يخلق مجتمعا اتكالياً وغير منتج.. «العمل الخيري» مسكنات موسمية وعوز مستدام
- تم النشر بواسطة بشرى الغيلي/ لا ميديا
بشرى الغيلي / لا ميديا -
يعطونهم السمك، ولا يعلمونهم اصطياده بأنفسهم. يتلذذون بنظراتِ الذُّل في عيونِهم المنكسرة وهم يقفون في طوابير الانتظار الطويلة لأخذِ حصصهم مما يجودون به لهم تحت اسم «العمل الخيري»، من حيث لا يدرك أولئك خطورة وعواقب ما ينتظر هؤلاء المستهدفين بصدقاتهم ومعوناتهم، وتعطيل حواسهم وتفكيرهم وقدراتهم عن العمل، بل وتأثير ذلك مستقبلا على الاقتصاد الوطني، حيث إن أغلبهم شباب وفي سن العمل. الكثير من المليارات التي تصرفها تلك الجهات على السلالِ الغذائية الموسمية، أو الشهرية بإمكانها أن تُستثمر الاستثمار الصحيح في بناء مشاريع صغيرة دائمة لأولئك المستهدفين حتى يعتمدوا على أنفسهم. جميعنا قرأ حديث الرسول الكريم صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله عندما شكا إليه رجل شدة الفقر، فقال له: «أما عندك شيء؟ قال: لا. فأعطاه درهمين وقال له: اذهب فاشترِ بأحدهما طعاما، وبالآخر فأسا واحتطب به وبع. وبعد أيام عاد إلى النبي فقال له: بارك الله فيما أمرتني به؛ اكتسبت عشرة دراهم، فاشتريت بخمسة طعاما لأهلي، وبخمسة كسوة. فقال له النبي: هذا خير لك من المسألة...».
الأخطر من كل ذلك أن الجهات التي تتبنى العمل الخيري، المحلية أو الدولية، تستهدف المجتمع الريفي الزراعي، الذي صار ينتظر كيس القمح بدلا من أن يقوم بزراعته في مزرعته، وهذا له تأثير سيئ على اقتصاد البلد.
«لا» ناقشت هذه الظاهرة الموسمية مع خبراء اقتصاد اتفقوا جميعاً على أن ظاهر تلك الأعمال الرحمة، وباطنها العذاب. وإليكم التفاصيل.
ظاهره خير وباطنه تدمير
لأهمية الموضوع ناقشته «لا» مع خبراء ومختصين في الاقتصاد. والبداية مع الصحفي والباحث المتخصص بالشأن الاقتصادي، نبيل علي الشرعبي، الذي قال: «ما يطلق عليه العمل الخيري، سواءً على مدار العام، أو الموسمي الذي يكرس في شهر رمضان بالذات، هو في الأساس نهج تتبعه جهات كثيرة تحت اسم «خيري»، ظاهره خيري وباطنه تدميري. فمن خلال هذه الأنشطة تحرص جهات كثيرة على إيجاد مجتمع كسول وغير منتج. هذه الجهات تعمل وفق برامج مدروسة سلفا تهدف إلى تعطيل المجتمع اليمني وتحويله من مجتمع منتج يعتمد على ذاته للعيش بكرامة، إلى مجتمع مستهلك يعيش من الصدقات مما يُقدم له من عون وتبرعات، ليسهل السيطرة عليه وتحريكه وفق ما تقتضيه مصالح جهات سياسية ليس من مصلحتها أن يكون المجتمع فاعلا وينمو الاقتصاد، لذلك فهي تستهدف تعطيل قدرات أفراد المجتمع وإبعادهم حتى عن مجرد التفكير في تأهيل ذواتهم واكتساب مهارات تمكنهم من تنفيذ مشاريع خاصة بهم أو الحصول على وظائف اعتبارية، خشية أن يفلت هؤلاء من أيادي القائمين بوظيفة تدمير المجتمع ومعها يصعب استخدامه ورقة لتحقيق مصالح هذا الطرف السياسي أو الفئوي أو ذاك».
بنك الفقراء
يرى الشرعبي أن مثل هذه الكيانات لا يمكن أن تضع برامج لتأهيل وتدريب العاطلين والباحثين عن العمل، لتمكينهم من الحصول على وظائف أو امتلاك مشاريع خاصة صغيرة وأصغر، ولا يمكن أن تضع برامج لتمويل ودعم المشروعات الخاصة الصغيرة والأصغر، لأنها ستخرج عن الدور الذي تقوم به. ومقدار ما تنفقه هذه الكيانات لتقديم سلال غذائية ومساعدات متفاوتة في العام الواحد يفوق عشرات مليارات الريالات، وهو ما يكفي لإيجاد مئات المشروعات الخاصة التي ستعزز نماء الاقتصاد اليمني، وتمتص البطالة، وتقود إلى خلق مجتمع منتج وفاعل. ويضرب الشرعبي مثلا بأول تجربة للفقراء في العالم نفذها البروفيسور محمد يونس، في بنجلادش، واستطاع هذا المشروع أن يحول ما يقارب خمسة ملايين بنجالي، كانوا يعتمدون على الصدقات والمعونات، إلى مالكي مشروعات خاصة صغيرة وأصغر، ناهيك عن توفير ما يقارب خمسة ملايين وظيفة. تجربة البروفيسور يونس جديرة بأن تنال اهتمام المعنيين والاستفادة منها، فهي أول وأهم وأنجح تجربة عالمية في إنقاذ مجتمع من العيش على الصدقات وتحويله إلى مجتمع منتج.
يستهدفون المجتمع الريفي
من الأخطار التي لم ينتبه لها أحد أن تلك الكيانات صارت تستهدف المجتمعات الريفية، عمود الاقتصاد اليمني في الزراعة، وتعطيل قدرات تلك المجتمعات لتصير منتظرة للصدقات. وإلى هذا يشير نبيل الشرعبي أيضا بالقول: «برامج كيانات تقديم العون مصممة لتوسيع قاعدة المشمولين كل عام، ولذلك فهي تتجه بعناية مدروسة إلى المجتمعات المنتجة وأصحاب المهارات والحِرف، فعلى سبيل المثال: كثير منها تستهدف المجتمع الريفي، حتى توقفت تلك المجتمعات عن الزراعة وتربية المواشي والنحل وغير ذلك من الأنشطة الريفية. وهذا توجه مدروس من قبل هذه الكيانات التي تدرك كليا أنها تهدم لبنات الاقتصاد اليمني الذي كان للجميع، لتأسيس اقتصاد خاص بها يمكن القائمين على هذه الكيانات من الاستحواذ والتفرد والسيطرة على البلد وتقرير مصيره بما يضمن بقاءهم ومن بعدهم أولادهم».
تعطيل الحواس والقدرات
وتساءل الشرعبي: كيف سيحقق هؤلاء قيمة الاستخلاف، ولا يعودون بحاجةٍ لتسول الصدقات، وطرق الأبواب؟! وكيف يمكن أن يصير الفرد عنصرا فاعلا في معادلة النهوض بالوطن واستقلاله واكتفائه الذاتي؟! كل الذين صاروا تحت رحمة العون والصدقات، علينا أن نفكر بهم وأن نساعدهم على انتشال أنفسهم من قعر الحياة التي تعطلت معها حواسهم وتفكيرهم وقدراتهم، فهم لم يعد لهم هدف في هذه الحياة غير انتظار العون والصدقات التي ستقدم لهم، ويقينهم أنه لولا ما يقدم لهم لكانوا ماتوا جوعا، فقد تم إفراغهم من دوافع ونوازع الحياة الكريمة والعيش من كسب اليد. ولذلك فإن ما يجب إدراكه ومعالجته هو أن هؤلاء أصبحوا قنابل موقوتة يمكن تحريكها وتفجيرها في أي وقت، وعن بعد.
حياة مسلوبة الكرامة
بإمكان تلك الجمعيات والمؤسسات تأهيل من تستهدفهم بمساعداتها وسلالها الغذائية، ليعتمدوا على أنفسهم، ومنها يساهمون برفع المستوى الاقتصادي للفرد والمجتمع. لكن من المؤكد أن لها أهدافها التي ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب. يضيف نبيل إلى هذه الجزئية: «هذه الكيانات لا يعنيها أن يوجد إنسان فاعل في هذا الوطن، بل على العكس تحرص على تدمير الفاعل وجره نحو الحياة المسلوبة منها محددات الكرامة والعيش الكريم وتحقيق الذات والإسهام في بناء الوطن وتحقيق نهوض اقتصادي، فقد كرست لديهم مفهوم: ماذا سأفعل وحدي؟! حتى صار لسان حال الكثير: ليس أمامنا إلا رحمة الله، أي أنهم يريدون معجزة لصلاح حالهم وحال البلد».
وجبات جاهزة
«لا تعطني كل يوم سمكة، بل علمني كيف أصطاد». إلى أي مدى بإمكان هذا المثل أن يحد من انتشار المعوزين؟! يختتم الشرعبي حديثه: «كثير جدا يرددون هذا المثل، وهم في طابور انتظار الصدقات والعون، فقد نزعت منهم هذه الكيانات روح العمل والمثابرة ونوازع الحياة القائمة على العمل والإنتاج، حتى أن منهم من وصل به حال الخمول والتواكل إلى مستوى ألا يفكر في تحضير وجبة طعامه، فيبقى منتظرا الوجبة التي ستقدمها له الجمعية الفلانية، أو المنظمة الفلانية، أو المطبخ الخيري الفلاني... الأمر نفسه ينطبق على أسر لم تعد تجهز أي وجبة في منزلها، وإنما تعيش على ما يُقدم لها من وجبات جاهزة.
في المقابل، هناك موظفون كانوا يعيشون على رواتبهم، ومع استمرار توقف الرواتب شعروا بخيبة الأمل ولم يركنوا للمعونات، بل رفضوها وتوجهوا نحو جمع مخلفات النفايات، وحاليا يعيشون أفضل من ذي قبل، لأنهم استشعروا أهمية وجودهم في الحياة وآمنوا بضرورة العيش الكريم. هؤلاء اكتشفوا مدلول المثل: «لا تعطني كل يوم سمكة، بل علمني كيف أصطاد».
خطوات غير كافية
من جهته أشار الصحفي والخبير الاقتصادي رشيد الحداد إلى أن العمل الخيري الموسمي أصبح ظاهرة سنوية تختفي طوال العام، وتحضر خلال شهر رمضان، وكانت قبل سنوات ذات طابع سياسي وحزبي. ورغم أن هناك معاناة كبيرة يعيشها المجتمع، وهذه المشاريع قد تسهم في الحد من معاناة آلاف الأسر، إلا أنها خطوات غير كافية ولا تنهي معاناة الكثير من الأسر.
وأضاف الحداد: «يفترض أن تكون هناك رؤية اقتصادية لتحويل الفقراء والمعدمين من طاقات مفرغة، إلى طاقات إنتاجية، وكون الفقر والبطالة هي المشكلة الأساسية فيجب إيجاد برامج تنتشل أكبر عدد من هذه الشرائح، من خلال التدريب والتأهيل، لكي يكتسبوا مهارات عملية، وعلى ضوئها يتم إنشاء مشاريع صغيرة وأصغر بتمويلات محدودة ودراسات جدوى».
يضرب الحداد مثالا ناجحا في كلٍّ من ماليزيا وإندونيسيا بأن هيئتا الزكاة هناك استطاعتا أن تحولا عشرات الآلاف من مستحقي الزكاة إلى مزكين في غضون سنوات قليلة، فاعتمدت على منحهم مساعدات مؤقتة، وفي الوقت نفسه قامت بتدريب الشباب الفقراء وحولتهم إلى منتجين وأصحاب أعمال، وصاروا أول من يدفعون الزكاة، بعدما كانوا من طالبيها، لأن التواكل وانتظار إحسان الآخرين نتائجه عدمية، حتى وإن تم منح الأسرة مساعدات مؤقتة أو موسمية فإن وضعها المعيشي يظل دون تحسن.
حلول دائمة
من المؤكد أن العمل الخيري الموسمي يديم عوز المحتاجين ويوسع مساحة انتشارهم، ويكرس التواكل كمصدر للرزق بدلا من الكد والعرق المثمر الذي يحافظ على ماءِ وجه الإنسان... فهل يعي المسؤولون تأثير ذلك على المدى البعيد؟! يقول الحداد: «في اليمن يجب على الهيئة العامة للزكاة، والمؤسسات المعنية بالتمويل الأصغر، إيجاد حلول دائمة تنهي معاناة الفقراء والمعدمين تدريجياً، فلدينا أيضاً صندوق معني بالتدريب المهني ولا أثر له، ويفترض توظيف كل ما يمكن لتحويل الطاقات الاجتماعية المفرغة إلى إنتاجية، ولذلك كنت قد طالبت قبل خمس سنوات بإنشاء بنك أفكار خاص، لاستقبال أفكار خاصة بإنشاء مشاريع متناهية الصغر بتمويلات يحصل عليها صاحب المشروع كقروض بيضاء، وعلى الجهات الحكومية أيضاً أن تستشعر المسؤولية في هذا الجانب، كون قطاع المشاريع الصغيرة والأصغر راكداً بشكل كبير».
تراجع الإنتاج الأسري
يختتم الحداد حديثه بالقول: «لدينا مجتمع مكافح وقابل للتأهيل والتدريب وقيادة مشاريع صغيرة، ولكن لا توجد حاضنة حكومية مسؤولة لمساعدة هؤلاء الناس وتمكينهم من الخروج من دائرة الفقر والبطالة والعوز والفاقة. وكانت برامج الإنتاج الأسري قبل سنوات لافتة وقوية؛ ولكن هناك تراجعاً للإنتاج الأسري بشكل كبير؛ رغم أن هناك نماذج ناجحة في هذا الجانب؛ لكن غياب الجهات التي ترعى مثل هذه المشاريع ينعكس سلباً على أدائها».
مجال للجريمة والإخلال بالأمن
بعد حديث خبراء الاقتصاد كان لا بد من أخذ وجهة نظر الجانب الحكومي في هذا الموضوع، فتحدث لـ»لا» أحمد محمد حجر، وكيل وزارة المالية لقطاع التخطيط والإحصاء والمتابعة، قائلاً: «في ظل هذه الظروف هناك ضرورة وعلى المدى القصير لحشد الجهود لتقديم المساعدات للمستحقين. أما على المدى المتوسط والبعيد فلا بد من وجود استراتيجية لإنعاش الاقتصاد وتوفير بيئة مناسبة لجذب الاستثمارات الخاصة في مشاريع إنتاجية استراتيجية في مجال الزراعة والصناعات الاستخراجية والتحويلية، إلى جانب جهود حكومية لتشجيع وتمويل المشاريع الصغيرة والأصغر، بل والمتوسطة، حتى لا تتفاقم مشكلة الفقر بسبب القوى العاملة وغير العاملة، والمعتمدة على المساعدات، والتي تصبح عبئا كبيرا على الدولة والمجتمع، وعلى حساب التنمية، بل تصبح هذه الفئة مجالاً للجريمة والإخلال بالأمن، بل قد تصبح مجالاً للاستغلال الخارجي، وهذا ما يستدعي معالجتها وفق رؤى مدروسة وعملية».
خطط لتأهيل الفئات المستهدفة
كيف يمكن أن يحقق هؤلاء قيمة الاستخلاف، ولا يعودون بحاجةٍ لتسول الصدقات وطرق الأبواب، ويصبح الفرد عنصرا فاعلا في معادلة النهوض بالوطن واستقلاله واكتفائه الذاتي؟ يجيب حجر: «من خلال المسح العلمي لهذه الفئة، والذي يتم عبره توضيح حجمها وخصائص أفرادها من حيث العمر والنوع والمستوى الدراسي والمهارات وأسباب عدم البحث عن مصدر رزق... إلخ، وفي ضوء ذلك توضع خطط لتأهيل هذه الفئات والمشاريع المتاح الاستثمار فيها وتحديد مصادر لتمويلها، والشروط اللازمة لنجاحها، مثل الإعفاءات الضريبية، وسياسات حماية المنتج المحلي، وإيجاد ترابط وتشابك مع الأنشطة الاقتصادية الأخرى».
واجب ديني ووطني
ويضيف حجر: «من المعلوم أن الإمكانيات المتاحة لدى المؤسسات التابعة للدولة كبيرة، والواجب الديني والوطني بل وكمتطلب رئيس وضروري لتحقيق تنمية حقيقية مستدامة وعادلة، يبدأ من توفير اليد العاملة الماهرة والمدربة، التي تتحمل العبء الأكبر في تحريك وتطوير العملية الإنتاجية، وهذا ما يجب أن يستوعبه متخذو القرار في الدولة، وفي القطاع الخاص أيضاً».
تعظيم الموارد المتاحة للتنمية
إلى أي مدى يمكن أن يكون المثل العالمي «لا تعطني كل يوم سمكة، بل علمني كيف أصطاد» يافطة تحد من انتشار الفقر، وتوفر لهم فرص عمل ليصبحوا منتجين، ومعتمدين على أنفسهم؟ يقول حجر: «المثل واقعي إلى حدٍّ كبير، لذلك نجد الرسول الكريم عندما أتى إليه رجل يسأله صدقة نصحه بأن يبحث عن أي شي لديه يبيعه ويشتري بثمنه فأساً ويذهب ويحتطب، خير من أن يظل يسأل الناس، فلما عمل ذلك تحسنت أحواله... لذلك بدلا من أن يبقى الشخص معتمدا على موارد غيره، وبالتالي يمثل عبئا على موارد المجتمع، يصبح بعمله رافداً جديداً للموارد، وهنا تكمن أهمية تعظيم الموارد المتاحة للتنمية».
المصدر بشرى الغيلي/ لا ميديا