مروان أنعم / لا ميديا -
مع نفحات الفجر الأولى من صباح كل يوم يستيقظ بدران محمد مرشد البالغ من العمر 30 عاماً، بكل نشاط وحيوية، متوجهاً إلى عمله في صندوق النظافة بمديرية الوحدة، ليذهب عقبها إلى المربع الذي تم توزيعه فيه.
تحت حرارة ولهيب الشمس، يمارس بدران مهنته بكل رضا وحب وهو يكنس الأرصفة والشوارع ويجمع مخلفات الناس من دون عناء أو كلل أو شكوى..
يقول: إلقاء المخلفات من نوافذ السيارات أكثر ما يستفزني.
«لا» رافقت بدران ليوم عمل كامل حافل بهموم 8 أعوام هي عمره في  «مهنة المتاعب» الحقيقية والتي استضافها بلاط «صاحبة الجلالة» برسم أن يطلع عليها «أصحاب الجلالة» في الإنقاذ.
عندما تقف أمام عامل النظافة وتحاوره، تشعر بهيبة ذلك البسيط الذي يفرض نفسه بالقوة في حياة وتفاصيل الناس اليومية، وأهمية ما يقوم به من عمل، تخيلوا مدينة بدون عمال نظافة، من سيفتح الشارع والطريق للمهندس والطبيب والمعلم والطالب و.. و..؟! ومن سيرفع تلك الجبال من المخلفات والقمائم التي تتكدس يومياً؟!
يمكن تشبيه عامل النظافة دون مبالغة بـ«حجر زاوية» في بنية الدولة والمجتمع.

***
يقول بدران: «إن عمال النظافة لا يلقون الاهتمام الكافي ولا يتحصلون سوى على عائد بسيط لا يتجاوز الـ30 ألف ريال شهريا، تم رفعها مؤخراً بعد عناء ومطالبات إلى 35 ألف ريال، لا تكفي لإعالة شخص واحد، فما بالك بأسرة كاملة».
ويضيف: «لدي 3 أبناء (ولدان وبنت) وجميعهم يدرسون في مدارس حكومية في مدينة القاعدة، وأنا أقوم شهرياً بإرسال ما أتحصل عليه من الصندوق لإعالتهم وتوفير تكاليف ومصاريف الدراسة».
ويتابع بحسرة: «لا أريد أن أحرم أطفالي من التعليم، خصوصاً وأنني رجل غير متعلم، ولذلك أقوم بأعمال إضافية إلى جانب الدوام الرسمي الذي يستمر لفترتين في اليوم، تبدأ الفترة الأولى من الـ7 صباحاً وحتى الـ11 ظهراً، أما الفترة المسائية فتمتد من الـ3 عصراً إلى 7 مساءً، وما بين الفترتين أقوم بالعمل وتحصيل رزقي من المحلات الخاصة وممن يرغبون في التنظيف أمام منازلهم أو محلاتهم.

***
في أوقات معينة وعند اشتداد لهيب وحرارة الشمس، يسرق بدران دقائق من وقته ليستظل تحت شجرة أو مبنى ليرتشف القليل من الماء أو يأخذ قسطاً من الراحة لإعادة شحذ قواه من جديد والعودة إلى العمل بروح تملأها الحماس واللهفة في تحصيل رزقه من العمل الإضافي الذي يوفر له وجبة غداء، وفي أحسن الأحوال القليل من القات.

***
«عندما تتكدس المدن بجبال من القمامة يفتقد  الناس إلينا وينحازون لتسوية أوضاعنا»..
يلخص بدران العلاقة بين غياب الأوساخ بحضور عامل النظافة وحضور الأوساخ بغياب عامل النظافة.
كمحارب قابض على رمحه يقف بدران متكئا على عصا المكنسة التي تصبح عمودا فقريا للبلد بأسرة عندما يضرب عمال النظافة لجهة إعادة النظر في أوضاعهم الأكثر مأساوية ضمن هيكلية الوظيفة العامة، يقول بعفوية لا ينقصها الصدق:  «تتعالى الأصوات وترتفع بضرورة معالجة أوضاعنا- فقط- عندما نضرب عن العمل».
وغير مجانب للحقيقة يصف بدران عامل نظافة بالجندي المجهول الذي يقتصر حضوره على غيابه  في الحديث اليومي للناس مع كل إضراب.
يختم بدران حديث شجونه بتنهيدة  قائلا: في كل مرة نعود إلى العمل بعد إضراب يعود النسيان إلى سابق عهده مع جملة من الوعود بإصلاح أوضاعنا.

***
وبالرغم من ازدحام وقته بالعمل في صندوق النظافة أو العمل الإضافي الخاص، إلا أنه يجد الوقت كي يحدثك بوعي وفطرة نقية، لا تجدها عند كثير ممن يرتدون أزهى البدلات والكرفتات، عن موقفه الوطني الصادق تجاه العدوان على اليمن الذي وصفه بالظالم والوحشي، ومشيداً في ذات الوقت برجال الرجال من أبطال الجيش واللجان الشعبية الذين يدعو لهم بالتوفيق والنصر.
عند التاسعة أو العاشرة مساءً يعود بدران إلى غرفته (دكان) التي يقطن فيها مع مجموعة من رفاقه الكادحين والبسطاء، ليزيح عن كاهله أتعاب يوم مليء بالتعب والإجهاد والمواقف العديدة التي يلاقيها في الشارع، ليتجه عقبها إلى فراشه بضمير مرتاح ونقي.
هم جنود ظل يخدمون الوطن ككل المهن النبيلة بثبات وعزم، فلا الفقر عيب ولا العمل انتقاص من الكرامة، وإنما العيب كل العيب في قلة الوعي وانعدام السلوك الحضري الذي نشاهده عند الكثير ممن يلقون بمخلفاتهم وقمائمهم على أرصفة الشوارع وفي الممرات.
علموا أبناءكم أن النظافة مسؤولية مجتمعية في المقام الأول، وأن ترك النفايات في غير محلها، ليس سوى تعبير عن جوعهم وفقرهم الأخلاقي.. ذكروهم أن «النظافة من الإيمان»، وأن الدين معاملة ورحمة وابتسامة، وقبل كل ذلك، كونوا أنتم قدوة حسنة لهم، واجعلوا أفعالكم ترجمة لأقوالكم.
تحية لكل عمال النظافة.. لأرواحكم ومثابراتكم أطواق من الفرح والمودة والتقدير.