«لا» 21 السياسي -
مع بدايات القرن العشرين، وعلى إثر ما فعل والده الإمام محمد حميد الدين،  قاتل الإمام يحيى بن محمد الأتراك، وقاد اليمنيين في ثورة هزمت المحتل وأنجزت الاستقلال وفرضت السيادة.
«الوطنية» لا ولم ولن تكون يوماً شالاً أو كوفية «معصوبة» إلى وعلى رأس جمهوري فقط أو ملكي لا غير. إنها فعل الرفض ومقاومة الخنوع ومحاربة الظلم ومقارعة الطغيان ومواجهة المحتل ومجابهة العميل. الوطنية لا جمهورية ولا إمامية. الوطنية هي الوطنية فقط ولا غير. حين قاتل الإمام القاسم بن محمد العثمانيين في غزوهم الأول لليمن كان وطنياً، وكذلك هو الحال مع إبنه الإمام (المطهر) وغريمه السلطان عامر بن عبدالوهاب... في المقابل، ماذا عن وطنية آخر إمام ملكي (البدر) استنجد بالسعوديين لإنقاذ عرشه، ووطنية أول رئيس جمهوري (السلال) استعان بالمصريين لإقامة حكمه؟! وماذا بشأن وطنية آخر حاكمين «جمهوريين» مرتزقين وخائنين (هادي) ومن بعده العليمي، واللذين أباحا شعبا وبلدا للصهاينة الأغراب والأعراب بدعاوى كاذبة أولاها الجمهورية (المتسعودة) وليس آخرها الشرعية (المتأمركة)؟!
في العام 1948 اغتيل الإمام يحيى بطريقة وحشية وبفتوى (إخوانجية) خلعت العمامة عن رأسه لتضعها على رأس «الإمام» عبدالله الوزير، وسموا ما حدث «ثورة»؟!
بايع حسن البنا، مؤسس «الإخوان المسلمين»، الإمام يحيى أميراً للمؤمنين، قبل أن ينكث بقسم البيعة بعد رفض الإمام مخططات الإخوان البريطانية وخططهم الإنجليزية، ليجد البنا ضالته ونصف وجهه الآخر في عبدالعزيز بن سعود، وليبايعه ويبيعه إمارة المؤمنين.
وبعد أن كان الفضيل الورتلاني يد البنا اليسرى لمبايعة الإمام يحيى، صار يده اليمنى في مؤامرة اغتياله والانقلاب عليه في العام 1948. لم يكن الأمر معقداً إلى الدرجة التي لا ينكشف معها تآمر الإنجليز وابن سعود على الإمام يحيى لتحقيق أهدافهم المشتركة في اليمن. ولم يكن الأمر في المقابل بسيطاً وعفوياً ومحصوراً بين رصاصات علي ناصر القردعي وقصاصات نزلاء «سجن نافع».

لم يكن «الوزير» ولا «القردعي» جمهوريين لتحتفي بهما كتب مناهج تاريخ الإخوان «الوطنية»، وهو الحال نفسه مع شقيقي الإمام أحمد، سيفي الإسلام (عبدالله وإبراهيم)، ومع قائد محاولتهما للوصول إلى العرش (أحمد الثلايا) فيما سمتها كتب التاريخ تلك «حركة 1955 الوطنية»! وفتش مجدداً عن الإنجليز ودورهم في تلك الحركة «الوطنية جدا»، وعن علاقة سيفي الإسلام بقصر برمنغهام! لا علاقة رغم ذلك بين الوطنية وبين دموية الإمام أحمد وتوليته البدر ولياً للعهد ووريثاً للعرش، والتوريث بالطبع قفزٌ فاضح من الإمامة إلى الأموية.
مثّلت ثورة 26 أيلول/ سبتمبر ضرورة لليمنيين؛ ولكن مسّت محظوراً إقليمياً ودولياً خطيراً. ثورة مستحقة بالفعل وواجبة بالتأكيد؛ لكن ما حدث لاحقاً أمرٌ آخر!
يروى عن أول رئيس للجمهورية العربية اليمنية، المشير السلال، قوله: «لقد ظلمنا بيت حميد الدين»، حين رأى -بعد سنوات على خروجه من الحكم- مظاهر البذخ والأبهة واضحة على قصر أحد المسؤولين!
وحين سُئل الشاعر (الجمهوري) الكبير عبدالله عبدالوهاب نعمان (الفضول) عن الفرق بين الإمامة التي عارضها وبين الجمهورية التي نشدها أجاب: «ريال صرفناه بُقشْ»، في كشفٍ لا يحتمل أي تأويل عن مآل إمامٍ حاكمٍ واحد في الملكية صار في الجمهورية مائة إمامٍ وإمام!
جمهورية أيلول/ سبتمبر 62 ولدت حلماً وترعرعت ألماً وانتهت إلى ما يشبه الأسطورة! يحدثك البعض عنها كانقلاب، فيما ينظر إليها البعض الآخر كثورة الثورات... ولكنها في الحقيقة ليست أكثر ولا أقل من تجربة إنسانية عظيمة شابها من الأخطاء ما شاب غيرها. لقد ولدت من خاصرة التاريخ ونشأت فوق رمال صحراوية متحركة. ورغم ذلك فقد نجت مراراً؛ غير أن الحلم دائماً ما يتجاوز السقف الأعلى مما تحقق منه!
ولنتذكر جيداً أن المشير عبدالله السلال كان قائداً لحراسة سيف الإسلام محمد البدر منذ أن عينه والده (الإمام أحمد) ولياً للعهد وحين صار ملكاً على صنعاء كآخر إمام لليمن.
وفي ليلة الـ26 من أيلول/ سبتمبر 1962 وجد الأول نفسه رئيساً لجمهورية لم يعلم عنها شيئاً إلا في اللحظات الأخيرة من إعلانها، بينما وجد الآخر نفسه خارج السلطة بعد أيام قليلة على إعلانه إماماً. لاحقاً تحول السلال بيدق جمهورية مصرياً، وصار البدر بندق ملكية سعودياً. ودارت رحى الحرب تحصد رؤوس اليمنيين بين ماضٍ إماميٍّ لم يذهب تعاود إيابه السعودية ومن خلفها أمريكا وبريطانيا، ومستقبلٍ جمهوريٍ لم يأتِ تمانع مجيئه مصر عبدالناصر. وأصبحت اليمن ساحة حرب مغلقة وأرض تصفية حساباتٍ مفتوحة؛ مجرد خارطة صراعٍ جغرف تضاريس أسرها وخبأ مفاتيح تحريرها الأجنبي، وبأمعاء شعبٍ ربط على بطن الأرض وصايته، وبخيط انقلابٍ ومواجهة انقلاب علّق مشروع ثورة بين سماءٍ جمهورية لا يطالها وأرضٍ ملكية لا يطأ عليها.
تحول الصراع بين مصر وما تمثله وبين السعودية ومن تنوب عنهم إلى حرب أهلية طاحنة في اليمن استمرت سنوات. الموقف السعودي ذاك لم يكن مبنياً على أي حسابات دينية كما يعتقد البعض، بل على حسابات سياسية وبراجماتية واضحة، كنظام ملكي عائلي كان من غير المفاجئ اتخاذه لسياسة العداء ضد الثورة كفكرة وضد الجمهورية كتطبيق. التدخل المصري أضاف عامل دفعٍ آخر للسعودية لمواجهة الجمهورية؛ فمصر عبدالناصر بثوريتها وقوميتها وتقدميتها مثّلت حينذاك العدو الأول ليس فقط للأنظمة الملكية بل ولقوى الاستعمار العالمية وصنيعتها «إسرائيل».
وبرغم الانتصار الجمهوري الرائع في فك الحصار الملكي عن صنعاء في شباط/ فبراير 1968، وبدون مساعدة من القوات المصرية المنسحبة، إلا أنه وفي آذار/ مارس من العام نفسه حدثت أولى حروب الجمهوريين الصغيرة الموجعة حين اصطدم المعسكر (الجمهوري) بنفسه حين اشتبك التقليديون (جملكيون) مع التقدميين في صنعاء في أول بادرة حقيقية وعنيفة لانشقاق الصف الجمهوري. كان ذلك التصادم مؤلماً وقاسياً على الحالمين الثوريين التقدميين، وكان هو أيضاً الصدام الذي مهدت نتائجه لسيطرة القوى التقليدية على مقاليد الجمهورية ومكنتهم من تقييد تقدم الثورة وإيقافها عن الزحف قدما نحو المستقبل.
خمس سنوات حرب جمهورية-ملكية (1962 - 1967) أكلت أيامها أخضر الحلم ويابس الواقع، وشربت لياليها دماء النجوم ودموع الكواكب، انتهت إلى انتقال اليمن من درج طموحات عبدالناصر إلى دولاب الوصاية السعودية الوقحة. وبعد التخلص من المخلصين من إماميي اليمن وجمهورييها والخلاص من (كابوس/ حلم) اليمن الحر المستقل ذي السيادة لم يعد من المهم حينها توصيف النظام كجمهوري أو ملكي، بل كان الأهم بالنسبة للسعودية هو أن يكون نظاماً خاضعاً للوصاية وللتبعية وخارج الوطنية والتاريخ والجغرافيا. وبالفعل فلم ينته آذار/ مارس 1970 إلا وكان يمين الجمهورية يصافح يمين الملكية فيما عُرف بـ»المصالحة»، والتي رعتها السعودية وبمباركة مصر المنكسرة من نكسة حزيران/ يونيو 1967. وما من مشكلةٍ بعد ذلك أن يغني علي بن علي الآنسي نصف قرنٍ من الوصاية والتبعية: «في ظل راية ثورتي»، وأن يردد من بعده الطلاب في نهاية كل طابور صباحي: «أعلنت جمهوريتي»!