محمد محمد إبراهيم / مرافئ -
تظل مسألة رؤية شعراء وأدباء البصيرة (العميان) لوجوههم التي يحملونها ولا يعرفونها، وتصورهم للوجه الآخر، قضية بحثية في المضمار النقدي الأدبي، لتفكيك لغز ذاكرة العمى، وكيف يتصور الأعمى وجوه الآخرين من حوله، عبر تتبع حضور الوجه في الأدب العربي، الصادر عن شريحة المبصرين فقط، في أهم ظواهر الشعر العربي، كأعشى قيس، والمعري، وبشار بن برد، وطه حسين، وعبدالله البردوني، إذ إن عطاءهم يشتمل على صور متخيلة بلغة تصويرية دقيقة البيان تجعل من وجودها خيطاً يسرج العقل في دهشة نفاذ البصيرة، كبديل لمأساة فقدان نعمة البصر.
فالشاعر اليمني عبدالله البردوني (1929-1999م) مثلاً، فقد بصره وكان في الرابعة من طفولته بسبب وباء الجدري، فرافقته هذه المأساة طول حياته الزاخرة بالإبداع. ففي ديوانه «وجوه دخانية في مرايا الليل» يطارد الشاعر في قصيدة بالعنوان نفسه وجه حلمه في مفازات الليل وبما يعكس عيشه السرمدي في الظلام:
أيها الليل!.. أنادي إنـما
هل أنادي؟ لا.. أظن الصوت وهمي
إنه صوتي... ويبدو غيره
حين أصغي باحثــاً عن وجـه حلمــي
وفي قصيدته الشهيرة «أبو تمام وعروبة اليوم» التي ألقاها في مهرجان الشعر العربي بالموصل في العراق عام 1971م الذي أقيم تخليداً للذكرى الألف لوفاة الشاعر العربي الكبير حبيب بن أوس الطائي المكنى بـ»أبي تمام»، يوغل البردوني في وصف تفاصيل وجهه الموشى بزمن الهزال والشيب المبكر، متسائلاً في خطابه الموجَّه افتراضاً لأبي تمام، عن سر تعجب الأخير من وجهه المجدور:
(حـبيب) هـذا صـداك اليوم أنشــده
 لـكن لـماذا تـرى وجـهـي وتكتئــبُ؟
مـاذا؟ أتعجب من شيبي على صغري؟
إنـي ولـدت عجوزاً.. كيف تعتجبُ؟!
والـيوم أذوي وطـيش الـفـن يعزفني
والأربـعـون عـلى خـــدّي تـلتهـــبُ
كـذا إذا ابـيض إيـنـــاع الـحيــاة على
وجـه الأديـب أضــاء الفكـرُ والأدبُ
وباعتبار الوجه لوحة بيانية تعكس من الناحية الواقعية أعمال المرء وسمات شخصيته ومرحلته العمرية التي هو فيها، وندوب تعاقب السنين، وآثار المآسي ذات السياق الجمعي، يتخيل البردوني كيف يتهجى الآخرون وجهه المجدور، ولكن في مقام أبلغ من صيغة التعجب الوارد في قصيدة «أبو تمام وعروبة اليوم»، حيث المتهجي لوجه البردوني هذه المرة هو البرق الذي يسطع في ليالي الخريف المطيرة، فيتصور البردوني في قصيدة عنونها بـ»: إلى أين..؟»، نشرت في ديوانه «جواب العصور»، لمع البرق يتساءل عن وجهه المجدور وعينيه المطفأتين، لكنه قبل ذلك يتخيل للريح بصرا ترى به عبر مرورها السريع والخفيف، والرائي البردوني إذ يوغل في ذلك التداعي التصويري الشعري يذهب إلى إسقاط تاريخي لمحطات المآسي اليمنية المقرونة بحكام وأئمة ظلمة لا هم لهم سوى انتظار الغلال الموسمية مما يزرعه الفلاحون اليمنيون، على جمر الصبر والكفاح، فيقول:
وأستنطق الريحَ ماذا رأت
وأستخبر السّيلَ من أين سالْ؟
ويسألني البرقُ: مَن أنت، هل
قرأتَ كتابَ انتظارِ الغِلالْ
ومن ذا رمى بكَ قلبَ الزّحام
وأطفأ في مقلتيك (الذُّبالْ)؟