوجيهات من القائد العام وحده، حسب لوائح كتبت سلفا ضمن توجيهات أمريكية عليا مفهومة من الرئيس نفسه من قبل أن يصير رئيسا وبعده، وهو بدوره يتسلم التوجيهات العامة من الخبراء الأمريكيين المسؤولين عن الجيش المصري استراتيجيا والمشرفين عليه، ولذلك يدفعون المعونة الاستراتيجية الأمريكية البالغة أكثر من أربعة مليارات دولار سنويا.
كما أن إيصال مبارك إلى موقع نائب للرئيس السادات كان بضغط أمريكي مباشر على السادات وترفيعه للأعلى، ويرجع إلى المؤرخات الخاصة بتلك الحقبة الهامة التي أعقبت مرحلة "كامب ديفيد" واحتراق السادات سياسيا وأخلاقيا في العالم العربي والإسلامي، واستثارت سياساته سخط الشعوب العربية والإسلامية والشعب المصري، بما قدمه من تنازلات تفريطا بالحقوق العربية والمصرية، مما استوجب سحبه إلى المخازن للاستيداع؛ لكنه رفض الامتثال السريع للأمريكيين، الذين طلبوا إليه أن يرجع إلى المقاعد الخلفية للسياسة ويترك الواجهة السلطوية لمبارك وللجنرالات العسكريين؛ لكنه أبى ذلك وأراد مواصلة تسيد المشهد السياسي في مصر بعد أن أثار عليه ثورة غضب شعبي واسعة ونقمة جماهيرية وعربية إسلامية هائلة تنذر بخطر ثورة اكتساحية تغطي مصر والنفوذ الأمريكي الصهيوني المحقق فيها، ولذلك أوعزت لأجهزة الإرهاب تصفيته واغتياله، بهدف إغلاق صفحته ومرحلته، وتقديم الجنرالات الذين ربتهم في كلياتها للحكم نيابة عنها، وبشكل أقوى يخلق الوهم عند الناس الغاضبين بأنهم سيقدمون الكثير من المعالجات للكثير من المشكلات الاقتصادية التي تعيشها مصر ومازالت.
وبعد أن حكم مبارك وأولاده وزوجته قرابة أربعين عاما، كانت مصر قريبة من ثورة شعبية حقيقية جديدة، لذلك سارعت إلى تنظيم حركة شعبوية تابعة ملونة إخوانية لقطع الطريق على القوى الوطنية الحقيقية ومنعها من أن تصنع ثورة حقيقية مصرية، وذلك عبر المنظمات والأموال والمساعدات والصناديق والنقابات والاتحادات النقابية والجماهيرية والقضائية والثقافية والدنيوية.
ونسمع كلاما كثيرا من إعلام البلاد الخليجية الرجعية المطلقة الاستبداد العائلية السلفية الوهابية المؤمركة عن أنها كانت غاضبة من أمريكا لأنها تخلت عن مبارك وسلمته للثورة الشعبوية والإخوانية؛ لأنها رأت أن هذا هو نذير شؤم بالنسبة لها، ولما يمكن أن يجري في بلادها التابعة لأمريكا و"إسرائيل".
وهذا كلام فارغ، فأمريكا هي التي صعدتهم أولا، وهي التي أسقطتهم بعدها بانقلاب السيسي وثورته الجديدة التي كانت أكثر إبهارا وتلوينا من ثورة الإخوان السابقة، والذين أدوا دورهم المحدد، وما إن فشلوا في الحفاظ على الحكم ومتابعة الدور المرسوم لهم في الاستراتيجية الأمريكية الصهيونية انقلبت ضدهم.

فشل الإخوان في مصر في الحفاظ على الحكم ومتابعة الدور المرسوم لهم في الاستراتيجية الأمريكية الصهيونية، ما دفع الولايات المتحدة إلى التقدم نحو صدارة المشهد لتعدله بأسرع وقت قبل تفاقم الأحداث وخروجها عن السيطرة الأمريكية، لذلك لجأت من جديد إلى قواتها الاحتياطية الأساسية في مصر، وهم الجنرالات، وهو ما ظهر في التحقيقات التي أجراها الكونجرس الأمريكي بعد الأحداث، وما أفصحت عنه مذكرات أوباما وبوش وهيلاري كلينتون وكونداليزا رايس وأبو الغيط وغيرهم. ومثل هذا تجده في الأردن والمغرب والكويت والسعودية والإمارات والبحرين وقطر وليبيا وغيرها من بلاد التبعية الشرقية.
وإذا كانت السيطرة على بلد كمصر تتم عبر انقلاب عسكري كامل، فإن التغيير في تلك الممالك الحزينة يتم عبر طريقة أسهل، وهي مجرد ضغطة زر في تلفون من أقرب سفارة غربية.

اللعبة الغربية للديمقراطية
الغرب مهووس جدا باللعبة الديمقراطية، ليس حباً في الحرية والديمقراطية الحقيقية أبداً، وإنما لأنها في الغرب وتوابعه أفضل وسيلة لخداع الشعوب، فهي مسرحية يعاد تكرارها كل يوم أمام جمهور المسرح الشعبي السياسي، العوام المفتونين بالنظام الذي يسمح لهم بالوصول إلى كل المحرمات الإنسانية الغرائزية بدون عائق أو مانع أو مقدس، إذ يقولون للإنسان المضلل هناك: افعل ما تشاء بنفسك وبجسدك وبروحك، فأنت حُر، المهم ألا تقترب من الحقيقة السياسية الاجتماعية الواقعية. وما دام ذلك يضاعف استغفال الشعوب وتتويهها جرياً وراء الملذات والمتع الحسية الحرام فلا بأس، فالحكومة تضمن لك الحق كل الحق في متابعة السير على طريق جهنم، ذلك حقك، وما دام ذلك يصرفك عن الاهتمام بالقضايا العامة فإن ذلك أمر حسن.
إنها تعلم سلفا من الفائز في أي انتخابات قادمة، فكلما ارتفعت التكاليف الإعلامية والرشوية وتوسعت، كان ذلك أضمن لتحقيق خطة الحكومة المسيطرة العميقة في الدول الرأسمالية الاحتكارية. إن أصحاب المليارات وحدهم يستطيعون المشاركة الإيجابية في انتخابات كتلك التي نراها في الغرب ومستعمراتها الهجينة وتوابعها.

"ديمقراطية الهيمنة" في ظل الأجنبي والاستبداد لا تحقق الشرعية
مناط القياس هنا ليس ما إذا كانت انتخابات نزيهة أو مزورة؛ فالمستعمر والطاغية قادران على إنتاج انتخابات نزيهة الشكل راقية الملمس أنيقة تتحدث عنها وعن نزاهتها الركبان ومراقبو الأمم المتحدة، فيقال شهدت بنزاهتها اللجان الدولية والأجهزة القانونية وحقوق الإنسان؛ وهذه نكتة مضحكة جدا تكررها الدول الإمبريالية في كل مكان، وها هي "إسرائيل" تنظم أفضل الانتخابات الدورية البرلمانية والحكومية بانتظام وتحت مراقبة لجان الشفافية والرقابة والحوسبة والحوكمة؛ ولكن هل هي شرعية رغم ذلك؟! لا وألف لا؛ لأنها بنيت على كيان باطل الشرعية من الأساس، يهيمن على ما لا يملك وعلى ما نهبه وعلى قرون من الطغيان والاستباحة والإجرام. ولا يحتاج الأمر إلى مزيد تفصيل لنفهم الحقيقة الواقعية، فهي واضحة وبسيطة مباشرة. وهذه واضحة لأن سيد الدار والبلاد لا يملك إرادته ولا حريته ولا أرضه ولا ثرواته، والناخب والمنتخب أغراب عن الأرض.
واللعبة الديمقراطية والانتخابية الغربية هي أسلوب من أساليب السيطرة الغربية الاستعمارية، وليست مفتوحة على مصاريعها كما يتخيل بعض السذج. كما لا تمنح لكل الشعوب إلا بحساب دقيق للنتائج الناجمة عن عمليات الفرز والاقتراع وفقا لحسابات مسبقة تسبق الأحداث تبني على النتيجة المتوقعة مقتضاها. وهناك أناس مهووسون باللعبة الانتخابية الغربية، يتصورون بسذاجتهم أنها بريئة ونزيهة فعلا، والحقيقة أنه ليس هناك الآن ديمقراطيات مفتوحة حقيقية في الواقع خارج الشكل الديكوري المعد بعناية احترافية. ومثال ذلك ما يعرف بالهندسة الانتخابية المتحكمة بالنتائج سلفا، ومنها مراكز القياس والبحث والتوقع والحسابات والتحكم بالتمويلات وحجم الإنفاق الانتخابي ومراكز السيطرة على الرأي العام وعلى العقول وغسيل الأدمغة السياسية... وكل هذه أجهزة ووسائل فعالة للسيطرة على النتائج الانتخابية وفقا للخارطة المحددة سلفا من قبل نخبة السيطرة والحكم والمال والاحتكارات والأوليجارشيات.

القواعد الذهبية للفوز
أهم القواعد التي تحقق السيطرة المسبقة على النتائج الانتخابية وتحديدها، هي:
- قاعدة المال والتمويلات والإنفاق وحجمها وحدها الأدنى. وهذه تحدد سلفا من خلال القوانين والتشريعات التي تؤدي للأهداف. ومثال ذلك ما ينص عليه القانون الأمريكي الانتخابي من شرط تقديم ما يثبت أن الناخب والمرشح من المالكين لثروة معينة مؤكدة، أي أنهم ينتمون إلى الطبقة المعينة إياها، وإلا مُنع منهم الحق في الانتخاب والتصويت والترشيح والترشح.
* قاعدة الاحتكار الاجتماعي: ألا يسمح للفئات المعينة من السكان الأصليين أصحاب الأرض، أي الهنود الحمر والزنوج والمحرومين، حيث ينص الدستور الأمريكي بصراحة على أن الحقوق الدستورية لا تشملهم.

قواعد عملية
وهناك أساليب عملية إجرامية تضمن النتائج سلفا، ومنها على سبيل المثال أن ملاك المصانع والأعمال والمتحكمين بأرزاق مائة مليون عامل، يجبرونهم اقتصاديا على بيع أصواتهم للملاك ليبقوا في الاستخدام والوظيفة، وإلا حرموا منها ورموا بين العاطلين والمشردين.
وهناك قواعد عملية كثيرة لنهب أصوات الملايين من المحرومين والضعفاء وعددهم كبير جداً، ومنها شراء الأصوات مباشرة بمبالغ معينة لكل صوت بين العاطلين والمشردين والفقراء والمهاجرين، وهم كثيرو العدد بين السكان المهمشين يصلون إلى عشرات الملايين.

الإرهاب والانتخاب
استخدام المنظمات الإجرامية لتصفية الميدان من المنافسين الانتخابيين عملية معترف بها في الحياة الغربية الأمريكية وتتكرر باستمرار. وهذه المهام (القذرة) تقوم بها المنظمات المافيوية الإجرامية السرية وشبه السرية المنتشرة في الولايات المتحدة والغرب خدمة لأصحاب الأعمال والاحتكارات والسياسيين المحترفين مقابل أجور أو خدمات متبادلة أو تعاونية.
وتقوم دوائر الدولة العميقة السرية في المخابرات والتجسس والتخريب عبر تلك المنظمات المستأجرة للخدمات الخاصة السرية الإجرامية، بتصفية المنافسين الخطرين سياسيا، والذين لا يمكن السيطرة عليهم أخلاقيا وسياسيا، من ذوي المبادئ والمناضلين والمعارضين ذوي النفوذ والسمعة والشهرة، بالتآمر سرا لاغتيالهم وتغطية آثار الجرائم.
وتعتبر المعتقلات والسجون حيث ينزل آلاف المحكومين بجرائم كبيرة جنائية وخطيرة مراكز مناسبة للمساومات وعقد الصفقات السياسية الخاصة والانتخابية والاغتيالية والإجرامية عبر عملاء محنكين ووسطاء وخبراء.

قاعدة ضمان فوز صاحب الرشوة الأكبر
أي أن يضمن للأكثر فسادا والأكثر قدرة على شراء الضمائر حتمية الفوز. لقد أضحت الانتخابات الغربية وأشباهها لعبة الأغنياء والمترفين في وجه الفقراء والمستضعفين، يستغلونهم بوسائل شتى وأساليب كثيرة، وهي سلاح بتار قاطع يقمعون به صوت كل معارض وحر.

الشرعية والاحتلال والهيمنة
إن شرعية القيادة الوطنية في ظل الاحتــلال والهيمنــة والاســـتبداد والدكتاوتورية تأتي من ميادين الكفاح من أجل الحرية والاستقلال، وهذا هو المبدأ العام في كل الأمم والشعوب والأحوال؛ لأن الشرعية القديمة تكون قد انتهت عند سقوط البلاد تحت الهيمنة الأجنبية، وعدم قيام الحاكم الشرعي السابق بواجبه الكفاحي والمقاومة ضد الهيمنة والاحتلال وعدم رفعه السلاح في وجه الغازي والمحتل والغاصب أو الظالم المستولي على السلطة بدعم الأجنبي وزبانيته أو بدونها، طالما أنه مغتصب بالقوة للحكم، حسب القاعدة الشرعية الدستورية والقانونية الإنسانية التي تقول: "ما قام على باطل فهو باطل"، وهذه قاعدة قانونية ثابتة في جميع الثقافات والحضارات المتمدنة، وهي واضحة في عقيدتنا وثقافتنا وثابتة من الثوابت.
عندئذ تسقط الشرعية أتوماتيكياً وتلقائيا عن الحاكم القديم المعتني بقيادة المقاومة والثورة ضد الغازي والمحتل أو المهيمن ولو بشكل غير مباشر، فعندما يرتب الاستعمار القديم أو الجديد السعودي أو الوهابي أو غيره انقلابا ضد الشرعية السابقة، ويجلس عميله وزلمته على كرسي السلطة ويغرقه بالأموال والمساعدات والأسلحة لترسيخ حوكمته، فإنه بذلك يرسخ حكمه هو وسيطرته وهيمنته هو بواسطة عبيده وعملائه وأتباع لجنته الخاصة، وهي الحاكم الفعلي الحقيقي، وكل شرعية تكون مسؤولة عن السكوت في مواجهة الهيمنة والغزو والانقلاب والتدخل ومن أباح لهم ومن ساعد عليه ومن استرزق منهم ومن صمت عليهم وتواطأ على أفعالهم، فالشرعية الحقيقية لا علاقة لها بجمهورية أو بملكية أو إمامية أو بغيرها، فذلك مجرد شكل سياسي، ورب شيخ قبيلة أو أمير تجمع قوم من البدو أكثر شرعية من أي رئيس جمهورية وأكثر وطنية، فالأصل في السلطة هو كفاحها ضد الأجنبي وضد الاحتلال والسيطرة وضد التدخل والطغيان والفساد، وهناك مظاهر وأمثلة تاريخية ساطعة على صحة هذا القول ولنا أمثلة كثيرة في تاريخنا وموروثنا.

رموز ثورية شعبية جديدة وشرعية جديدة
من هنا فإن الإمام يحيى حميد الدين، الحاكم التقليدي لليمن، لم ينجز الكثير من المشاريع الإنمائية والإصلاحية، لقلة ذات اليد؛ لكنه كان أكثر شرعية بآلاف آلاف الأضعاف من كثيرين من الجمهوريين التقدميين والقوميين واليساريين والوطنيين المعاصرين الذين سلموا مصير البلاد للاستعمار القديم الجديد وتمرغوا في ركابه بدون خجل أو حياء، بل تاجروا في التعاون مع الأجنبي، وكونوا ثروات حراما، باعوا له أراضي وأقاليم بكاملها من تراب الوطن، وهم ليل نهار يولولون بالجمهورية والشعبية والمساواة والاشتراكية والقومية والتقدمية، ويرددون أناشيدهم الحماسية الفارغة المجوفة التي ما أعادت ذرة واحدة من تراب الوطن العزيز؛ لأن الإمام يحيى حميد الدين كان حامي الديار والأرض والتراب اليمني، وحرره مع إخوانه من الفصائل الوطنية الشعبية تحت لوائه وقاتل وقاد حرب التحرير الوطنية الشعبية هو وأبوه من قبله طوال قرن تقريبا، بدون دعم من أي جهة أو أحد من الشرق والغرب.
يمكن في هذا السياق تذكر الملحمة الوطنية الثورية السورية الكبيرة في قيادة الثورة الكبرى، هو الأمير سلطان الأطرش، قائد الثورة السورية العام، الذي خاض مع عشيرته الفرسان بالسلاح الأبيض من جبل العرب السوري ملاحم التحرر ضد الاستعمار الفرنسي، ببضع مئات من الفرسان العرب السوريين، وكبد فرنسا الهزائم تلو الهزائم، حتى أجبرها ذليلة على الرحيل من سورية، بعد أن دمر أغلبية جيوشها الجرارة الحديثة. وكذلك البطل عمر المختار، قائد المقاومة الليبية لمدة عشرين عاما في وجه الغزاة الإيطاليين، حتى استشهد وهو رافع الرأس في وجه المحتل، وقد أوشك على تحقيق تحرير البلاد، الذي أكمله أحفاده الوطنيون القوميون الثوار الأحرار اللاحقون، بعد أن بذر هو البذرة الأولى للحرية وسقاها بدمائه ورفاقه الأحرار الثوار الميامين طوال عشرين عاما من القتال ضد الاحتلال الإيطالي الفاشي.
وكذلك البطل المجاهد الفلسطيني العربي الأصيل الشيخ عز الدين القسام، الذي أشعل وقاد ثورة الشعب العربي في فلسطين في الثلاثينيات ضد الاحتلال البريطاني والصهيوني، واستشهد ويده على الزناد في جبال نابلس، بعد أن خذله وخانه تجار الدين ومفتوهم آنذاك لقاء دريهمات معدودة من المستعمر البريطاني الصهيوني، الذي وهبهم ما وهبهم من امتيازات لحرف اتجاه الشعب عن الثورة الشعبية الحقيقية وإيقاعه في مستنقع الجهل والخداع والتضليل وخيانة الذات.
وكذلك البطل الأمير عبدالقادر الجزائري، قائد ثورة الجزائر الحرة، الذي قاد معارك التحرير في وجه الاستعمار الفرنسي طوال عقود. وكذلك البطل الزعيم عبدالقادر الخطابي، المعروف بـ"رئيس جمهورية الريف المغربي"، الذي تصدى للاستعمار الفرنسي والإسباني في وقت واحد وهزمهم في معارك كثيرة.
هولاء هم قادة الشعب الثائر، ولا شرعية أعلى من شرعيتهم أبدا. وأمامنا اليوم قيادات شعبية ثورية معروفة ولم ينتخبها أحد بالطريقة الرائدة الغربية والأمريكية؛ لكنها تحظى بالولاء والقبول من أغلبية الشعوب العربية والإسلامية والوطنية. وأبرزهم اليوم السيد القائد حسن نصر الله والسيد القائد عبدالملك الحوثي والشهيد القائد المؤسس حسين بدر الدين الحوثي. وهذا معروف ومشهود، وهذا أول أساسات الاستقلال والوطنية والحرية، أن تكون مستقلا في إرادتك وقراراتك واحتياجاتك، ولا تحتاج لأحد غير نفسك وشعبك ووطنك. وقد عرضت على الإمام يحيى الكثير من المساعدات المادية والعينية والمالية من أطراف معادية للأتراك والإنجليز خلال حرب التحرير، فرفضها باعتزاز وأنفة وكرامة وكبرياء وطني، وهذا مبدأ أساسي وديني وشرعي واستراتيجي لتحقيق الاستقلال والحرية، وليس هناك طريق آخر لتحقيق هذه الأهداف النبيلة، أهداف الحرية والاستقلال، سوى العزة والكرامة والحفاظ على العفة وتحمل المشاق والاعتماد على الشعب نفسه وشراكته في الميادين لتحرير نفسه بنفسه.
ومن كبار المصائب التي حلت بالشعب اليمني أن قادتهم المزورين المستنفعين أرادوا تحقيق الاستقلال والإصلاحات الزائفة عبر طريق غريب هو الاستعانة بالمستعمر نفسه. وللأسف فإن قوماً من الناس ادعوا الوطنية في الماضي القريب لم يكن عندهم ما يمنع أن يستعينوا بالاحتلال البريطاني والسعودي، وأن يفتحوا له البلاد ويسلموا له أقساما عزيزة منها في سبيل أن يصلوا هم إلى الحكم باسم الدستورية والحرية والديمقراطية والإصلاح والتغيير. وما زلنا نواجه إلى اليوم مثل هؤلاء الأدعياء الذين يغمضون أعينهم عن الأجنبي وعن الاحتلال والعدوان ويتحدثون عن الشرعية. وهل كان عفاش شرعيا؟! وهل كان الغشمي شرعيا؟! وهل كان هادي شرعيا؟! وهل كان صالح الهديان وأحمد السديري شرعيين؟! وما آيات وعلامات شرعيتهما؟! كل هؤلاء المذكورين كانوا من صناعة الأجنبي السعودي الأمريكي.

إذا راجعنا مذكرات الشيخ عبدالله الأحمر والشيخ سنان أبو لحوم، وكانا عمودَي الحُكم الذي أقيم بعد إبعاد الزعيم الجمهوري عبدالله السلال، وكانا أيضا قاعدتَي الانقلاب العسكري القَبَلي السعودي الأمريكي، فهما يعترفان صراحة بتلك الحقائق، وأنهما لم يكونا يستطيعان مخالفة أوامر وتوجيهات المملكة وسفيرها وملحقها العسكري، الذي كان يصل إلى كل بيت ومؤسسة يوميا لمتابعة أنشطة رجال الحكم وتصرفاتهم وسياساتهم، وكانا يصلان إلى مضارب قبائل الشيخين، دون أن يسأل أحد عن هذ التصرفات الصادرة من دولة أجنبية وممثليها وموظفيها، بل يعترف الكثيرون بأن صالح الهديان كان يداوم في مكتب خاص به في القيادة العامة للقوات المسلحة والأركان اليمنية، ومن هناك يصدر توجيهاته وأوامره حتى إلى رئيس الدولة نفسه
كان الحال هكذا طوال خمسين عاما، ويسمونها جمهورية وعسكرية ومستقلة، ويديرها ضابط أجنبي مسخ برتبة عقيد يعبث بمصيرها ومصير الملايين من الشعب اليمني المغدور، ويصطف له القادة الجمهوريون الكبار من رتب المشير والفريق واللواء ورؤساء مجالس القيادات العامة والعليا للقوات المسلحة اليمنية وقادة الوحدات والأجهزة السيادية للدولة اليمنية، صامتين طائعين خانعين مهانين أذلة يتسلمون الرواتب والعطايا من الأجنبي ويعطون التوجيهات والخطط والأهداف السياسية والعسكرية ويحدد لهم من يرأس ومن يقود ويدير ومن يحكم ومن يعزل ومن يبعد ومن يرفع...
أليس هذا هو واقع الحال الذي كان يخنق البلاد ويمتهن سيادتها وكرامتها وينتهك عرضها وشرفها وحريتها؟!
بل إن هذ المسخ الهديان كان ينظم الانقلابات العسكرية والسياسية ضد من لا تريده مملكته، ويعزل من يريد من الوزراء والرؤساء ورؤساء الحكومات ويحرك القوات والأسلحة اليمنية ضد يمنيين أحرار معارضين للهيمنة السعودية والأجنبية، وكان ينظم ويخطط ويحضر ولائم ذبح الرؤساء والقادة الذين لا ترضى عنهم المملكة الشيطانية ويشرف بنفسه عليها. أليس شيطان الأمس نفسه هو شيطان اليوم؟! وما الذي تغير؟! لا شيء، سوى الأحزمة والحقائب ولون العملة والأدوات!
لو راجعنا تاريخ وطبيعة نشاط القوى السياسية المتكونة في اليمن منذ الثلاثينيات سنجدها مصابة من البداية بأمراض الارتهان للأجنبي، البريطاني والسعودي الوهابي، وهذا واضح من تاريخ الإخوان المسلمين والوهابية والسلفية السعودية والأحزاب والجماعات التابعة الأخرى. والبداية كانت على أيدي مجموعتين خيانيتين تنتميان صورياً للمذهبين الزيدي والشافعي الوطنيين المتآخيين، مجموعتين استطاع المستعمر استقطابهما للعمل في خدمته مقابل رفعهما إلى سدة الحكم في اليمن، جنوبا وشمالا: مجموعة الوزير والزبيري والورتلاني في صنعاء، ومجموعة النعمان والجفري في الجنوب؛ وهما تشكلان مجموعة مشتركة كبرى على مستوى الشمال والجنوب، سموها "كتيبة اليمن" حين أسسوها في القاهرة أول مرة قبل العودة، على يد حسن البنا والسفارة البريطانية هناك. ولعبت المخابرات البريطانية في عدن والقاهرة والرياض معا الأدوار الأساسية في إعدادها سياسيا وأمنيا وتنظيميا وعسكريا وإرهابيا وإعلاميا للوصول إلى السلطة في صنعاء والتعاون مع السلطتين الاستعماريتين في عدن والرياض، اللتين وقفتا خلفها طوال تحركاتها خلال العقدين اللذين سبقا الانقلاب الدموي الإجرامي في صنعاء في الأربعينيات، وكل هذا وغيره كثير موثق في الوثائق والمؤرخات التي أرخت لتلك المرحلة الشاقة من تاريخنا.
كان العقل الوطني القديم الساذج مازال عاجزا عن التمييز بين الحق والباطل والأكاذيب، وعاجزا عن فهم معاني ومحتوى المعلومات والمعارف التي يحصل عليها، والتي تشير إلى تلك حقائق، فقد ظل مشدودا إلى أوهام كثيرة لا تفارقه ولا تبارحه بسهولة، وهي أوهام صنعتها عقود طويلة من الدعاية المزورة والثقافة المغلوطة.

بـث الوهــم
كانت مهمة أتباع الرجعية والاستعمار الأولى هي أن يقنعوا الناس بأن الرياض ولندن هما كعبتا الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والسُّنَّة الصحيحة، وأنهما لا يأتي منهما إلا الخير والحضارة والإخاء والدين والعروبة القومية والحق والقانون والإنصاف والتقدم، وأن ملكة بريطانيا وملوك بني سعود وملوك القاهرة الأتراك، جميعهم، من شجرة النبي، كما زعم العديد من كتابهم وأساتذتهم وأصدروا لهم أشجارا ومشجرات مزورة لا أساس لها.
فالوهم الأول كان هو الاعتقاد بأن الإنجليز والسعوديين في الرياض يدعمون اليمنيين "الأحرار" حبا وإحسانا وكرامة فيهم، ولا يطمعون فيهم ولا في أراضيهم ولا في استعمارهم ولا في ثرواتهم ومواقعهم وممراتهم الاستراتيجية البرية والبحرية والجوية. وفي تلك الفترة شنوا علينا وبلادنا الحرب التي أرادوا منها استقطاع أقسام من أراضينا في عسير ونجران وجيزان. ولما صمد والجيش والشعب اليمني بقيادته الوطنية اجتاحوا الحديدة بدعم شامل بريطاني أمريكي مشترك.
ولما تعسر عليهم تحقيق أهدافهم عبر الاشتباكات المسلحة لجؤوا إلى الغدر والخداع والمخابرات ومناوراتها والعملاء في الداخل ليفتحوا لهم الأبواب المغلقة. وهنا جاء دور "الوزير" وجماعاته في الداخل؛ داخل الحكم وداخل المجتمع والدولة، فقد كان "الوزيريون" الثلاثة يشغلون أخطر المواقع السياسية والإدارية في الدولة، فقد كان الأمير الكبير عبدالله الوزير هو نائب الإمام للشؤون السياسية والدولية والخارجية وكان أميرا على محافظة الحديدة وإقليم تهامة كله، وكان أخوه الأمير علي الوزير أمير إقليم تعز، وكان عبدالله الوزير (الصغير) زوج ابنة الإمام يحيى. وقد لعب هؤلاء الثلاثة أخطر الأدوار في غزو اليمن من الداخل والتحالف سرا وغدرا مع الدول العدوانية السعودية وبريطانيا والإخوان والوهابية، فقد أشارت المؤرخات بوضوح إلى أنهم قد غدروا باليمن وبقيادته خلال الحرب العدوانية، ومدوا أيديهم إلى أموال العدو السعودي البريطاني وخدموه بحماس، وقد أقنعوا الامام يحيى أن يعقد الصلح مع الملك السعودي ويسلم له نجران وعسير وجيزان لمدة عشرين عاما حقناً لدماء المسلمين، ولم يكن الإمام يحيى قد علم بعد بالمؤامرة التي حاكها عبدالله الوزير مع السعودي عبدالعزيز، والتي اتضحت لاحقا، ولولا دور الثلاثة السابقين من بيت الوزير لما نجحت المؤامرات التي عصفت باليمن في الأربعينيات وما زالت آثارها إلى الآن.
كان الإمام يحيى رجلا حسن الظن بالناس، وقد صدق كلام نائبه عبدالله الوزير، فعمل بموجب مشورته ووافق على الصلح دون أن يشك لحظة بأنه ينطوي على مؤامرة ومصيبة كبرى ستحل على اليمن.

قلنا إن الإمام يحيى صدّق كلام نائبه عبدالله الوزير، فعمل بموجب مشورته، ووافق على الصلح، دون أن يشك للحظة بأنه ينطوي على مؤامرة ومصيبة كبرى ستحل على اليمن، بينما كان عبدالله الوزير قد اتفق مع الملك السعودي عبدالعزيز، برعاية بريطانية، أن يسهل تسليم عسير ونجران وجيزان للسعودية، ووقف استمرار المعارك التي كانت الكفة فيها بدأت تميل في الجبال لصالح الجيش اليمني بقيادة الأمير أحمد بن يحيى، قائد الجيوش اليمانية هناك، وذلك مقابل أن تساعده السعودية وبريطانيا في الانقلاب على الإمام يحيى، والسيطرة على الحكم بعد اغتيال الإمام وإخوانه ورجال حكمه وولي عهده، وتسليم مبالغ مالية كبيرة لشراء من يحتاج إلى شرائه من الشخصيات والعقال والشيوخ والقادة. وقد قدرت بما بين 2 - 5 ملايين ريال "فرانصي" فضة، وقد وزعت منها قرابة مليوني ريال يوم الانقلاب.
وفي مذكرات السيد محمد الشامي إشارات واضحة إلى هذه الوقائع، وكان آنذاك أحد النشطاء في الانقلاب وأحد المعارضين قبله، ومن أتباع الزبيري والنعمان في عدن، ثم صار لصيقا بالفضيل الورتلاني، أهم محرك للانقلاب الدموي ومديره الرئيسي، ومهم جدا ما نشره من مذكرات للتاريخ في كتابه. وكذلك الدكتور محمد الشهاري في كتاباته حول مسارات الحركة الوطنية اليمنية والأطماع السعودية في اليمن، وما كتبه الأستاذ البردوني في "اليمن الجمهوري" وغيره.
وكان علي الوزير هو الشقيق الأكبر لعبدالله الوزير ووزيره وساعده الأيمن في كل التحركات التنظيمية والسرية للإعداد للانقلاب وتعبئة الجماعات والقوى التي سوف تتولى مباشرة الانقلاب القادم. وكان المشروع الإمبريالي والمخطط الاستعماري للسيطرة التامة على اليمن المستقل وإلحاقه بالمحتلين كله يتعلق بنجاح جماعة الأحرار المصلحين والإخوان والوهابيين في إقناع الشعب اليمني والنخبة الأساسية فيه المتركزة في صنعاء وعدن وتعز والحديدة وإب وحجة وغيرها، لأنها كانت تتجمع آنذاك في تلك المدن الرئيسية الكبرى، إقناع الشعب اليمني وطلائعه الغاضبة بأن الإمام يحيى وأولاده مخالفون للإسلام والدين والعقيدة والشرع السماوي المحمدي، ويجوز قتلهم واستحلال دمائهم. وكان هذا يجري تمهيدا للعمليات الإجرامية القادمة المخطط لها، والتي تنتظر أن يتم إقناع الناس بها أولا قبل الإقدام عليها وتنفيذها، وأن جميع الأساليب السلمية قد فشلت في إقناع الإمام بإصلاح البلاد وفتح التجارة الخارجية أمام أصحاب الأموال والشركات المحلية والأجنبية، وأن يكف أولاده عن التدخل في الحكم والإدارة، وصوروا للناس أن هذه هي صلب مطالب الشعب والتجار وقسم كبير من الناس ومن الأحرار الصغار السذج الذين كانوا مبهورين بشعر الزبيري وخطابات النعمان، الذي سموه شاعر الحرية والوطنية، ويصدقونهما ويحسنون الظن فيهما وفي نواياهما.
وكان مرتزقة العشرينيات والثلاثينيات والأربعينيات مازالوا ملزومين من البريطاني وليس من الأمريكي الذي لم يكن بعد قد تسلم إرث الاستعمار الغربي إلا بعد هزيمة البريطانيين أمام هتلر وانسحابهم من مقعد الإمبراطورية الغربية وتسلمهم مقعد الإمبراطورية وذلك بعد الحرب العالمية الثانية،  وعمد في لقاء روزفلت وعبد العزيز في قناة السويس على المدمرة الأمريكية "كوينسي" في خليج السويس، والتزم بأن تستمر إدارة الملفات والمهام الأساسية السياسية من قبل الإنجليز ومخابراتهم وعملائهم وأجهزتهم والمرجعية هي في النهاية للأمريكيين، أي أن مركزا استعماريا مشتركا ظهر إلى الوجود بقيادة أمريكية وبريطانية؛ ولكن على أساس توظيف جميع الخبرات البريطانية في المنطقة، وكذلك الأجهزة والمنظومات والشبكات والتنظيمات والأحزاب والقوى التي كانت تتبع الإنجليز فقط، وتصبح تابعة للأمريكيين، وهي تتكفل بالمهمات والإمكانيات والتمويلات والتسليح وغيرها، ويستمر الإنجليز يديرون المهمات الميدانية والمؤامرات التي سبق أن أقاموها وأن يواصلوها حتى تكتمل وتصل إلى نهاياتها بإشراف أمريكي بريطاني مزدوج.
وكان الغرب الاستعماري الأنجلوسكسوني يمهد آنذاك لإعلان قيام "إسرائيل" وتمكينها في المنطقة بعد أن أعدت لها بريطانيا طوال احتلالها لفلسطين ومصر، وملأت فلسطين باليهود الصهاينة المستوطنين من كل حدب وصوب. وكان على روزفلت أن يشترط حمايته لعبدالعزيز بن سعود بتعاونه وسكوته عن المشروع الجاري تنفيذه، إضافة إلى الخضوع الكامل وتدفق النفط إلى الغرب، وسيطرة الولايات المتحدة على مخزونه بالكامل. ولم ينبس عبد العزيز ببنت شفة سوى التأكيد لروزفلت الولاء المطلق لأمريكا ولزبانيتها في المنطقة.
وما كان من السهل قيام الكيان الاستيطاني الصهيوني لولا الدور لذي لعبته الكيانات المجاورة اللقيطة، مثل الأردن والسعودية، في تسهيل مرور المشروع الإجرامي الاستيطاني وحمايته وتوطيده حتى اليوم، فلولا السيطرة الاستعمارية على بلاد الحرمين الشريفين وقبلة المسلمين البالغين مليار مسلم يشكلون كتلة هائلة من القوة والنفوذ والتأثير، ولو توفرت لهم قيادة دينية موحدة مخلصة فإنهم يستطيعون تغيير العالم بأسره؛ ولكن تمكنت مؤامرات الاستعمار ووكلائه المحليين (من أشباه المسلمين) من خداع الأمة الإسلامية وما زالت، وشل حركتها بالتضليل والفتنة والإفساد والتآمر والتخريب.

خداع النخب السياسية والدينية للأمة
كانت نخبة الحكم القديمة، التي نمت في أحضان الإقطاعية القبلية والعسكرية والتبعية للأجنبي، قد تشربت التبعية منذ نعومة أظفارها على أيدي معلمين كبار فقهاء وعلماء وأهل دعوة وقضايا، وقد تعلموا على أيدي الأجانب الأغراب وجامعاتهم ومعاهدهم، وأحسنوا التظاهر بمظاهر جذابة ومقبولة، وبرعوا في فن الخطابة والدعوة والمنطق والشعر والتاريخ، وحفظوا القرآن والبيان والتبيين والاستقراء والاستنباط والتحليل والتركيب والتفسير، وأجادوا المنطق والبلاغة والقانون والشريعة، وأحسنوا البيان والخطابة والبلاغة وإظهار الحكمة وعلم الكلام، ومنحوا أعلى الشهادات من جامعات الغرب والشرق، ومنحوا وأعطوا الأموال والشركات ووكالاتها التجارية، وقد لبسوا ملابس الشعب وأزياءه التقليدية وشاراته وشعاراته وهيئته، وتحدثوا بلغاته ولهجاته وأساليبه، وبالغوا في الخداع، وقد اغتر بهم قسم كبير من الشعب في بداية الأمر، وكان الاستعمار ينظر دوما إلى التطلع للسيطرة على مرتقيات المجتمع ومفاتيح مغاليقه وعناصر التأثير عليه من خلال قراءته تاريخنا وتقاليدنا وعقائدنا، وفهم أن القوة الروحية التي تؤثر في النفوس والعقول هي قبل كل شيء الدين والعقيدة والروح والسماء والقيم الأخلاقية والفروسية والشرف والواجب والقبيلة والقومية والأسرة والأخوة، ولذلك جاء إلينا بمن هم يدركون وجاهزون لمخاطبة شعوبنا بمفاهيمها ولغتها وتقليدها وقيمها وعقائدها ومذاهبها، وخلفهم وقفت إمكانيات الاستعمار والرجعية الخليجية والعالمية والصهيونية، وقفت كلها محشورة جاهزة لدعمهم وتوطيد أماكنهم وقواعدهم وخوض الحروب عبرهم ومن أجلهم، وهذا ما نراه أمام أعيننا كل يوم في زمن كشف الحقائق.
أما في الماضي فقد كانت الأمة والشعوب عاجزة عن التمييز بين الغث والسمين، الحق والباطل، ولم تستطع أن تميز الحق من الباطل، ولا الحقيقة من الأكاذيب، ومن الصعب أن ينفك الشعب من غواياتهم بسهولة، فقد استغرق الأمر عقودا وعقودا من المعاناة والتجارب والأوهام والخبرات والتضحيات.