الصورة الأيقونة .. جراح وصمود
- تم النشر بواسطة أنس القاضي / مرافئ لا
أنس القاضي / مرافىء -
طوال السنوت الماضية من العدوان والصمود المستمرين، تخلدت مشاهد في الذاكرة لم تطمرها صور الأخبار اليومية، وتحولت إلى أيقونات عكست الواقع بشكل عميق، وتكثفت فيها سماته، جانب المأساة والحزن والتوجع التراجيدي، وجانب المقاومة والكبرياء والصمود الملحمي.
ارتقت هذه الصور في تعبيرها إلى مصاف القصيدة والخطاب البليغ، فإذا صحت مقولة أن الصورة بألف كلمة، فصور كهذه لا عامة الصور.
كثيرة هي الصور التي تخلدت، وقد أخذت منها عينة بحثية في هذه المقاربة، في الجانب الملحمي: صورة الجندي الحافي، أبو حرب الملصي، المجاهد الذي يحمل زميله الجريح، سلاح الولاعة، صورة تسلق موقع العدو بالسلم. وفي جانب المأساة: صورة الأم التي ترقرق الدمع في مقلتيها، صورة الطفلة بثينة، صورة البحث عن الحياة في الركام، صورة الأب ووالدته الشهيدة. إن خلود هذه الصور يعني قدرتها على التعبير عن مختلف الأحاسيس والجوانب الروحية والنفسية لدى الإنسان اليمني في هذه المرحلة الاستثنائية من تاريخه.
الصور الخالدة مواضيع جمالية
مختلف الصور التي تخلدت في هذه المرحلة اتسمت بالقدرة على التأثير على إحساس وشعور الإنسان المشاهد باختلاف درجات الوعي بها، من التلقي العادي إلى التقبل الجمالي فالتذوق والإحساس بها، كما اتسمت هذه الصور بوحدة الظاهر والجوهر، والمشاهد يدركها من ظاهرها إلى جوهرها، وعلى سبيل المثال فصورة الأم التي تكاد تسقط دمعتها يُمكن إدراك هذه الصورة من ظاهر الملامح الحزينة، والانتقال أعمق إلى الإحساس بالمعاناة النفسية والمشاعر الداخلية لهذه الأم.
الوعي الجمالي وعي اجتماعي
الوعي الجمالي شكل خاص من أشكال الوعي الاجتماعي، فالموقف الجمالي الذي يتخذه الإنسان تجاه الواقع ليس انعكاسا سلبياً للمواضيع الجمالية، بل هو نوع خاص من الممارسة الاجتماعية التي تتطور لدى الإنسان، وتتباين من إنسان إلى آخر، فهناك إنسان مرهف الإحساس والشعور، وهناك إنسان متبلد المشاعر، فتأثيرات الصور ذات المواضيع الجمالية تختلف من فرد إلى آخر.
ولأن الوعي اجتماعي، فللموقف الاجتماعي السياسي، دور في تقبل المواضيع الجمالية، فما قد يبدو حزيناً لشرائح ما يُمكن أن يكون كوميديا ومسلياً لآخرين، فالموقف الاجتماعي له دور في صياغة تقبل المواضيع الجمالية؛ فالمتعصب والحاقد والمرتزق على سبيل المثال حين يرى صور قوافل شهداء الجيش واللجان الشعبية، يتولد لديه الشعور بالفرح والتشفي من قتلى خصومه، فيما الصور ذاتها تولد لدى الوطنيين مشاعر السمو والإجلال والإكبار والحماسة.
طاقة تعبيرية للصور الخالدة
عندما يشاهد الإنسان إحدى هذه الصور الخالدة، فإنه يشعر بإحساسات روحية خاصة تشده لإدراك هذه الصور وتذوقها، فصورة الطفلة بثينة على سبيل المثال تولد شعوراً بالتعاطف، صورة الجندي الحافي تولد شعورا بالشجاعة، وصورة المجاهد الذي يحمل رفيقه الجريح تولد شعورا بالسمو، الطاقة التعبيرية لهذه الصورة كامنة في موضوعها الجمالي ذاته؛ فقد صورت فجأة من دون سيناريو في لحظة انفعال ووحدة للظاهر والجوهر الإنساني.
العالم الروحي للإنسان في هذه الصور عالم ثري، وقد انعكس على نحو عميق من خلال تعابير الوجه كما في صورة الأم التي تكاد تدمع، وفيه ملامح وجه الملصي، كما انعكست من خلال حركات الجسم وإيماءاته وإشاراته، كصورة الرجل الذي يحتضن والدته الشهيدة، وكصورة بثينة، وكصورة رفع الركام، مختلف هذه الصور تولد لدى المتذوق أحاسيس إنسانية إيجابية كالحماسة والإجلال والسمو والتعاطف والحنو والحب.
الرشاقة في علم الجمال تعبر عن جمال حركات الجسم البشري، والتناسب فيه، فالرشاقة طاقة تعبيرية مؤثرة لدى الإنسان، ولا تعني الرشاقة الجسد النحيل كما في المفهوم الشائع، ومن أبرز الصور التي عبرت عن جماليتها برشاقة حركات الجسم وانسيابيته، صورة الجندي الحافي وصورة المجاهد الذي يحمل رفيقه الجريح، وصورة المجاهد الذي يصعد إلى العدو بتأنٍ على سلم الألمنيوم، وهذه الصور ليس مصدر جماليتها فقط ظاهر الجسم وحركاته الرشيقة، فاللسمات الظاهرية مرتبطة بالجوانب الروحية الداخلية للشخصيات، الشجاعة والإقدام لدى الجندي الحافي، والإخلاص والفدائية لدى المجاهد الذي يحمل رفيقه الجريح، والثقة والإصرار لدى من يصعد السلم.
استخراج الحياة من الركام
في صورة البحث عن الحياة في الركام، تبرز 3 شخصيات، واحداً واقفاً في لحظة صمت وتوجع، و3 ينفضون الحجارة والتراب من الركام للبحث عن الناجين، لكل واحد منهم اتجاه في لحظة تشتت، ومن خلفهم حشد من الناس لا تظهر صورهم من فرط الغبار. تبرز في الصورة رشاقة الحركة واندفاع الحصى والتراب من الأسفل إلى الأعلى، حركة الأجساد والتراب والتوترات في انثناءات الملابس تعطيها طاقة حركية مستمرة.
أبو حرب الملصي
تظهر في ملامح صورة الملصي، صورة الإنسان اليمني الحر، حدة النظرات، وقسمات الوجه، الشعر الفوضوي بثورية، ربطة الرأس، لمعة الضوء في الوجه التي تدل على وضوح الموقف، تنعكس في السمات الظاهرية للشهيد الملصي السمات العامة لملامح الشخصية اليمنية عموما والشخصية القبلية خصوصاً.
أصبحت صورة الملصي أيقونة لدى الشَعب، ولقبه «أبو حرب» انتشر وتعمم من بعد استشهاده، وكذلك هيئته الخارجية: إطلاق الشعر بفوضوية ثورية وربطة الرأس، وهذه الصورة تراها اليوم على السيارات والدراجات النارية كصور لاصقة بالأبيض والأسود، تنافس صورة الثائر الأممي تشي جيفارا التي تحولت إلى أيقونة ثورية عالمية.
ليست الملامح الظاهرية وحدها التي أعطت لصورة الملصي
هذه الأهمية، فالجوانب الروحية الغنية والقيمية سمات الشجاعة والفداء والصلابة وقوة الإرادة والشجاعة في قول الحق والوفاء للقسم العسكري، قصة انطلاقه إلى الجبهة، هذه السمات الداخلية العميقة أعطت لصورته هذا الحضور والهيبة، فتحولت إلى أيقونة.
رجل وأمه الشهيدة
هذه الصورة نموذج لصور المأساة والحزن، طبيعة موضوع الصورة، وظروف التقاطها في المساء أعطتها قدرة تعبيرية عميقة، فمن حيث الظاهر الصورة فيها كتلة كبيرة من الظلام، فالسوداوية تحيط بالشخصيتين الرئيسيتين، وسط هذا الظلام يختفي الركام، وتتركز الأضواء على رجل يحتضن والدته الشهيدة، تبدو الأم كأنها مستندة إلى ذراع ابنها نائمة، إلا أن موتها يتجلى في ارتخاء يدها وجسدها.
الرجل في حالة صدمة، يده اليسرى تسند ذراع والدته المتوفاة، فيما يده اليمنى سلمت بموتها فتدلت خائبة. تظهر ملامح وجه الرجل نظرة انكسار وحزن وعجز عن ممانعة الدموع، ملابس كل من الأم الشهيدة وولدها ممهورة بالتراب، فيها انثناءات تحفظ الكثير من التوترات الجسدية التي رافقت لحظة الموت وانتشال الجسد من بين الركام. هذه الصورة تبعث على الحزن والأسى والتوجع، وتثير مشاعر التعاطف.
دمعة الأم
صورة الأم «حمدة» التي يترقرق الدمع في مقلتيها، من أبرز الصور التي عبرت عن معاناة وحزن المرأة اليمنية التي فقدت أحباءها، العينان فيهما ثبات في الرؤية ينم عن الصمود، يحيط به الحزن والوجع الذي يتجلى في احمرار العين بلون الدم، والدمع الذي يكاد يفيض من الجفن الأسفل. ينطبق الفم في لحظة أسى لا صمت، فالكثير مما عجز الفم عن التعبير عنه بالنطق، عبرت عنه العيون، بدمعها ودمها ونظرتها وتورم محيطها، والتماعات الضوء فيها.
بثينة عين الإنسانية
صورة بثينة عين الإنسانية الأكثر شهرة، والتي وصلت إلى العالمية، يكمن السر في هذه الصورة أنها غدت مثالاً عن معاناة الطفل اليمني في الحرب العدوانية على بلادنا.
الطاقة التعبيرية في صورة بثينة عالية ومؤثرة، وفي هذه الصورة تتفاعل تعابير الوجه مع تعابير اليد، فالكف تحاول أن تفتح العين اليمنى، فيما العين اليسرى مغلقة حولها دائرة من الحمرة المدماة، والفم فيه نصف انفراجة يترافق فتحه بصعوبة مع فتح العين.
صورة بثينة تثير إحساسات عديدة، وأهمها مقاومة الظلام والوجع، والتمسك بالحياة والأمل. هذه الصورة بما ولدته من مشاعر تعاطف مع مظلومية اليمن، دفعت العدو إلى اختطاف الطفلة إلى السعودية والتظاهر بمساعدتها، لقد كان الإجراء ساذجاً، فصورة بثينة تحولت إلى رمز وتجاوزت الشخصية ذاتها، وستظل تحمل دلالة رفض اليمني للظلم وللظلام، ومقاومته للموت والحزن والوجع، وإصراره على النظر من جديد إصراره على الحياة.
المجاهد اليمني يعيد القيمة للفرد المقاتل
كادت الحروب الحديثة أن تقضي على الميزات الفردية وعلى الشخصية الإنسانية للمقاتل، مشاهد اقتحامات الجيش واللجان الشعبية لمواقع العدو أعادت القيمة للفرد الإنسان، للقوة والصلابة الجسدية والروحية؛ حين قهر المقاتل اليمني الآلة العسكرية والتحصينات المعقدة للعدو.
تبرز الكثير من الصور المؤثرة التي تبين قيمة الفرد المقاتل وتفوقه على السلاح المتطور والتحصينات المعقدة، وعلى حشود العدو، وهي صورة إحراق المقاتل اليمني أحدث الآليات بالولاعة، وكذلك وضع المقاتل اليمني فوهة بندقيته في فوهة الدبابة السعودية التي تُركت وهرب أفرادها، وصورة تسلق الموقع السعودي بالسلالم، وصورة الفرد المقاتل الحافي الذي يرمي بالقنبلة، وصورة مهاجمة العدو بالحجارة، في هذه الصور ومثيلاتها انتصار للإنسان اليمني في مواجهة آلة الحرب الغربية. هذه الصور تثير في الإنسان إحساسات الشجاعة والحماسة، وتولد لديه مشاعر السمو والإجلال لهؤلاء المجاهدين الوطنيين، ولعبت هذه الصور دورا في تحفيز الشباب على الالتحاق بجبهات الحرية.
صورة المقاتل الحافي، وصورة الصاعدين بالسلالم، تنتهي بمن يشاهدها إلى الحسم بانتصار الشَعب اليمني الذي يقهر كل التحديات، ويصعد للعدو إلى مواقعه، والذي يُثبت أن مواقع الرفعة والسمو والعلو هو الأجدر بها إنسانياً وحضاريا، سيداً في الجزيرة العربية.
روحان حلا جسداً
صورة ومشهد المجاهد ورفيقه الجريح، بالغة التأثير، فهذا المشهد يعكس البطولة والإخلاص والتضحية، ويعكس القيم الإنسانية والأخلاقية والدينية والتربية المعنوية السامية التي يتحلى بها أبطال الجيش واللجان الشعبية، فهذا المشهد هو ما التقطته الكاميرا، وهناك مئات المشاهد المماثلة التي لم توثق.
حركة المجاهد وهو يحمل رفيقه الجريح برغم ثقل وزنه، يحمله ويتحرك به بخفة دون أن يأبه للرصاص الذي يهطل بين قدميه، وإصراره على حمل رفيقه لينجوا معا أو يستشهدا معاً، هذه الصورة تحققت فيها الوحدة الروحية والوحدة التكوينية للرجلين اللذين باتا روحين في جسد واحد، في مشهد كأنه قادم من قصيدة صوفية، إلا أنه مشهد من حياة يومية ملموسة، ومن علاقة أخوية إيمانية رفاقية عظيمة تربط بين أبناء الجيش واللجان الشعبية، يفتقرها جيش العدوان ومرتزقته، الأمر الذي دفع قناة سعودية إلى سرقة المقطع والادعاء بأنه لجندي سعودي ورفيقه!
السمو أبرز ما في الصور والمشاهد البطولية
إذا ما بحثنا عن مفهوم دقيق لوصف الصور التي تعكس الجانب البطولي في مواجهة العدوان، فإن مقولة السمو هي المقولة الأكثر دقة والأقدر على شمل مختلف سمات هذه الصور العظيمة، والقدرة على التعبير عن العالم الروحي للمجاهدين الوطنيين من الجيش واللجان الشعبية والأجهزة الأمنية.
تعني مقولة السمو تلك المظاهر في عالم الإنسان الروحي، التي تتجلى في أعماله وتصرفاته وموقفه إزاء الآخرين، وتدل على صلابة الإرادة والتفاني الرفيع والعواطف الجياشة والأهداف العظمى التي تتوخى خير المجتمع وإيثار مصلحة المجتمع على مصلحة الفرد، واستعداد الإنسان لتسخير قواه بل حياته إذا تطلب الأمر لخير تقدم المجتمع وتحرره الاجتماعي، ومن أجل الاستقلال الوطني وتطور العلوم والمعارف، من أجل يمن حر وشعب سعيد.
المصدر أنس القاضي / مرافئ لا