وليد مانع / لا ميديا -

تقع كربلاء غرب نهر الفرات على بعد 107 كيلومترات جنوب غربي العاصمة بغداد. يحدها من الشمال محافظة الأنبار، ومن الجنوب محافظة النجف، ومن الشرق محافظة الحلة وقسم من محافظة بغداد، ومن الغرب بادية الشام وأراضي السعودية. تحيطها البساتين، ويسقيها نهر الحسينية المتفرع من نهر الفرات والذي يبلغ طوله 29 كيلومترا.
قال بعض اللغويين إن "كربلاء" اسم منحوت من كلمتين: "كرب" و"إل"، وتعني "حَرَم الله" أو "مقدس الله". وفي كتاب "كربلاء في الذاكرة" لسلمان هادي الطعمة، كربلاء معناه "قرب الآلهة". وذهب آخرون إلى أنه مشتق من "كور بابل"، وتعني مجموعة قرى بابلية قديمة منها نينوى والغاضرية وكربلة (بتفخيم اللام) وكربلاء وعقر بابل والنواويس والحائر والطف... وهي جميعا أسماء أطلقها المؤرخون على كربلاء، فيما قال آخرون إن الاسم مشتق من "الكرب والبلاء" الذي حل بها يوم استشهاد الإمام الحسين عليه السلام.
وذكر الحموي ثلاثة أوجه لاشتقاق الاسم: الأول: الكربلة وهي الرخاوة في القدمين، وعلى هذا يجوز أن أرضها رخوة فسميّت بذلك، والثاني: كربل الحنطة إذا هَذْبها ونقّاها أو غربلها، وعلى هذا يجوز أن أرضها منقاة من الحصى ونحوه فسميت بذلك، والثالث: الكربل هو نبات الحماض، وقد تكون كثرة هذا النبات هناك سببا للتسمية.
ويعتقد البعض أنّ أصل الكلمة "كار بالا" الفارسية وتعني: الفعل العلوي، فعُرّب بـ"كربلاء".
يرجع تاريخ كربلاء إلى العهد البابلي والآشوري. وازدهرت في العهد الكلداني، وسكنها قوم من النصارى والدهاقين، وأقاموا فيها وحولها معابد للصلاة. وقد عثر فيما حولها على جثث موتى داخل أوانٍ خزفية يعود تاريخها إلى ما قبل عهد المسيح عليه السلام.
ازدهرت أيضا في عهد التنوخيين واللخميين أمراء المناذرة حين كانت الحيرة عاصمتهم. واكتسبت أهمية في التجارة لموقعها المشرف على الطرق المؤدية إلى الحيرة والأنبار وإلى الشام والحجاز.
في العهد الإسلامي، فتحها خالد بن عرفطة، واتخذها معسكراً لجيشه فترة من الزمن، قبل أن ينتقل إلى الكوفة.
أما عمرانها فلم يبدأ إلا في 12 محرم سنة 61هـ بعد واقعة الطف (الأولى) بيومين. ولقد شهدت كربلاء الكثير من الأحداث والوقائع والتقلبات التاريخية. أشهرها: وقعة "الطف الأولى"، ووقعة "الطف الثانية".
وقعة الطف الأولى كانت في 10 محرم سنة 61هـ، واستشهد فيها الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه جميعا، والواقعة معروفة وشهيرة.

وقعة الطف الثانية
أما وقعة أو جريمة "الطف الثانية" -كما أطلق عليها الكثير من المؤرخين- فغائبة عن أذهان كثير من العرب والمسلمين اليوم، وهي شبيهة بوقعة "تنومة"، الجريمة التي قتلت فيها الوهابية ما يربو على 3000 حاج يمني.
ففي 18 ذي الحجة سنة 1216هـ (يوم عيد غدير خم)، الموافق 2 أبريل/ نيسان 1802 كانت كربلاء خالية إلا من النساء والأطفال والشيوخ المقعدين، أما بقية أهلها فكانوا في النجف في زيارة للروضة العلوية. انتهز محمد بن سعود تلك الفرصة ليقود جيشاً من الوهابية (قدر عددهم بـ 12000 - 25000) ويتسلل بهم إلى كربلاء ليعيثوا فيها قتلا وتنكيلا ودمارا ونهبا... وهدموا قبة الروضة الحسينية ونهبوا الأموال والنفائس...
كان الوهابية قد أرسلوا قبل ذلك جماعة منهم إلى كربلاء متنكرين بزي الزوار، واتصلوا بالحاكم التركي لكربلاء آنذاك، عمر آغا، وعقدوا معه اتفاقا سرياً، انسحب بموجبه مع أفراد الحامية التركية إلى قرية "الهندية" القريبة من كربلاء، قبل أن يدخلها الوهابيون.
الجريمة استفزت مشاعر البريطاني ستيفن همسلي لونكريك، ليقول في كتابه "أربعة قرون من تاريخ العراق"، إن الجريمة "تدل على منتهى القسوة والهمجية والجشع, وارتكبوها باسم الدين". وفي أوائل سنة 1802 كان قد تفشى الطاعون في بغداد, فاضطر سليمان باشا الكبير وحاشيته للالتجاء إلى "الخالص"، ابتعادا عن منطقة المرض. وما كاد حاله أن يستتب هناك حتى فوجئ بنبأ أن الوهابية تحركوا "للغزو الربيعي المعتاد" بحسب وصف لونكريك، فأرسل الكهية علي باشا إلى "الهندية"، ولكن وصول علي باشا إلى كربلاء لم يُجْدِ نفعاً؛ لأن حاكم كربلاء آنذاك (عمر آغا) لم يعمل شيئاً لحماية البلدة، وكان متواطئاً مع المجرمين سراً، وعندما اقترب المجرمون انسحب من كربلاء إلى قرية الهندية القريبة، بحسب لونكريك أيضا... وفي ذلك يقول الأستاذ جعفر الخياط أيضا: "والملاحظ أن عمر آغا هرب إلى قرية قريبة من كربلاء حين علم بالخطر، فلم يدافع قط، وكان الناس يتهمونه بمخابرة الوهابيين والتواطؤ معهم". نزل الوهابيون في إحدى ضواحي كربلاء، ونصبوا خيامهم وقسموا قوتهم إلى ثلاث فرق... ومن وراء أحد الخانات شنوا هجومهم على أقرب باب من أبواب المدينة، وفتحوه عنوة ثم تسللوا إلى داخلها، فاندهش السكان وأخذهم الذعر وراحوا يهربون على غير هدى. "واصل الوهابيون المتوحشون طريقهم إلى الأضرحة المقدسة وشرعوا في تخريبها، فاقتلعوا القضبان المعدنية والسياج من أماكنها ونهبوا المرايا الكبيرة والنفائس والحاجات الثمينة بينها هدايا الباشوات وأمراء وملوك الفرس وسلبوا أيضا زخارف الجدران وقلعوا الذهب من السقوف وأخذوا الشمعدانات والسجاجيد الفاخرة والمعلقات القيمة والأبواب المزخرفة والمرصعة... ولم يكتفوا بهذه الأعمال، بل قتلوا قرابة خمسين شخصاً بالقرب من الضريح، والآلاف خارج الضريح. وعاثوا في المدينة فسادا وتخريبا، من دون رحمة، قتلوا كل من صادفوه، كما نهبوا المنازل، ولم يرحموا الشيخ ولا الطفل ولم يحترموا النساء، فلم يسلم الجميع من وحشيتهم".
قدر عدد القتلى بحوالى خمسة آلاف شخص، بينهم العلماء وسدنة الروضة الحسينية. ومن بين الشهداء في تلك الواقعة: العالم الجليل عبد الصمد الحسيني الهمداني الحائري، الميرزا محمد طبيب الإيراني، الميرزا محمد طبيب اللكهنوري، علي نقي اللاهوري، وشقيقه الميرزا قمر علي، السيد محمد موسى (سادن الروضة الحسينية) وإخوته السيد حسن والسيد حسين وأبناء عمومته.
أما المنهوبات في تلك الجريمة فيصفها كثير من المؤرخين العرب والأوربيين بأنها "لا تقدر بثمن". وجاء في دائرة المعارف الإسلامية ما نصه: "ونهبوا البيوت والأسواق ونفائس الضريح المقدس، وقد أخذوا على الأخص صفائح الذهب بعد أن اقتلعوها من أماكنها ثم هدموا الضريح المطهر. ويصف لونكريك ما نهبه محمد بن سعود وأتباعه من هذه النفائس بقوله: "عاد وحوش نجد الكواسر إلى موطنهم ثقالاً على إبلهم التي حُملت بنفائس لا تقدر بثمن".
قبل ذلك كان المتوكل العباسي قد عبث بالمدينة وهدم ما فيها. وفي 247هـ أعاد ابنه المنتصر بناء مشاهدها وبنى الدور حولها، بعد مقتل أبيه. ويمكن تلخيص أبرز الأحداث التي شهدتها كربلاء مذاك في التالي:
• في 280هـ أمر من محمد بن زيد حاكم جرجان ببناء قبة الروضة الحسينية وتسويرها وبناء بيوت سكنية لمجاوريها.
• في 369هـ هجم حاكم مدينة عين التمر، ضبة بن محمد الأسدي، على كربلاء وقتل الأبرياء وعبث بالروضة الحسينية ونهب ما فيها. وفي 372ه‍ أمر عضد الدولة البويهي بتشييد أول سور للمدينة، وبناء وحدات سكنية وتجارية، وتشييد المدرسة العضدية ومسجد رأس العين.
• في 407 ه‍ بنى الوزير الحسن بن الفضل بن سهلان الرامهرمزي سورها الثاني، ونصب له بوابات حديدية في الجهات الأربع.
• في 489 ه‍ أغارت عشائر الخفاجة على كربلاء. وفي 795ه‍ هجم عليها تيمور لينك وسيطر عليها. وفي 858 ه‍ هاجمها حاكم البصرة، علي المشعشعي، وقتل الناس وأسر أهلها ونهب الروضة الحسينية.
• في 914ه‍ أمر الشاه إسماعيل الصفوي بتجديد بناء الروضة الحسينية.
• في 1216ه‍ زارها أحد ملوك الهند وأمر بإعادة بناء الروضة الحسينية بعدما نسفها الوهابيون.
• في 1217هـ تم تشييد سورها ثالث بمساعي السيد علي الطباطبائي.
• في 1241هـ هاجمها الأتراك ونهبوا ممتلكاتها. وكرروا الهجوم في 1258هـ بقيادة محمد نجيب باشا. وفي 1285هـ تم ترميم سور المدينة، وبناء حي العباسية.
• في 1338هـ انطلقت الثورة العراقية من مدينة كربلاء بعدما أفتى الشيخ محمد تقي الحائري الشيرازي بتحريم اختيار غير المسلم لحكم العراق.
• في 1397هـ قامت قوات البعثيين بإبادة زوّار الروضة الحسينية في 20 صفر (الأربعينية الحسينية).
• في 1411هـ شن البعثيون هجوما على كربلاء لقمع الانتفاضة الشعبانية وقتلوا الكثير من أهلها.