حاوره: نشوان دماج / مرافىء

لا يهم بالنسبة له تصنيف الأشكال الشعرية، فالأهم هو أن تمثل القصيدة استجابة للموقف الوجداني والوجودي، وتستهدف وظيفة التغيير الفاعل في المجتمع، تتجاوز المألوف والسائد على مستوى اللغة وواقع الناس.
الأكاديمي الدكتور نجيب عبده الورافي من مواليد 1966 في وراف جبلة بمحافظة إب، تلقى تعليمه الأولي في معلامة القرية ودرس الابتدائية هناك، وانتقل إلى دراسة المعلمين في مدينة إب، ثم واصل تعليمه الجامعي في تعز، والعالي في كل من بغداد والقاهرة. حاصل على الدكتوراه في الأدب بمرتبة الشرف الأولى من قسم اللغة العربية بكلية الآداب في جامعة عين شمس بالقاهرة. عين في قسم اللغة العربية كلية الآداب بجامعة ذمار، ثم أستاذا مساعدا. يعمل حاليا أستاذ الأدب والنقد المساعد. شارك في عدد من المهرجانات والفعاليات الثقافية الشعرية والنقدية في تعز وصنعاء وفي بغداد والقاهرة، نال جائزة رئيس الجمهورية للمبرزين في اليمن ودروعا تكريمية وشهادات تقدير ومشاركة من جهات وفعاليات ثقافية في اليمن وخارجها.
في حواره الذي خص به مرافئ «لا»، يتحدث الدكتور نجيب الورافي عن الإشكاليات التي خيمت على الساحة الأدبية في بلادنا، من منطلق كونه شاعراً وروائياً، بالإضافة إلى كونه أكاديمياً ناقداً، فإلى الحوار:

لقب لا أستحقه
 لنبدأ معك دكتور نجيب من تجربتك مع الشعر.. كيف ومتى بدأت؟
شكرا لكم أستاذ نشوان ولمرافئ «لا». أخجلني سؤالكم الكبير والقدير، فشكرا لكم ثانية. الشاعر لقب لا أستحقه، وتجربة الشعر رتبة أنا دون مستوى الوصول إليها. حاولت كتابة القصيدة وجربت فيها شأن كثيرين غيري كتبوا الشعر وغابوا لأسباب تحتاج إلى حديث طويل، أما متى فقد كانت البداية أيام الدراسة الثانوية، كنت أكتب الشعر لأتعلمه، وفي المرحلة الجامعية غامرت بنشر بعض نصوصي في الملحق الثقافي لصحيفة «الثورة» 1988، وبعدها واصلت النشر في عدد من ملاحق الصحف اليومية كـ«الثورة» و«الجمهورية» والصحف الثقافية كصحيفة «الثقافية» و«البريد الأدبي». ولا بد هنا من الحديث عن هذه المطبوعة الرائدة. «البريد الأدبي» صحيفة أدبية أسسها الناقد والشاعر الكبير عبدالودود سيف، وقد كان لما فعله عظيم الأثر في إثراء المشهد الشعري ليصدر الأستاذ عبدالودود بعدها كتابا توثيقيا هو شعراء التسعينيات في اليمن، حوى مختارات من النصوص المنشورة، وصدرها بدراسة نقدية عن الجيل الشعري التسعيني. كل ما كتبته هو مجرد نصوص تستطيع وصفها بالطفولية، وهي الآن سطور طي النسيان في دفاتر مهملة وفي حكم الضائعة أو على حائطي الإلكتروني، أصبح لدي قناعة راسخة أنه مادام ما تقوله لا يضيف شيئا جديدا فنسيانه على صحائف المسودات أقل وجعا من رؤيته منبوذا على قارعات العيون والأسماع.
  ذلك يقودنا إلى سؤال هو ما الأثر الذي يتركه ذلك على المبدع؟
بانعدام دور الطباعة والنشر يختنق الإبداع ويموت، ففي كل أمة هناك بنيتان للنتاج الإبداعي سواء الأدبي أو العلمي المعرفي؛ بنية منتجة وتتمثل في فئات المبدعين من شعراء وروائيين وقاصين، وبنية ناقلة للنتاج الإبداعي، وهذه الأخيرة بمثابة جهاز تفاعلي تواصلي لا يقتصر دوره على تعميم ثقافتك، بل يمدك بجسور تواصل للمثاقفة مع غيرك وفي صدارتها الكتاب المنشور والترجمة، وسواهما، وجود النص في كتاب يحفز ويضاعف الإبداع في كل مجال.

فوبيا النشر
  لعل ما قلتموه حول النشر يفسر أنه ليس لديكم أي ديوان شعر مطبوع حتى الآن.. وهل من أسباب أخرى يمكن إضافتها كعدم وجود دور نشر وغير ذلك؟
 ما قلته رأي خاص ربما تبلور من إمعان النظر في تجربة الشعر العربي والإنساني وتقييم مستواها الذي يبلغ بك حد الذهول ويجعلك تنظر لما كتبت أنه دون مستوى حتى أن يقرأ، وربما يجتمع أكثر من سبب، ومع ذلك لدي مقالات نقدية منشورة في مجلات نقدية وثقافية. الإحجام عن النشر ليس القاعدة. النشر والمقروئية هما الأساس وما عداهما هو الشاذ، ومن يبحث في إشكاليات المشهد الأدبي المعاصر في اليمن سيجد أن أهم ما أعاق الحركة الأدبية المعاصرة في بلادنا هو الافتقار إلى دور نشر ومؤسسات تعنى بالثقافة الكتبية.

محكات صقل الإبداع
  هل كان للبيئة من حولك تأثيرها؟ وكيف انعكس عليك ذلك الأثر، خصوصا وأنك من أسرة تميل إلى علوم اللغة؟
 قد اتفقنا سابقا أن لقب الشاعر لا يخصني. ومع ذلك فهناك لا شك علاقة بين أي كاتب للشعر أو لسواه بمحيطه المكاني والثقافي المعرفي والاجتماعي، ويبقى الإبداع الكتابي في أي جنس أدبي رهين المراس والدربة والاتصال والمثاقفة. محيط الأسرة المعرفي، جماليات المكان، وربما تخصص الأديب المعرفي وقربه من حقل الأدب والصداقات، مؤتمرات الأدب، النشر، هي محكات هامة وضرورية لصقل الإبداع.

التصنيف لا يهم
  ميلك لكتابة قصيدة التفعيلة هل يُستشف منه عدم كتابتك للعمودي؟
 لا يهم تصنيف الأشكال الشعرية، والأهم أن تمثل القصيدة استجابة للموقف الوجداني والوجودي، وتستهدف وظيفة التغيير الفاعل في المجتمع، تتجاوز المألوف والسائد على مستوى اللغة وواقع الناس.

حياد الشاعر موقف فلسفي
  قضية الحياد والالتزام في الأدب هي قضية قديمة متجددة، ما هي رؤيتكم فيها؟ 
 دعنا أولا نتفق على تحديد مفهومي الموقف والحياد، فمعناهما مرهون بسياقات ثقافية تاريخية. منذ اليونان إلى العرب إلى سواهم كان الشاعر يتحدث بلسان مجتمعه ويعبر عن قضاياه. ففي العصر الهيللينستي اليوناني تحدث أقدم شعراء اليونان متغنين بأمجاد بطولية للشعب اليوناني، وأبرزها البطولات الرياضية، وعند العرب الجاهليين تغنى شعراء كل قبيلة بأمجادها، ثم انتقل صوت الشاعر إلى ديوان الملك وارتبط بهباته ودار في فلكه، كما حدث مع النابغة والنعمان بن المنذر! من يومها صار لكل بلاط شعراؤه من الأمويين إلى العباسيين حتى العصر الحديث.. أما الحياد للشاعر فقد مثل إلى الماضي القريب موقفا فلسفيا إما باتجاه رأسي عمودي مفاده الانشداد إلى سلطة الماضي أو ما شاع تسميته بالقطب الأبوي المقدس كما هو الشأن مع الشعراء الكلاسيكيين، وإما باتجاه أفقي نحو الذات ونعني بذلك فلسفة الشعر الرومانتيكي بخطابها المنحاز لذاته المنسحب من خارجها. هذا الموقف الانعزالي حول معظم خطاب الرومانسيين إلى حالة وجدانية جمالية منفصمة عن الحالة الوجودية. ومن مفارقات ذلك الصدع بين الوعي والواقع أن تجد مثلا شاعرا عربيا يشاطر شاعرا إنجليزيا أنينا وجدانيا وخطابا واحدا يدور في عالم الميتا ـ واقعي دون انتباه أن بريطانيا تحتل نصف الوطن العربي. وهو ما يفسر الغياب السريع للشعر الرومانسي، فمات في مهده، صار تراثا.. فماذا يعني موقف الشاعر؟ الموقف ليس حيادا ولا انحيازا؛ فالحياد يضع الأديب في موقع السلبي المستلب، ويجعل ما يقوله بلا ثمن ولا هدف، والانحياز يضعه على مفترق استقطاب أيديولوجي أو سياسي وغير ذلك من معسكرات الانتماءات الصغيرة. موقف الشاعر والأديب يتخلق من علاقة عضوية بين الأديب ومجتمعه في ظل منظومة موحدة الرؤية للذات والواقع واللغة، رؤية لها صفة التواصل والديمومة. كانت الفلسفة الماركسية هي الفتح الأكبر في بلورة موقف الأديب بما أتى ضمنا وعرضا في طروحاتها النظرية حول حركة التاريخ وتفسير الصراع الطبقي الاجتماعي، إذ كانت الثقافة والأدب سياقا من سياقات النظرية الاجتماعية. وعن ذلك صاغ جرامشي مفهومه للمثقف العضوي ليتبلور مبدأ التزام الأديب الذي يشمل الموقف في الرؤية والفن. أختلف مع من يقيم فاصلا بين شكل الشعر وواقعيته، ويقيم تلك الواقعية في نطاق نوع شعري بعينه. السياب كان شاعرا واقعيا أنموذجا للالتزام، فهل يعني ذلك أن البردوني والجواهري ليسا شاعرين واقعيين ولا يمثلان موقفا؟ تلك الفواصل في النوع الشعري فصلتها بسذاجة قواعد التيارات الشعرية المتماحكة!

مفهوم خاطئ
   أين يمكن أن يصنف الشاعر نجيب الورافي نفسه بخصوص مسألة الحياد أو الموقف، خصوصاً وأنك تجمع ما بين الأدب والانتماء الحزبي للاشتراكي اليمني؟ 
 سوف ألوي عنق الحديث من الذات إلى العام كما تعمدت ذلك من البداية، ولنتحدث عن العلاقة بين الشاعر والأديب ثم المثقف عامة وبين انتمائه الأيديولوجي والسياسي، أو لنقل قناعاته. لا شك أن ثمة علاقة بين الأديب وقناعاته، وعن تلك العلاقة يتبلور وعيه وتصوره ليصوغ العالم وفقا لها. لكن هل معناه أن أديبا اشتراكيا لا بد أن يحاكي قوانين التطور الاقتصادي الاجتماعي من فم ماركس وإنجلز؟ ذلك هراء. كل ما يمكن أن تكون قدمته الفلسفة الاشتراكية هو وضع آلية مرنة للرؤية الكلية لا مجموعة قوانين ينبغي حفظها والتعبير عنها كطلاب المدارس.. هذا المفهوم الخاطئ هو ما أوقع شاعرا شيوعيا كالسياب في خلاف مع حزبه ناتج عن تصور الحزب لموقف الشاعر، تصور قائم على الحرفية في التعاطي مع الشعر ومقتضيات الالتزام. وانتهى الأمر إلى فصل الشاعر من الحزب، وهو ذاته كان السبب في انقلاب السياب على قناعاته وإعلان توبته في كتاباته «كنت شيوعيا». الموقف هو القدرة على النظر العام إلى القضايا بموضوعية وبمعزل عن الذات. فبموجبه سيمتلك الأديب نظرة حصيفة ثاقبة وميزانا عادلا للنظر في المشكلة الإنسانية على مستوى واقعه المحلي والقومي والإنساني. وعندئذ قد لا يحول الفكر الأممي لأديب ما مثلا دون اتخاذ موقف ممانع تجاه التطبيع مع «إسرائيل»، لأنه يعي سلفا أن عنصرية الصهاينة واغتصاب الحق أنساق لا تستقيم مع منطق العدل والمساواة.

فقر أدبي
   إذا انتقلنا إلى جانب آخر، وهو النقد، باعتبارك أستاذ الأدب والنقد في كلية الآداب جامعة ذمار، ورئيساً أسبق لقسم اللغة العربية فيها.. كيف تنظر إلى الحالة الشعرية والأدبية عموماً في اليمن حاليا؟
 الشعر في اليمن ليس على ما يرام في مقابل أنواع أدبية أخرى كالرواية والقصة فهما أفضل حالا مما كان عليه وضعهما في الماضي، فهو زمن الرواية يمنيا وعربيا.. كان الشعر حتى نهاية التسعينيات من القرن الماضي قد وصل إلى حالة من التطور النسبي من حيث غزارة الإنتاج وتنوعه وتطور تقنية القصيدة وموضوعاتها. وباستثناء التجربة الرائدة والممتدة للشاعر الكبير د. عبدالعزيز المقالح وعدد محدود من الشعراء إلى جانبه، فإن الشعر في السنوات الأخيرة قبل هذه الحرب وأثناءها الآن قد تراجع بصورة لافتة لدرجة أننا لم نعد نسمع عن صدور مطبوعة جديدة (ديوان شعر) ولا عن فعالية شعرية كما هو الحال مع الرواية والقصة! في مجمله فإن المشهد الأدبي في اليمن يشهد فقرا في الإنتاج، وكان لوضع الحرب وتداعياتها السلبية السيئة على الإبداع الأدبي الدور الأكبر في ذلك، فقد نجم عن الحرب إقفال دور النشر ومؤسسات الثقافة والإبداع، وغير ذلك من النتائج الكارثية على الإنسان والثقافة.

شعراء النثر بعدد النمل
   قصيدة النثر، في التجارب الجديدة التي كما لو أنها تريد أن تحل محل قصيدة التفعيلة.. هل لأن الأخيرة اكتهلت قبل أوانها؟ أم لأن قصيدة النثر تمردٌ عليها مثلما كانت هي تمرداً على العمودي؟
 ليت الأمر كان كذلك، فما حدث هو العكس، لم يكن لقصيدة النثر العربية القدرة على أن تحل محل قصيدة التفعيلة، وهو الأمر الطبيعي، باعتبارها التطور الحداثي الأحدث والأكثر قدرة على التعبير عن الموقف الحياتي بتلقائية وسلاسة لاستيعابها التهجين الأجناسي الحكواتي الحواري والتكثيف اللغوي المنسجم مع إيقاع النفس وحركة «اليومي». غير أن ما يلاحظ هو العكس، إذ عادت قصيدة العمود لتكون هي الشكل الشعري الحالي ليس في اليمن فحسب، بل في عدد من الأقطار العربية. قصيدة النثر هى الحلقة الأضعف والأقل مقرؤية في الشعر العربي. وبقدر ظهورها النوعي الممتاز الذي تجده عند الماغوط مثلا، إلا أنها لم تحتل في مرحلة ما مما مضى والآن رتبة التعبير الشعري الأول، ولم يتصدر شعراؤها المشهد الشعري العربي كما حدث مع شعراء التفعيلة. ولعل العيب لا يرتبط بالكتابة قدر ارتباطه بجمهور ثاقف لطبيعة هذا النوع الشعري. شعراء قصيدة النثر على امتداد الوطن العربي بعدد النمل، لاسيما الشباب، ومنهم مجيدون لها، لكنهم للأسف غير مسموعين، وهناك من استبدلها بالتفعيلة ليغرق في تفاصيل النوع واللغة والصورة.. أدونيس مثلا تعمد الانتقال من التفعيلة إلى قصيدة النثر، إلا أن خوضه في عالم التعبير كان مقدما على الرؤية. تجد شعراء قصيدة النثر مفتونين بالتعبير واللغة أكثر من الرؤية، وبالبيانات النظرية عنها من قبل كتابها أكثر من تجربة قصيدة مفهومة يخاطب بها الناس. قصيدة النثر العربية ظلت تدور في فلك النخبوية إنتاجا ونقدا وجمهورا.


إرث معرفي إنساني
 رؤيتك للجهد النقدي والبلاغي العربي، وهل يمثل سبقا رياديا؟ وماذا منه يمكن أن يكون قد أثر في المناهج الحديثة؟!
 تاريخ العلوم اللغوية والأدبية والبلاغية حافل بالنتاج العلمي البحثي في كل مجالات اللغة والأدب، ابتداء من المجمع العلمي اللغوي وتأسيس معاجم اللغة، وانتهاء بعلوم اللغة والصوت والنقد الأدبي والبلاغي، هذا النتاج يمثل غنى معرفيا خالدا، فلا غنى للدارس الآن عنه، فضلا عن أنه يمثل لبنة هامة في الإرث المعرفي الإنساني.. ومنه ما يرتقي إلى مصاف النظرية المعرفية، نذكر جهد الجرجاني التفسيري لنظام الكلام (التأليف)، وهي جملة أفكار قدمها في كتابه «دلائل الإعجاز»، لكنها بما امتلكته من كلية وشمولية في الرؤية والنظر لكيفية تركيب الكلام وجدت تلك الأفكار نفسها قادرة على تجاوز تفسير نظام الكلام على مستوى قواعد لغة واحدة إلى عدة لغات. أنا لا أميل إلى تصنيف هذا الجهد رغم قيمته العلمية ريادة أولى، إذ للأحكام والقوانين التي ناقشها الرجل أصداء تتلاقى بها مع النظر الفلسفي اليوناني القديم، ومع ذلك يبقى عبدالقاهر الجرجاني أحد منظري نظام الكلام في التاريخ، وتجد أفكاره بارزة في الجهود الحديثة، لاسيما علم اللغة الحديث لدى سوسير في نظرية النحو التوليدي التحويلي، وفي اللسانيات التداولية وفي علم النفس اللغوي وعلم الشعريات الحديث هذا التطابق المعرفي خير شاهد على سبق معرفي.

البردوني والسياب فوق الوصف
  عبدالله البردوني، بدر شاكر السياب، ما الذي يعنيه هذان الاسمان بالنسبة لك؟
 هما كبيران فوق ما يوصف في الإعدادية تفتق وعيي على دواوين «لعيني أم بلقيس»، «السفر إلى الأيام الخضر»، «مدينة الغد»، «كائنات الشوق»، «وجوه دخانية»، «ترجمة رملية»، حينها شعرت اليمن وطنا وهوية وأمة يتشكل داخلي ماضيه، حاضره، عذابات، إنسانه، جراحاته، أحلامه، أدركت أني أنتمي إليه وعيا، شعرت بلذة وجدانية جارفة لذلك الانتماء.. في الجامعة قرأت «أنشودة المطر»، غمرني السياب بشغف الشعر وفرحه، أحسست القصيدة السيابية نهرا طفوليا حزينا، صوتا إنسانيا عامرا بالأساطير والحكايا، مياها جارية كالأنهار لا تعترف بالفواصل بين الأقطار واللغات والأعراق والأديان. مع السياب اكتشفت أن الشاعر هو صوت الإنسانية لا صوت قومه فحسب.

الكتاب أصبح سلعة سوقية
 لديك رواية تحت الطبع بعنوان «وين».. ما الذي تناولته تلك الرواية؟ وهل هناك مشاريع لروايات أخرى؟
 نعم هي رواية تدور أحداثها في القرن السادس الميلادي، ومادامت تحت الطبع فالحديث عنها سابق لأوانه.
  عدم وجود دور نشر وطنية منفتحة على الإبداع اليمني.. ما الأثر الذي يتركه ذلك على المبدع اليمني وإنتاجه؟ 
 سبق أن قلت إن فقر المؤسسات المعنية بنشر الثقافة عموما والأدب خصوصا يترتب عليه حالة إدقاع في النتاجات الإبداعية، كون ما ينتج لا يجد طريقه إلى النور، والنور هو في مجتمع قارئ يستقبله ويتلقاه. جزء من أزمة الثقافة والإبداع في اليمن كان في الماضي ناجما عن غياب الجهاز الناقل والناشر للكتاب، وحين وجدت جهات نشر في العقود الأخيرة غلب على طابعها التوجه التجاري الاستثماري، وتحول الكتاب إلى سلعة خاضعة لسوق العرض والطلب، نعني بجهاز نقل الثقافة وتداولها إيجاد مؤسسات وطنية خاصة بذلك تعنى بالإبداع ولديها سياسة نشر حيادية ونزيهة ولجان قراءة معنية بقرار نشر العمل من عدمه بناء على جودته بصرف النظر عن الموضوع وتوجه الأديب والمثقف وانتمائهما، مؤسسات متجردة فلا هي احتكارية مستغلة ولا استبدادية شمولية التوجه مرتبطة بسلطة النظام، وتتعاطى مع الثقافة من موقع الرديف والمساند للحاكم، فأمر كهذا لا يقل خطورة على الإبداع من النشر التجاري، يترتب عليه تصنيف المطبوعة مع أو ضد، واتخاذ قرار حيالها بالتبني أو الإقصاء، ومن ثم سيقود ذلك إلى حركة استقطاب للأدب باتجاه تأييد التوجه السياسي أيا ما كان سوؤه وقبحه.

صعوبة الجمع بين النقد والإبداع
  حين يكون الأديب مشتغلا في الإنتاج الأدبي وفي التدريس الجامعي.. ما هي العلاقة بين الاشتغالين؟ هل هناك اغتناء؟ هل يأخذ أحدهما حصة الآخر؟ وهل يتطلب الإنتاج الأدبي تفرغا تاما؟ 
 بحسب التوجه والرغبة والإرادة، ولا أخفيك أن مهنية الأديب ومجاله الإبداعي يمثل إشكالية على المشتغلين في الإبداع، ربما الملل، الغنى المعرفي.. الخ؛ لكن ذلك ليس قاعدة. هناك من جمع بمهارة واقتدار بين الاشتغالين الأكاديمي والشاعر أو الروائي، وأمثلة ذلك كثيرة.
 الشاعر، حين يكون ناقدا أكاديميا.. هل يعوقه ذلك عن التعبير الحر، أم يعطيه إمكانيات أكبر للإبداع؟ 
 كذلك الأمر نسبي وموقوف على الشخص المعني. نعم، قد تجني قواعد النقد ومناهجه على الإبداع، وتمثل قيودا على حرية الأديب، فلا يكتب كما يرى، بل بما لديه من معايير النقد وأدبياته؛ لكن أدباء ومبدعين كبارا جمعوا بين الاشتغالين في آن واحد. كالدكتور المقالح مثلا، فهو ناقد وأكاديمي وشاعر فياض الشاعرية، حتى اللحظة جمع بين الشعر والنقد بمهارة واقتدار. ومن يتتبع مظاهر تجربته سيجد أن النقد أثرى القصيدة وأنضجها، لا العكس.

استقطاب وابتزاز
 المسابقات والجوائز، وأثرها على الشعر أو العمل الأدبي عموما.. كيف تقيمون دورها؟
 سئل الشاعر عبدالله البردوني في مقابلة معه: هل يدر عليه الشعر عائدا ماديا؟ فأجاب: أحيانا، ولعله عنى الجوائز، وجميعنا يعلم كيف كانت جائزة مربد أبي تمام في العراق 1971 فتحا مبينا بالنسبة للبردوني، ليس على مستوى المادة، وإنما الرمزية والشهرة والذيوع.. لكن هل من المعقول أن يكتب الشاعر أو الروائي أو القاص مبيتا النية أن ما يكتبه هو من أجل مسابقة أو جائزة؟ ومع ذلك قد يجد من يثمن قيمة نتاجه فيحصل على جائزة. والسؤال هنا هو ما هي الجهة المانحة لجوائز الأدب والمحكمون فيها؟ وما هي القيم التي تستند إليها؟ وهل هي من النزاهة والشفافية الكافية في أحكامها..؟ غالبية الجوائز تمثل مراكز استقطاب وابتزاز ولاءات الأدباء لتصب الثقافة ضمن القوى المساندة لتوجه الدولة المانحة للجائزة، وهي في الغالب الدول الغنية كدول الخليج مثلا الجوائز وقبولها من عدمه مرهون بمدى التزام الأديب وموقفه العام مما حوله. صنع الله إبراهيم رفض قبول استلام جائزة الدولة التقديرية، وخطب في حفل عام في القاهرة قائلا: إنه لن يقبل جائزة من دولة تقيم علاقة مع «إسرائيل» التي سفارتها على مرمى حجر من مكان الاحتفال. جميع جوائز الأدب صارت مرتبطة بدول الثروة في ظل صراع سياسي إقليمي وتجاذبات عكست نفسها على كل حراك .

المال الخليجي فشل في استبدال حواضر الأدب العربية
  بيروت، دمشق، القاهرة، مثلت حواضر للآداب والفنون العربية في المرحلة الماضية، هل استطاع الخليج بإمكانياته المالية أن يكون بديلا عن هذه الحواضر؟ وما الذي قدمه للأدب العربي؟ 
 نعم أحسنت، لا ينسى المثقف العربي ما أسدته هذه الحواضر الثلاث، ومعها بغداد، إلى الثقافة العربية والإبداع من أفضال جليلة وكبيرة في نشر المطبوعة وتعميمها. القاهرة وبيروت ودمشق وبغداد وربما مؤخرا الدار البيضاء، هي حواضر التنوير المعرفي والثقافي في الماضي والحاضر.. مازالت عواصم المعرفة هذه محافظة على رصيدها الثقافي التاريخي في الماضي وحتى اللحظة ولها من التقدير والإجلال في ضمير المثقف والقارئ العربي الشيء الكثير. أما الشق الثاني من السؤال حول الدور الخليجي في هذا الشأن، فيمكن تصنيف دولة الكويت ضمن الدول الداعمة للثقافة العربية، وربما هي الوحيدة خليجيا التي تمتلك قدرا نسبيا من الحياد في التعاطي مع النتاجات المعرفية في الغالب بلا ثمن. الكويت دعمت القارئ العربي الفقير من المجلة الأسبوعية والشهرية ومجلة الطفل والصحيفة والكتاب الدوري الفلسفي والعلمي وبثمن زهيد. في فترة ما استطاعت دولة الكويت تعميم الثقافة على الشعوب العربية الفقيرة، وما عدا الكويت فإن بقية دول الخليج لم تستطع أن تتخلص من نظرتها إلى الإبداع بمعزل عن توجهها السياسي والإيديولوجي، لذا وقف رصيدها على (فعاليات) موسمية لمؤسسات منح الجوائز والمسابقات، فيما صناعة الكتاب في القاهرة وبيروت اتخذ خط التوجه القومي والحرفة الوطنية في آن واحد.
 ما الجديد في دراساتكم النقدية؟
 الكثير قيد الإنتاج والنشر.

الرسائل الأكاديمية دون المأمول
 كيف تقيمون الرسائل الأكاديمية (رسائل الدكتوراه والماجستير) التي تعد في الجامعات اليمنية؟ وهل هي عند المستوى المأمول؟
 الرسائل العلمية بعضها عند المستوى المأمول، ومعظمها عند المستوى المقبول، كل رسالة علمية تعد في جامعة يمنية هي مخرج لنظام البحث العلمي في اليمن، ولا يخفى على أحد ما يشهده هذا القطاع من أوضاع صعبة من حيث الإمكانات المطلوبة للباحثين من موازنات ومكتبات، وما يعيشه الكادر المسؤول من الأساتذة المشرفين على الرسائل العلمية من أوضاع صعبة بسبب انقطاع المرتبات، فالأستاذ الجامعي من غير راتب لما يقرب من 5 سنوات. والحقيقة أن انقطاع المرتبات عكس نفسه على كل القائمين على البحث العلمي ابتداء بالأستاذ والعاملين في الجانب الإداري وانتهاء بالباحثين الذين معظمهم أيضا موظفون، وبسبب الافتقار للموازنة الخاصة بالبحث العلمي أصبح الباحث ملزما بدفع كل الكلفة من رسوم التسجيل وأجور محاضرات ومستحقات إشراف وتكاليف لجنة المناقشة، وحتى إيجار القاعة التي يناقش فيها. هذا الوضع عكس نفسه على البحث العلمي وتراجع الإقبال على الانتساب إليه، بل يؤسف أن البعض انقطع عن إتمام رسالته العلمية بسبب ظروفه القاهرة، مع ذلك هناك استمرار بفتح برامج الدراسات العليا والعمل على برامج توصيف جودة واعتماد أكاديمي خاصة بالدراسات العليا، وهمة بحثية من الباحثين في الإنجاز رغم الظروف الصعبة. وفي كل الأحوال فإن مشكلة البحث العلمي في اليمن أو في غيرها لا تقتصر على الإمكانات المادية، ولا على عدم النجاح في إعداد رسالة علمية مستوفية الشروط المعرفية فحسب، وإنما أيضا في تحقيق النجاح في جانب آخر صميمي وجوهري، هو تنمية قيم المعرفة وأخلاقياتها في طالب العلم الباحث، وهي لا شك انعكاس لقيم أستاذه ومعلمه، فالإخفاق في ذلك هو أشد خطرا وأكثر ضررا من الفشل في التحصيل العلمي أو في البحث وفي إعداد رسالة علمية ناجحة.

  كلمة أخيرة تودون قولها من خلال «مرافئ لا»؟
 ليكن لهذه الحرب على اليمن وبين اليمنيين نهاية لتحقن دماء اليمنيين، لتصن سيادة اليمن وكرامة اليمنيين في العيش الكريم، ليتوقف مسلسل الحرمان من الراتب، لتطلق حرية الإنسان اليمني وحرية الثقافة والصحافة والرأي والموقف، ليعم السلام والأمان والبناء.