
اليمن بالحبر الغربي -
في مطار القاهرة، وأشعة الشمس تبهت شيئاً فشيئاً على مدرج المطار، كانت طائرة اليمنية، شركة الطيران الوطنية في اليمن، قابعة في مدرج الطائرات لم تقلع بعد. كان على متنها نساء مسنات في طريقهن إلى عدن وقد وضعن الوسائد خلف ظهورهن المتعبة، والعديد منهن كنّ يعانين من الأمراض، وقد باعت أسرهن إما سياراتهم أو مجوهراتهم لدفع ثمن تذاكر السفر والعلاج، كغسيل الكلى أو العلاج الكيميائي الذي يصعب الحصول عليه في اليمن، التي تعاني من الحرب منذ عام 2015. وبين الممرات على الطائرة وقف الرجال يتذمرون قائلين: «لم تعد سماء اليمن ملكاً لليمنيين».
خضوع الطائرة لأعمال صيانة غير مخطط لها أدى إلى فقدانها إذن الإقلاع الذي حصلت عليه من الجيش السعودي، وتوقفها لسبع ساعات أخرى في انتظار الموافقة؛ فالسعودية تسيطر على المجال الجوي للبلاد طوال سنوات الحرب الثماني، وتتحكم في دخول أو خروج أي طائرة كونها تفرض وصايتها وتشكل مصدر إذلال دائم لليمنيين.
وعند هبوط الطائرة في عدن قرابة منتصف الليل، تلقى الركاب على هواتفهم رسالة تقول «شركة الاتصالات السعودية تتمنى لكم إقامة سعيدة في السعودية». عام 2015، دفعت المدينة الساحلية اليمنية عدن ثمناً باهظاً في المعارك التي قادها التحالف ضد الحوثيين، فماتزال المباني التي تعرضت للقصف مدمرة في كل مكان. لكن عدن اعتقدت أنها ستتمكن من استعادة مجدها الماضي، فعاصمة اليمن الجنوبي سابقاً وثاني أكبر ميناء في العالم من حيث حركة السفن في العالم في خمسينيات القرن الماضي حلمت بوضع حد للتدهور البطيء الذي تشهده. المجلس الانتقالي الجنوبي وهي حركة سياسية وعسكرية كانت أحد الأطراف التي (حررت) ميناء المدينة، وقد وعد المجلس المموّل من السعودية وحليفتها الإمارات بإحياء دولة جنوب اليمن المستقلة، إحدى حلفاء الاتحاد السوفيتي السابق، التي قامت عام 1967 بعد رحيل المستعمر البريطاني ومن ثم توحدت مع اليمن الشمالي في اليمن الموحد عام 1990.
كان يجب أن تصبح عدن مثالاً لليمن الحر بمساعدة السعوديين، لكن المدينة عالقة وتتعفن في منطقة رمادية، فهي عاصمة مؤقتة لليمن، لكن ذلك اسمي فقط، فالحكومة اليمنية المركزية التي استقرت في عدن مثيرة جداً للاهتمام، فلا هي التي حيت ولا التي ماتت، بل بين هذا وذاك، فالسلطات في عدن غير قادرة على توفير الخدمات العامة الأساسية والسيطرة على أمراء الحرب، أما بالنسبة لآمال العدنيين بالاستقلال فإنها آخذة بالتلاشي بسرعة.
يمثل حي كريتر متحفاً حياً لتاريخ عدن، حيث تنتشر فيه القصور الاستعمارية القديمة والمباني الحديثة الموروثة من العصر الاشتراكي، وهذا التراث المهدد بالانقراض هو مصدر فخر لسكان عدن. تقع كريتر في قلب بركان خامد، وتقبع هناك شديدة الانقسام ومرغوبة من الجميع، والفقر والأسلحة في كل ركن من أركانها.
أفقر التضخم السكان، ولم يعد سوى قليل من الناس قادرين على شراء سمك التونة أزرق الزعانف ومنذ عام 2016 تطبع الحكومة اليمنية عملات ورقية، وأصبحت قيمة العملة الآن تساوي أقل من ورق السجائر، ولا يقبل الحوثيون هذه العملات في المناطق الخاضعة لسيطرتهم.
في السابع من أبريل/ نيسان، بعد إقناع الحوثيين بتوقيع هدنة لمدة شهرين، أجبرت الرياض الرجل المسؤول بشكل أساسي عن الأزمة المالية على الاستقالة، حيث تنحى الرئيس المنفي عبد ربه منصور هادي المجرّد من المصداقية جانباً، ليحل محله مجلس رئاسي غريب له ثمانية رؤساء نصفهم من الجنوب، وهو الأمر الذي يبعث على الأمل. بعد ذلك، وعدت السعودية والإمارات بتقديم 3 مليارات دولار (2.7 مليار يورو) كمساعدات لليمن، وإيداع ملياري دولار منها في البنك المركزي اليمني لتحقيق استقرار العملة.
أثنى الإماراتيون والسعوديون الانفصاليين عن إعلان الاستقلال، فبدون المؤسسات أو المقدرات لم تكن أي دولة لتعترف بهم، ولم يكن لدى رعاتهم الرغبة لتمويل تلك المخاطرة، وبالتالي أصبحت عدن عالقة بين المطرقة والسندان.
سيطر الانفصاليون على الشاطئ الخاص المعروف باسم شاطئ الفيل، والذي كان مكاناً لاجتماع مجتمع البيض في عدن إبان الاستعمار البريطاني، وأصبح في ما بعد ملكية للجيش الوطني اليمني. يجتمع ضباط المجلس الانتقالي لمضغ القات في أكواخ خشبية صغيرة على سفح التل أيام العطلات، وتأتي عائلات الجنود من مناطقها في محافظتي الضالع ولحج المجاورتين للاستجمام.
قطع أسياد المدينة الجدد شوطاً طويلاً منذ عام 2015، باركت الرياض وولي العهد السعودي محمد بن سلمان رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي عيدروس الزُّبيدي الذي عُيِّن عضواً في مجلس القيادة الرئاسي الذي خلف الرئيس هادي في 7 أبريل/ نيسان، ويجلس في المجلس إلى جوار قائد مليشيا جنوبية أخرى سلفي مموّل من الإمارات.
لكن يبدو أن الفرق التي يعتمد عليها الزُّبيدي غير قادرة على إدارة دولة أو حتى مدينة، فمساعده الخاص السيد فضل الجعدي نموذج للاشتراكيين التقليديين، فقد كان سكرتيراً أول للحزب الاشتراكي في الضالع، ثم محافظاً للمحافظة التي يخرج منها العديد من مسؤولي المجلس الانتقالي الجنوبي، فهو يمشي حاملاً مسدساً طوال الوقت، ويغرِق من يتحاور معه بخطابات لا تنتهي تعيدهم إلى زمن الثمانينيات من القرن الماضي، زمن جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية.
يتحدث الجعدي عن «عودة الدولة» كأمر طبيعي، لكنه غير قادر على شرح الكيفية التي سيعيد بها هذه الجثة إلى الحياة، فمحافظتا شبوة وحضرموت غير مقتنعتين بمشروعه، فهما يتذكران الصراعات القبلية التي مزقت الجنوب في ثمانينيات القرن الماضي، والتي خرجت منها شبوة مهزومة. لكن الجعدي يهمل هذه التفاصيل، فهو يريد طمأنة المحافظات بأن الدولة لن تولد من جديد إلا مع انتهاء الحرب وأنها ستضمن العدل وحل جميع الحساسيات، والدليل الذي يستخدمه هو أن الأمين العام للمجلس الانتقالي ومحافظ عدن أحمد لملس من شبوة.
يأخذ أمراء الحرب نصيبهم من الغنائم، ويرجع ذلك جزئياً لبُخل التحالف العربي بقيادة الرياض، أما الإمارات فقد سحبت معظم قواتها منذ عام 2020، وتحرص على منح الأموال لحلفائها اليمنيين. أما بالنسبة للسعوديين، فبحسب قول الجعدي: «فإن اهتمامهم بقضايا التنمية ضعيف كون اليمن قضية عسكرية بالنسبة لهم». مع ذلك، تحاول الرياض مساعدة القوى المختلفة على التعايش، وتجعل المجلس الانتقالي الجنوبي يسمح للوزراء وكبار الإداريين بالتنقل بحرية نوعاً ما.
أولهم معين عبدالملك سعيد رئيس الحكومة منذ عام 2018 الذي يعيش تحت سرب من الغربان الناعقة على قمة تل شرقي عدن، في المقر الرئاسي الذي كان ملكية سابقة للتجار الاستعماريين من قرقشونة، أما أسرته فباقية في مصر بأمان. الصلاحيات التي يملكها معين عبدالملك محدودة، وذلك أولاً بسبب عجز نقص الميزانية، حيث يستنكر معين عدم رغبة الرياض في تمويل الدولة، ويتوقع منها المليارات التي تعهدت بها، ووصف الوضع قائلاً: «نظرياً يجب أن ينهار كل شيء، فالسعودية لم تقدم شيئاً للميزانية على مدى العامين الماضيين، أما المساعدات التي تقدمها فتذهب بسرعة نحو دفع تكاليف الكهرباء في عدن، الأمر يشبه العيش في الرمال المتحركة».
لم تعد السعودية تشعر بعدم الارتياح من هذه المظالم، فقد جربت كل شيء في حربها على الحوثيين، كالقصف، والتفاوض على السلام، والرشوة، ولم ينجح أي منها، وبالتالي أصبحت الرياض مقتنعة بتأمين حدودها وتقديم الصراع للعالم على أنه مسألة محلية غير قابلة للحل، وأنها لا يمكن إلا أن تكون وسيط نوايا حسنة. من أجل المظاهر فقط تعبد السعودية طرقاً في عدن، وبنت أربع مدارس، ورممت مشفى ومركز علاج القلب الذي يبدو مبناه كمركبة فضائية حديثة هبطت للتو في أرض غير مضيافة، وذلك في تناقض صارخ مع مستشفى الجمهورية الحكومي المتهالك، الذي لا يذهب إليه العدنيون إلا كملاذ أخير.
* لويس إمبرت
صحيفة «لوموند» الفرنسية
المصدر اليمن بالحبر الغربـي / لا ميديا