يحيى اليازلي / مرافىء -

عندما نكتب مقالاً تحت عنوان يحمل مفهوماً ثقافياً فغالبا ما نفتتحه بإيضاح معنى الثقافة.. إما ابتداء بالمعنى اللغوي أو الاصطلاحي، أو أن نتجاوز الابتداء؛ ونكتب مما يليه، مما فاءت به البديهة أو مما علق في ذاكرتنا من معارف كنا قد اطلعنا عليها سابقا ثم نسيناها، ولكنها فاضت من اللاوعي، أو بعبارة أدق من العقل الباطن.
ولكننا هنا سنتجاوز ذلك الابتداء التقليدي وما يليه من فيض الباطن، ونكتب انطلاقا مما توحيه بيئتنا الرقمية، وهذه باعتقادي أصالة ليس بوسع أحد اعتبارها تجاوزا للأنماط المقدسة أو الأطر الموروثة، على أساس أنه لا يجوز تجاوزها. والحقيقة أنه لا يمكن قبول هذا الاعتراض، ليس تعصبا ولا من باب خالف تعرف، ولا تمردا على المألوف أو خروجا عن السائد.
ولكننا فعلاً نريد أن ننطلق من بيئتنا الرقمية، ككتاب وقراء، وعلى أساس أن ما نكتبه سيذهب إلى بين أيدي قراء وكتاب من نفس العالم الرقمي. ولكن ماذا لو وصلت هذه المقالة إلى بين أيدي أشخاص لا يتعاملون مع الكمبيوتر ولا الإنترنت البتة؟
أعتقد أنه الآن قد برز إلينا سؤال مهم: هل ثمة انفصام في شخصية العقل المعاصر؟ لأنه قد يتبادر إلى أذهاننا أن هناك عالمين منفصلين في حياة الإنسان المعاصر الفكرية، عالماً رقمياً يطلق عليه البعض العالم الافتراضي، وعالماً واقعياً يطلق عليه البعض اسم العالم الحقيقي.
انزاح إلينا السؤال من بين أصابع كائن يمارس الكتابة على الكيبورد يعتقد أنه افتراضي، وعيناه تنظران إلى شاشة التلفون، ومن بين أصابع شخص يكتب باليراع يعتقد أنه حقيقي، وعيناه تنظران إلى الكراسة.
كيف نجزم بوجود حالة انفصام في شخصية العقل الإنساني المعاصر، بمجرد أن قال أحدهم إن ثمة تناقضاً بين عالم الكيبورد والشاشة الضوئية وبين عالم اليراع والصفحة الورقية..؟ هذا هراء.. لماذا؟
لأن مخترع الكمبيوتر والتقنية الرقمية هو نفسه مخترع الحبر والورقة، وهو نفسه مكتشف الحروف والأرقام، وهو نفسه عبقري الرياضيات ومكتشف قوانينها.
كيف نوصف إبداعات نشرت على صفحات الإنترنت بنيتها رقمية في حين أنها نقلت من كراسة أو أنها نقلت إلى الإنترنت من مخطوطة قديمة؟
قبل أن نجيب على هذا السؤال علينا أن نعرف خصائص الإنتاج الفكري في كلا المجالين الإلكتروني والورقي بشكل عام، أو على الأقل ما يمكن أن نراه مشتركا بينهما، لأن بالمشتركات تنشأ العلاقة.
وليس بالضرورة أن نذكر بالتحديد وبالملي خصيصة كل منهما، لأننا لسنا الآن بصدد عمل بحثي أو تحقيق، وإنما إجمالا يمكن أن نذكر أهم خصائص الإنتاج الفكري في الجانب الإلكتروني.. إنه يأتي وليد اللحظة غالبا، ليس فيه تأن ولا يصاحب إنتاجه اهتمام بالمضمون بقدر ما هو أنيق شكلا.. يكاد يشبه الحال الذي ينشئه شاعر القبيلة في المناسبات الطارئة.. وعلى العكس نجد أن شاعر القصيدة الفصحى يقف طويلا وهو ينتقي لها أجمل الكلمات وأعمق المعاني.. وفي الواقع أن القصيدة الفصحى أكثر ارتباطا بالواقع من القصيدة العامية، لكنها لا تلامسه كثيرا.. ومن الصعب إيجاد مشتركات بينها وبين الفضاء.. إلا في حالة النبوغ.
وغالبا أن ما ينتجه المجال الإلكتروني أضعف في بنيته اللغوية مما ينتجه المجال القلمي.. لكونه تخلق وتمخض وتم إرساله بسرعة.. إلا في حالة النبوغ كذلك.
والآن كيف نجعل حياتنا في الواقع تسير بنفس الآلية الرقمية.. وصولا ودقة؟ وبالمقابل كيف نجعل الحركة الإلكترونية تسير بشيء من الحيوية وفن الإيصال؟ لكي نحقق بهذا وذاك ما يشبه تبادل المنفعة بين الطبيعي والصناعي.. أو الافتراضي والحقيقي إذا جاز التعبير.. فلا بد أن هناك حالة انسجام واتساق ما في ما بينهما، ولكننا لا ندركها.