تحقيق - خاص - دمشق  - أحمد رفعت يوسف / لا ميديا -

حلب والتاريــخ
مدينة حلب هي العاصمة الاقتصادية لسورية وأكبر مدنها سكاناً، وهي بوابة بلاد الشام والمنطقة العربية من جهة الشمال، ومنها دخل معظم الغزاة إلى المنطقة وخاصة العثمانيين، ومن لا يقرأ التاريخ لا يعرف الحاضر.
عندما سيطر العثمانيون على بلاد الأناضول كان لديهم فائض قوة جعلتهم يتطلعون لتوسيع دولتهم، فكان لا بد من تأمين ظهرهم، حيث كانت هناك دولة تنافسهم في المنطقة هي الدولة الصفوية، فجرت معركة "كالديران" عام 1514 وانتصر فيها العثمانيون، وهكذا أمنوا محيطهم الاستراتيجي، وسمح لهم بالتوجه جنوباً حيث الهدف الرئيسي: بلاد الشام، التي كانت تحت حكم المماليك، وجرت معركة "مرج دابق" قرب حلب عام 1516 وانتصر فيها العثمانيون.
لم يكن سقوط حلب بيدهم مجرد سقوط مدينة، وإنما أتاح لهم السيطرة على مفتاح المنطقة بكاملها، لذلك تساقطت بعدها مدن بلاد الشام بيدهم ودخلوا معظمها بدون قتال، وكانت حلب بداية تحقيق الإمبراطورية العثمانية.
في عصرنا الحالي أصبحت حلب أهم مركز صناعي في سورية والشرق الأوسط، إضافة إلى أهميتها التجارية والزراعية، وهي معروفة منذ القدم بصناعاتها التقليدية كالنسيج وحلج القطن والصابون والمواد الغذائية.
عصب المدينة ومركزها الاقتصادي والصناعي يقع في مدينة الشيخ نجار، شمال شرق المدينة، والمعروفة بالمنطقة الصناعية، بمساحة تزيد عن 5 آلاف هكتار، وتضم كل ما تحتاجه البنية التحتية اللازمة للصناعة، بما فيها البنوك والمكاتب الإدارية ومساكن الموظفين. 
عدد المنشآت العاملة في مدينة حلب قبل العدوان وصل إلى 65 ألف معمل ومنشأة، توفر فرص عمل لنحو مليون مواطن، وكانت تتميّز منتجاتها بالجودة العالية عالمياً، وأثبتت مكانتها بالتصدير إلى أسواق أوروبية وعربية.

كيف تم تدمير حلب وصناعاتها؟
عندما جرى التخطيط للعدوان الأمريكي الصهيوني الأعرابي على سورية، كانت تركيا مخلب حلف العدوان لتحقيق مشروع "الشرق الأوسط الجديد"، الذي كان يقضي بتسليم المنطقة لتنظيم الإخوان المسلمين الإرهابي تحت شعار "فليحكم الإخوان"، حيث جاهر أردوغان، الذي يرأس حزب العدالة والتنمية الإخواني الحاكم، أكثر من مرة، بأنه يشغل منصب نائب رئيس مشروع "الشرق الأوسط الجديد"، وكانت عينه على حلب تحديداً التي تعبرها وثائق الدولة التركية جزءا منها مع مدينة الموصل العراقية.
لم تكن أطماع أردوغان في حلب لمجرد السيطرة، وإنما دغدغت أحلامه أوهام بأنه يستطيع استعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية البائدة بعثمانية جديدة، ومن بوابة حلب هذه المرة أيضاً، وفي محاولة بائسة لاستعادة التاريخ عبر "مرج دابق" جديدة تسهل عليه بعدها تقسيم سورية والسيطرة عليها، والانطلاق منها للسيطرة على كامل المنطقة، وهذا ما يفسر سر استشراسه للسيطرة على حلب.
ولأن مصدر قوة حلب ومجدها وعزها في صناعاتها ومنشآتها، فكانت مدنها الصناعية وتحديداً منطقة الشيخ نجار هدفه الرئيسي، فأوعز لعصاباته ومرتزقته من عصابات الإخوان وفي مقدمتهم "جبهة النصرة"، للسيطرة على المدينة الصناعية، حيث دخلوها عام 2012.
فاق التوحش التركي كل ما سبق من غزوات، حتى المغول والتتار، حيث قاموا بسرقة كل ما يمكن أن تطاله أيديهم من مكنات ومعدات وآلات، مع مخزوناتها من السلع المصنعة والمواد الأولية، ونقلوها إلى تركيا. وما لم يستطيعوا سرقته قاموا بتخريبه، وقاموا بتفكيك ما يمكن بيعه كخردة تم صهرها في معامل الحديد التركية، وتخريب ما لا يستطيعون نقله أو الاستفادة منه.
جرى كل ذلك عبر جريمة منظمة موصوفة، شارك فيها قادة العصابات الإرهابية وجهات تركية عملت بإشراف مباشر من الاستخبارات التركية (MIT) وجهات رسمية تابعة للحكومة التركية.
الإشراف الرسمي التركي على سرقة مصانع حلب لم يعد سراً، وتحدثت عنه مصادر ووسائل إعلام تركية أكثر من غيرها، ومنهم رجل المافيا سادات بكر، الذي كان على علاقة وثيقة برجال نظام أردوغان، وفضح أعمالهم في سلسلة تسجيلات عرت تركيا وحزب العدالة والتنمية، وأكد أن منظمة "سادات"، التي أسسها العميد المتقاعد والمستشار الرئاسي السابق عدنان تانريفيردي، متورطة في شحن الأسلحة إلى "جبهة النصرة" الإرهابية وباقي التنظيمات الإرهابية التي سرقت حلب ومدينتها الصناعية.
أما الصحفي التركي سردار أكينان فقد أكد عبر قناة (KRT) المعارضة أن سرقة مدينة الشيخ نجار والمعامل الأخرى والبنى التحتية، تمت بإشراف من شركة "أوزفادار" التركية، والتي يملكها ويرأسها رجل الأعمال التركي المقرب من أردوغان مراد أوزفادار، وهو زوج الصحفية هاندي فرات، التي تعمل في وسائل الإعلام التابعة للحكومة التركية، وهي التي أجرت الاتصال مع أردوغان عند الانقلاب المزعوم عليه عام 2016.
أما الصحفي التركي موسى أوزأرغورل فقد قال في مقالة له على موقع "غازيتي دولافار" الإخباري، بعنوان "من سرق معامل حلب؟": "إن الضرر في الحروب مسألة طبيعية، ولكن ما حدث في حلب كان نهباً بالمطلق". وأضاف: "إن حلب لم تدمر فقط، بل سُرقت أيضاً".

لماذا حلب؟!
وفي جواب على هذا التساؤل قال الصناعي عاطف طيفور في تصريح خاص لـ"لا": "إن سرقة معامل حلب خطة مدروسة، وهي جزء من عدة أهداف اقتصادية وسياسية للحرب على سورية، فمنذ بداية الحرب تم التركيز والسيطرة على المناطق الصناعية بكافة المحافظات وتدمير المصانع والبنية التحتية وسرقة الماكينات أو حتى حرقها، مرورا بتدمير البنية التحتية الاقتصادية من محطات توليد كهرباء وسرقتها، مرورا بالسيطرة على المناطق الزراعية الاستراتيجية".
وأوضح طيفور: "إن الخطة السياسية هي ضرب الاقتصاد السوري وتخفيض نسبة الإنتاج للحد الأدنى، لتخفيض الحركة التجارية والصادرات والمخزون الاستراتيجي وتهجير اليد العاملة والمزارعين، وتحويل الاقتصاد إلى اقتصاد استهلاكي، لاستكمال الخطة بالعقوبات ونهايتها قانون قيصر، والذي مهمته السيطرة على المستوردات ورفع تكاليفها للحد الأقصى لاستنزاف القطاع الأجنبي المركزي، والضغط على الدولة حتى بتأمين المواد الاستراتيجية والتموينية".
أما المحلل الاستراتيجي محمد كمال الجفا، ابن مدينة حلب، والذي تابع عن قرب ولحظة بلحظة ما جرى فيها وبصناعاتها، فقال لـ"لا": "شكلت حلب عقدة مزمنة للتركي خلال عشرات السنين، وخاصة خلال سنوات الانفتاح الشامل بين البلدين، حيث ضخت تركيا والمؤسسات المرتبطة بدوائر الصناعة والتجارة والسياحة فيها مبالغ طائلة لسحب التجار والصناعيين الحلبيين إلى الداخل التركي، لتحويلهم إلى أدوات تصريف ومستهلكين ومروجين للصناعات والبضائع التركية، بدل أن يكون لديهم صناعات متطورة ومنافسة للأتراك، لكن وللأمانة فإن الصناعيين والتجار السوريين استفادوا من التطور الصناعي والتكنولوجي التركي، وعكسوها على البنية التحتية والتنظيمية للصناعات السورية، لكنهم رفضوا أن يتحولوا إلى أدوات أو إلى وكلاء للصناعات والمنتجات التركية في سورية وباقي دول العالم".
وأضاف: "هذا الحقد التراكمي والكره التاريخي وجد له أرضاً خصبة وأدوات حاقدة على أرض الواقع مع بداية الحرب، إذ بدأت هذه الأدوات تنفذ ما يريده التركي عبر حرق وتدمير المعامل الضخمة التي كانت تنافس المنتجات التركية وتزاحمها على الأسواق الأوروبية، وخاصة صناعة الخيوط النسيجية والمصانع ومعامل إنتاج الألبسة الضخمة، ثم بدأت عمليات الخطف والقتل للتجار الحلبيين والسيطرة على معاملهم واحتلالها".
واستطرد الجفا: "تم إرسال خبراء وفنيين لتفكيك هذه المعامل ونقلها إلى تركيا".
وحول الهدف من ذلك، يقول الجفا: "كان الهدف الأكبر هو تدمير ممنهج للبنية التحتية السورية في كل المجالات وليس فقط في المجال الصناعي والتجاري". 
الإداري في غرف اتحادات التجارة والصناعة في حلب ماهر هوريك أكد أن المنطقة الحرة ومنطقة الشيخ نجار كانت قد أصبحت منطقة استراتيجية على صعيد "الشرق الأوسط"، من حيث المصانع التي تتواجد فيها، من معامل النسيج والسجاد ومعامل صناعة الإلكترونيات، وما تنتجه من بضائع كان يتم تصديرها إلى جميع أنحاء العالم، قبل أن يتم نهبها وسرقتها.
وقدم هوريك توضيحاً لما حدث، بالقول: "إن أجهزة الاستخبارات التركية (MIT)، استغلت أحداث الفوضى العارمة في المنطقة في شهر آب/ أغسطس 2012، وذلك عبر دعم جماعة إرهابية مرتبطة بشكل مباشر بها".

أردوغان لص حلب
رسمياً تحركت الدولة السورية ومؤسساتها لتوثيق ما قام به العدو التركي وكشف سرقاته وملاحقته أمام المؤسسات الدولية، حيث وجه رئيس اتحاد غرف الصناعة السورية، فارس الشهابي، كتاباً إلى وزارة الخارجية السورية، يطالبها بإثارة قضية سرقة المعامل الحلبية في أروقة الأمم المتحدة، مؤكداً وقوع عمليات سرقة بشكل يومي للمعامل السورية، وأن الناس في حلب تصف الرئيس التركي أردوغان بأنه "لص حلب".
ودأب الشهابي على وصف تركيا بـ"دولة الإجرام" وأن تركيا "نهبت كل معامل حلب عن طريق جبهة النصرة، التي سرقت بدورها كل ما له علاقة بالبنية التحتية لمدينة حلب".
أما وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية، فقد شكلت لائحة سوداء بأسماء الشركات التجارية التركية المتورطة في السرقة والفساد لتحظرها من الاستثمار في سورية، واستُحدث مكتب خاص لمقاطعة المنتجات التركية على غرار مكتب مقاطعة "إسرائيل".
كما تحركت سورية عبر القضاء الدولي، حيث قبلت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في ستراسبورغ شكوى مقدمة ضد الرئيس التركي أردوغان في 22 نيسان/ أبريل 2014 بتهمٍ منها التورّط في سرقة معامل حلب والضلوع في تدمير البنية التحتية للاقتصاد السوري. 

صناعة حلب اليوم
العملية المنظمة لسرقة الصناعات الحلبية من قبل تركيا ومرتزقتها تركت دماراً وتخريباً ليس من السهل إصلاحه بسهولة وسرعة، ويحتاج إلى وقت وجهد كبيرين وإجراءات استثنائية. 
وحول الوضع حالياً يقول محمد كمال الجفا: "منذ التحرير الأول في العام 2016 وتحرير الأحياء الشرقية بدأت تتعافى قليلا بعض المناطق الصناعية، وأعيد ترميم الكثير من المعامل، واستمرت عمليات العودة التدريجية حتى العام 2019 وبصورة مقبولة، لكن الوضع الكارثي بدأت تظهر ملامحه في نهاية العام 2019 وخلال العام 2020، ومستمر حتى الآن، بالرغم من المحاولات الخجولة لإعادة ترميم بعض القطاعات الصناعية الهامة في المدينة، ولأسباب كثيرة، منها ما يتعلق بقانون قيصر، ومنها ما يتعلق بإجراءات وقرارات داخلية غير مدروسة، تتعلق بالبنية التشريعية والعقلية الناظمة لهذه القرارات والتعليمات التنفيذية التي يتم إقرارها". 
لكن رغم هذه العراقيل إلا أن هناك محاولات لتحريك عجلة الإنتاج فيما تبقى من منشآت، وفي تقديم الحوافز وتوفير البنية التحتية لإعادة إقلاع ما يمكن من منشآت، وإعادة ما يمكن من المصانع ورؤوس الأموال التي اضطرتها الظروف للاستثمار خارج سورية.
وقد وافق مجلس إدارة المدينة الصناعية في الشيخ نجار على منح المستثمرين إمكانية نقل آلاتهم ومصانعهم إلى مقاسمهم داخل المدينة الصناعية بغض النظر عن توافق الصناعة المراد نقلها مع منطقة المقسم في المدينة.
وتستهدف هذه الخطوة استقطاب المستثمرين السوريين والصناعيين المتواجدين في الخارج، حيث تعمل على تسهيل نقل آلياتهم ومعداتهم ومباشرة العمل في مقاسمهم داخل المنطقة الصناعية.
وأغلبية المعامل التي بدأت تعمل أعادت إنتاج نفسها بقدراتٍ وأيدٍ وخبراتٍ وطنية.
وقد وصل عدد المنشآت في المدينة بعد طرد مجموعات المرتزقة منها إلى أكثر من 6000 معمل.
وقد يكون ما قاله الصناعي عاطف طيفور لـ"لا" أفضل ما يمكن الاختتام به، وقد قال: "أثبت الصناعي السوري حالة استثنائية فريدة وصموداً اقتصادياً غير مسبوق، ونتائج هذا الصمود هي استمرار الصناعة والإنتاج وعودة جزء كبير من الصناعات المدمرة للعمل، وأثبت ولاء للمجتمع والمسؤولية الاجتماعية الوطنية، وتنعكس اليوم في تحسن نسبي بالاقتصاد والإنتاج المحلي والاكتفاء الذاتي والصادرات".