حاورها:  أيوب الحشاش - أحمد عطا / مرافىء -

يتقاطع الفرات العظيم عند ثلاثة ندوب، ويستر على جراح مائه برداء شجره، فتربت فائزة على كتف الفرات ودجلة ودمشق وصنعاء. حرفها رحلة شتاءٍ وصيف، في ضفافها يزهر رمان صعدة وعنب صنعاء وفل تهامة.
تكتب الشعر بلغة مبهرة تلوح للعيون كبحر أخضر. ردهة بوحها شاسعة ثرية بمقومات الألفية الثالثة، نصها تجاوز المرجعيات الكلاسيكية مشكلاً هوية لذاته، لوحة تجعلنا نحلق كالطيور فوق كلمات يرسمها الربيع بفرشاته. نصوصها، لا ماكياج، لا أسماك زينة، وإنما حجر أزرق يشع وثمار تتساقط وطيور تغني، حداثة بكيمياء جديدة تكتشف آبار اللغة الدفينة، تعرض الصورة الشعرية إكسيرا على طاولة سوريالية بقوائم واقعية. 
مع اللغة التي تحرث المخيلة وتنفخ الزهو للروح، مع فاردة جناح الدهشة على ضفاف الفرات، مع بلقيس الضوء، الشاعرة السورية الكبيرة فائزة القادري، كان لنا هذا الحوار: 

أعلم خبر الشعر
 منذ متى بدأ مشوار الشعر؟ ذكريات فائزة حول البدايات.. دهشة النص وأصواته القديمة..!
- وجئتك من سبأ بنبأ يقين»، وجئتكم من الشمال القصي، من الشاهق الطوروسي باليقين وبالنبأ، وأرجو الوصال والمراد والمنال من سبأ، حيث سوريا خط الأفق الحضاري الممتد بجذوره إلى عمق التاريخ.. حيث مولد كينونتي وكوني، أنساب مع فراتها وأمر بشامها وأمتطي رحلة الشتاء والصيف وربيع الحرف إلى اليمن. حلمي السعادة، أَنشدها وأُنشدها ونسغ عروقي اليقين.
في مقدمة تشبه العرش البلقيسي، قوائمه مأربية ومنطقه زمرد، قُدمتُ إلى الحوار.. شكرا أيوب حشاش، السوري اليمني، وأنت تستضيف كريماً فائزة أحمد القادري.
بما أنك قدمتني كشاعرة، وبما أنني أعشق الشعر، وأكون سعيدة بحلته وحلله.. فسأقول كما دوماً وأقتنع بما أقول: إن الشاعر يولد شاعراً. أتخيل بكاءه الأول، ومناغاته، وألفاظه الطفولية المرتبكة، وشعوراً ينبت وينمو شعراً.
أتذكر فائزة وهي صغيرة، تترنم بكلمات أغنية منظومة، تعجبها أو أخرى لا تعجبها، وتدهش لقصيدة تسمعها، ويستجرها كتاب أو ديوان شعر، ثم تكتب؛ تكتب بخبرة بسيطة تبدأ من موضوع تعبير في المدرسة يفوق ما يكتب أترابها أو تكتب كلمات أغنية أو عبارات سجعية. 
منذ الطفولة وحتى الآن، لم أفقد شغفي بالشعر، ولا أستطيع تحديد مبتدأ له. أنا خبره الحقيقي المرتفع به، هذا الذي أعلمه.

عودة الروح إلى نقطة صفرها
 تقولين: بعباءةٍ من رمل 
وغرور ما بين الحاجبين
 تمتطي صهوة الصحراء
 وتعود مضاربها»
 ومن نص آخر: «ريفي هذا القلب 
ينام على كومة قش
 بمحراثين من غياب 
تبدأ الفؤوس باقتلاع الأشجار.
والكثير من الإيمات التي تستحضر الأمكنة»... 
لماذا يحتشد قاموس فائزة بهذه المفردات التي تحيلنا إلى البداوة والريف؟
أصارحك، روحي يمامة تحط على كل شرفة، وخيال هديلها يمر بكل وعلى كل مكان، يؤمن الخيال بأن البداوة والصحراء عودة الأرواح إلى نقطة صفرها الكوني والنفسي، وقبل أن تتشبع بالبساتين واجتماع الأضداد.. نقاء وقسوة وهدوء وعزلة.
عيادته للصحراء، المحبوب، بعباءة من رمل هي يأس من الاخضرار، أما القلب وريفية تكوينه فهو البساطة والاطمئنان. البداوة والريف يحضران كقيمة مكانية في لغتي. وأصارحك بأن لغتي تستمتع بمفرزات الحضارة، وترقص مع المدن وعمرانها، وتنتشي بالترف وتشتهي أناقة تعب عليها الإنسان حتى بدت بهذا الشكل المطور.

الفكرة هي الأساس والباقي وصف
  هل للكتابة طقس معين؟ كيف تأتي القصيدة؟ كيف تسلكين الممرات الخفية إلى عالم النص؟ وما هي القصيدة بشكل عام لديك؟
القصيدة رسائل وحي وبروق ورعود، تلتمع فكرة، تومض، وسرعان ما تأتي المعاني واللغة طائعة كغيث، وربما تبدو عصية على الانهمار أحيانا، تتكثف في نص صغير أحيانا وتمشي كمجنونة في سهوب شاسعة البوح أحيانا أخرى.
عيوني ودماغي لهما تكنيك ككاميرا، أجدني أحيانا وأنا في غمرة ضجيج وازدحام الناس من حولي، قد التقطت فكرة.. تبدأ القصيدة لدي من فكرة ثم تتطور وتأخذ شكلها النهائي، ربما تبدو بشكل غير الذي خططته لها، هي فراشة تشق طريقها بتمزيق الشرنقة.
الفكرة هي أساس الطاقة الشعرية، ثم الصور الشعرية الخلاقة غير المستهلكة، والباقي نظم أو رصف شارع شعري بكلام. لم أجدني في طقس هادئ إلا الذي أوفره لمخزوني في الدماغ حتى ينبع، القصيدة ينبوع متجدد، كل مرة هو في شأن.

القصيدة تغتابني وتسفح دمي
  مرة تقولين «تغتالني القصيدة» ومرة أخرى «تغتابني القصيدة».. هذا انشغال كبير رائع، ماذا يدور في ذهنك حول القصيدة؟ هل تفكرين بأمر تباغتين به تجربتك في الكتابة؟ 
نعم، تغتالني القصيدة غيلة تسفح دمي، هي ثورة عنيفة دموية ضحيتها أنا، وغدا عندما تنتصر سأنبت شقائق النعمان. القصيدة ملك الموت، وكاتبها مشروع موت، ويراها القارئ حياة ونشورا وقيامة أحاسيس، هكذا برأيي النص أو القصيدة المؤثرة، وإن فقدت هذه الديناميكية ستكون محطة عابرة.
وتغتابني القصيدة، حقيقة هي تغتابني، وإلا كيف تحدث الجميع عني وعن أحلامي.. يرمقها قارئ بعيني الفطنة والاهتمام والحب، فيعرف كل شيء، هكذا هي القصائد.. غيبة موصوفة ومكتوبة ومقدرة.
بشريعةِ أزكى نبيّ 
بوتينِ قلبي الشجيّ
ربطتُ هناكَ ليحيا 
حبلُ الوصالِ العليّ
أوزع نجومي في مجرة النثر
  قلتِ ذات مرة إنك لم تفكري في كتابة العمود ولم تجربي كتابته، لكنني ألاحظ هنا ما يشبه الشعر العمودي.
لم يمنحني إله الشعر بعد فرصتي السانحة لأزين أوابده وعمود الشعر الأسطوري، لا أدري بل أدري أن هناك أسباباً حرفتني عن كتابة الموزون. أعشق الشعر الموزون، أطرب لموسيقاه، أفضل قراءته، تذهلني بحوره وتغرقني بحاره، لكنني ولأسباب عدة حرمته، ووهبت مجرة النثر أوزع فيها نجومي كما أشاء وتشاء المعاني وأتخيل صوراً وأشكلها غيمات طافحة بالندى.. أعقد قران سهيل على الثريا وأرسم المدارات، وأتسيد الحروف كشمس تهوى بعثرة ضفائرها على متن الكون بلا أسيجة. حقيقة: أتمنى كتابة العمود، وأقول ربما سأكون يوما معلمة ذاتي أو سيكون لي معلم.. أتمنى.

مسؤوليات الأسرة والعمل أبعدتني عن الكتابة
 تعملين مديرة للمركز الثقافي بالقامشلي، ويأخذ منك العمل وقتاً والعائلة.. تسود فكرة أن الشعراء لا يصلحون للأعمال الإدارية، نراك تنسفين هذه المقولة.. ما هي مقاربتك من خلال التجربة حيال هذا الأمر؟
تدرجت في العمل من معلمة إلى موجهة إدارية إلى مديرة مدرسة ابتدائية للأطفال إلى مديرة ثانوية للبنات، ثم منذ أقل من عامين إلى رئيسة مركز ثقافي في مدينة القامشلي. أبعدني ضغط العمل وانشغالي بالعائلة عن الكتابة، لكن من يطفئ الوهج.. الكتابة جذوة لا تنطفئ، متعب جدا الأمر، أن تكوني امرأة وربة منزل ورئيسة دائرة تتطلب الاتسام بالجدية وبذل الجهد الكبير لتكون الأمور كما يجب.. وأن تكوني شاعرة يعني أن تتعاملي برهافة وحنان وحساسية ومقدرة فائقة على امتلاك منظومة القيم.. يحتاج الأبناء وتحتاج الأسرة إلى اهتمام كبير.. أحاول، كم أحاول أن أجعل الأمور متزنة بحيث لا تغلب كفة على كفة ولا يطغى أمر على أهمية أمر، أبذل جهدا كبيرا لم تترجمه إلا يداي اللتان عرفتا الخدر باكرا، وأؤجل عملية الانضغاط العصبي التي تحتاجها.. أما بالنسبة لمقولة نصلح أو لا نصلح، فالمواقف والنجاحات والاخفاقات تثبت ذلك، وللإنسان طاقة عجيبة نستغرب منها حين نختبرها.. أرجو من الله العون والسند.

أعتز بلقب بلقيس
 لاحظت الكثير من متابعيك بصفحتك على «فيسبوك»، وخصوصاً من المثقفين، ينادونك بلقيس، وأنت تبتهجين بذلك، كيف أصبحت بلقيس؟ تعرفين أهمية هذا الاسم لدينا كيمنيين وإكبارنا الشديد لمن تحمله، هلا حدثتنا بلقيس عن قصة هذه التسمية البهية؟
بلقيس.. الاسم ذو الدلالة العظيمة، جمال وعراقة وترف وملكية وحكمة ورمز ديني وتاريخي وشهرة وشاعرية، صرح ممرد من قوارير. لطالما ترغب الأنثى بأن تلقب باسم كهذا، كان سيادة المفتي العام للجمهورية العربية السورية في زيارة للقامشلي كمرسول للرئيس إلى المنطقة، حضر إلى المركز، وأصرت القيادة أن يكون المركز هو مكان الملتقى.
كنت قد أعددت استقبالا يليق بسماحته، وأعددت كلمة ترحيبية.. ببالغ الاهتمام وكعادته أنصت إليَّ هو والحضور الكبير من كل الفعاليات الدينية والعشائرية والاجتماعية، بالإضافة إلى الرسمية. أنهيت الكلمة، فردد: الله الله، ثم قال أتدرون بمن ذكرتني؟ لقد ذكرتني ببلقيس. كانت مفاجأة عظيمة ربما لا يدرك أثرها سوى قلبي الذي بات يخفق فرحا، وسرد قصة سيدنا سليمان وبلقيس بلهجته الحلبية الرائعة مع الفصحى، مسقطا الحالة على الواقع السوري معنى معنى.. احتل الموضوع نصف حديثه وأنا في غمرة سعادة، تشبه سعادة اليمن كطقس سماه الله والبشر، اليمن السعيد وفائزة السعيدة، ولهذا التوقيت يسميني كل من يزورني بلقيس، حتى إنني صدقته.. هذه هي الحكاية المصادفة والقدر الأجمل.

تربية صوفية
 لديك نص عظيم بوجد صوفي.. نص مناجاة إلهية يسع كل البشر، أذكر لك منه: 
«إله بلا باب.. كهف الملاذ 
هناك تُنتزع مسامير الصَّلب
هناك النجوى داوودية الناي 
كوثرية النكهة...»
كيف تشكلت أبجدية هذه الروح؟ ومن أية نافذة تبدت لها الإشارات؟
الروح صوفية النقاء بطبيعتها، تشذب نفسها عند كل ملمة، تنتزع الأشواك من ورد خلودها، تصعد إلى السماء حين تعجزها خزعبلات الأرض. الصوفية طريقة للروح، تذوب فيها كل الرغائب والحاجات إذا أصبحت نورا متصلا بالنور العلوي. وأنا تربيت في بيئة وتربة خصبة لهذا النمط من التفكير والسلوك، وسرت مع من حولي في قافلة تصفية الروح لتكون جزءا من نور الله وركنا من منظومة قيمية. استمعت إلى نقر الدف وكان قلبي ينبض مع وقع الأنامل الفنانة الولهانة، وذبت في المدائح وابتهالات النجوى المتحللة من كل دونية، وتمايلت بدون أن يظهر ذلك مع تعبير الجسد عن رقص يوصل إلى لذة الوصال بالعالي العلي. وأغمضت عيني لأكون بعيدة إلا من دمع يجري، يرجو التوبة. هذه تربتي؛ فكيف لا أكتب منها. وكثيرا ما تلقاني أنبش فيها وتصبح أناملي كلها طينا مقدسا برائحة الحناء.