علي نعمان المقطري / لا ميديا -

إن الجنون الاستراتيجي الأمريكي ليس وليد اليوم، لكنه سمة أصيلة في تاريخ الأمريكيين منذ نشوئهم كأمة وشعب إمبريالي استيطاني استعماري حل محل شعب آخر تمت إبادته وإفناؤه من الوجود من قبل الأمريكيين البيض الذين قدموا من بريطانيا وبقية أوروبا كمستعمرين بقوة السلاح يؤسسون وجودهم بقوة النار والحديد في أبشع مأساة إنسانية عرفتها البشرية طوال تاريخها ولا مثيل لها أبدا؛ فلم يحدث من قبل أن أُبيدت شعوب بكاملها خلال فترات قصيرة من قبل شعوب أخرى فاتحة، حتى أكثرها همجية وتوحشا، فلم يبلغ هذ المبلغ حتى أكثرها تغولا، وأعني هنا غزوات المغول والتتار.
كانت عمليات الإبادة البشرية العدوانية هي محتوى النشاط اليومي الذي يمارسه الأمريكيون الأوروبيون الغزاة طوال قرون من الاحتلال، ولأن الشعوب الحمراء الأصيلة ظلت تقاوم الظلم والطغيان وترفض الخضوع الذليل لحملات الإبادة فقد كان هذا يضاعف من وحشية الغزاة ويجعلها أكثر صراحة ووقاحة وعلنية وتحديا.
إن الإبادة بلا رحمة هي الفكرة المحورية التي وجهت سلوك الأوروبيين الغزاة تجاه الغير، السكان الأصليين وأصحاب الأرض الذين كانوا فيها منذ آلاف السنين، وهي السمة الملازمة لتطورهم طوال تاريخهم، وهي سمة أصيلة في شخصيتهم تحدد كيانهم وكينونتهم وطبيعتهم، ولذلك عملوا على خلق أجيال من البشر مشوهة السمات والخصائص.
فالشعب الذي يمارس سلوكا مكتسبا معينا يتوالى طوال قرون وعقود، فإنه يورثه في جيناته ليصبح صفة ملازمة لنفسيته وطبيعته وسلوكه، حيث يتحول من صفة مكتسبة إلى صفة جينية وراثية وإلى طبيعة من طباع الجماعة التي ابتليت به.
وقد عمل المؤسسون الجدد للدولة الأمريكية اليانكية على تشتيت الذاكرة الجمعية للأمريكيين ومحاولة محو وطمس من الذاكرة فترات المذابح والمحارق والإبادة التي تمت على أيدي آبائهم على أرض الشعب الأحمر الحر الذي أبادوه ثم حلوا محله.
فلقد أبادوا أكثر من 150 مليون إنسان من السكان الأصليين المسالمين الطيبين الأحرار الذين سكنوا الأراضي الأمريكية منذ 10 آلاف عام، حسب المؤرخات، وجاؤوا إليها من سيبيريا في آسيا، فقد كانوا امتدادا للشعوب الآسيوية القديمة.
عمل المؤسسون الجدد على فتح أبواب الهجرة أمام الأوروبيين والحاصلين على قدر من التعليم والثروة والتجارة والصناعة في محاولة صناعة تاريخ جديد يمتد من بداية قيام الدولة الأمريكية الجديدة منذ قرنين، ففي تلك الفترة كانت عملية الإبادة قد بلغت نهاياتها وأصبح من يُعرفون بالأمريكيين هم السادة المسيطرين، ويسمونها أرض المهاجرين الأحرار في أدبياتهم، وكأنها كانت أرضاً خالية من الناس ومن سكانها الأصليين، أرضاً بكراً تنتظر من يستغلها ويستخرج خيراتها! ولكن مهما فعل الأمريكيون فلا يمكنهم تغيير مورثات النواة العرقية الييضاء الصلبة التي تسيطر على كل شيء في أمريكا، فمنها يأتي الرؤساء والمسؤولون والقادة والملاك وأصحاب الاحتكارات الكبرى.

في تاريخ غياب الحكمة والفضيلة الأمريكيتين
إن الشرط الأساسي لمسيرة التاريخ الأمريكي وصيرورته وكل ما حققه من قوة وإنجازات مادية هو غياب الفضائل والحكمة والعقل والأخلاق والروح والعاطفة والرحمة والإنسانية وسيادة التوحش والإباحية والكراهية والقسوة والانحلال الخلقي، أي باختصار: نفي كل فضيلة إنسانية وأخلاقية وروحية عن الشخصية الأمريكية الرئيسية القيادية والنخبوية التي لعبت الدور الحاسم في أحداث التاريخ الأمريكي. وهي ظاهرة تبعث على الرعب والخوف في المجتمع الأمريكي نفسه، بين فئاته وجماعاته ومناطقه ومدنه، فهو مجتمع لا يعرف السلام مع ذاته أبدا، ولا يعرف الرحمة ومساعدة الضعفاء والمساكين أبدا، ولا التكافل الاجتماعي ولا الفضيلة.
إن الأمم تطور تلك الأحاسيس والفضائل عبر مسارات طويلة من السلوك الحسن والفطري والمستقيم والمعبر عنه عبر تجاربها وتاريخها وخبراتها الإيجابية والسلبية، حيث تطور الشعوب مبادئها ومفاهيمها وفلسفاتها وحكمتها وأديانها وحكمتها ثم تصوغها في أنظمة السلوك والأخلاقيات والرياضات الروحية والدينية العقيدية وتشفرها في جيناتها الوراثية لتورثها لأجيالها التالية بناء على تلك الخبرات المعاشة المتوالية والمتكررة عبر العصور، ثم تختزل في المفاهيم والفلسفات والعقائد والفضائل والحكمة. والنتيجة هي أن كل شعب أو جماعة تداوم على سلوك معين، تتوارثه مكتسبا من أجيالها السابقة، من خبراتها التأسيسية، ومن ممارساتها اليومية الطويلة، ومن طباع وسمات وخصال ومزايا موروثة.
والفكرة الأساسية للأمريكي وطبيعته الأصلية التي تحكم وعيه ونفسيته وعقله المشوه المنحرف هي الاستباحة والإباحة والمصلحة الفردية واحتراب الجميع ضد الجميع، والسعي الدائم للقوة والنفوذ والمال من أي طريق وبأي وسيلة، بما فيها الجريمة والقتل والاغتصاب والسرقة والاحتيال والخداع والغش والنصب والزنا والمجون وبيع الأعراض وتجارة المخدارات وإبادة الشعوب ونهبها... وكلها طرق ووسائل مقبولة ما دامت تتم بعيدا عن أعين القانون، فالقانون بطبيعته أعمى لا يحاسب إلا من يصل إليه، ويتحول القانون نفسه إلى قناة لتبيض الأعمال المخالفة لجوهر كل قانون، لكن القانون الأمريكي قد أفاض في الفسح والحقوق والرخص والقواعد والغوامض ما يشبه لدينا إقامة الدليل على الزاني، بحيث يفلت أغلب المجرمين من الملاحقة أو العقاب، على قاعدة "دعه يعمل، دعه يمر"، وهي قيم الرأسمالية الأوروبية ذاتها، فالقانون لا يجرم الرذائل الأخلاقية، بل يحميها ويحمي ممارسيها ويشجع عليها.
وفي أمريكا والغرب لا يتورع حتى الرؤساء عن ممارسة أكثر الرذائل شذوذا وسوءا وانحرافا، وهذا لا يمنعهم من الترشح إلى انتخابات الرئاسة والإمساك بأخطر الوظائف في الدولة. وقد شاهدنا رؤساء وقادة كباراً في الغرب لا يخجلون من الاعتراف بمظاهر انحرافهم عن الفطرة السليمة وشذوذهم ومجونهم، باعتبار ذلك من حقوق الفرد الخاصة التي يحميها القانون والدستور، ويرسخ كل هذا الثقافة اليومية الهابطة والمدمرة عبر التلفاز والإنترنت والحانات وأندية الليل والقنوات وهوليوود.

الحرب ضد البلد الأفقر ثقافيا 
شهدت أوروبا في عصور التنوير والنهضة إنجازات إنسانية عظيمة في مجال الأدب والشعر والفلسفة والقصة والرواية، والتي كان أهم ما فيها نزوع الإنسان المظلوم والفقير المقهور، وهم الأغلبية الشعبية، للتحرر من قيود الإقطاع والرأسمالية وعذاباتهما وشقائهما، وبرز فيها العمالقة الكبار في الثقافة ومجددو النهضة الإنسانية والكرامة الإنسانية في فرنسا وبريطانيا وألمانيا وروسيا وإيطاليا وسويسرا وهولندا والنمسا وغيرها.
من يمكن أن ينسى رواية "الأم" لمكسيم غوركي، و"الدون الهادئ" و"مصير إنسان" لميخائل شولخوف، و"البوساء" لفكتور هوجو، و"الكونت مونتي كرستو" و"الفرسان الثلاثة" و"الرجل ذو القناع الحديدي" للاسكندر ديماس الكبير، و"قصة مدينتين" و"قصة الطفل المشرد" للأديب البريطاني الشهير تشارلز ديكنز؟! ومن ينسى أعمال جان جاك روسو و"العقد الاجتماعي"، ومونتسكيو حول الشرائع وروحها وأعمال المنورين الفرنسيين العظام الذين مهدوا عقليا وفكريا بأعمالهم للثورات الفرنسية والإنجليزية والروسية والألمانية والأمريكية وغيرها، ومهدوا للنهضة الاجتماعية والسياسية التي شملت أوروبا والعالم لاحقا؟!
ومن يستطيع أن ينسى عمالقة الفكر الأوروبي الحديث: هيجل وديكارت وفخته وهوبز وسان سيمون وفورييه وأوين وماركس وإنجلز وغرامشي وجوركي وشولوخوف وتشيخوف وتولوستوي وزيفاكو وبوشكين وتشيرنيفسكي وبليخانوف...؟!
كل هذه الإنجازات الجميلة والرائعة التي لا تنسى للأوروبيين غزت إيجابياً بآثارها العالم كله، فليس هناك قارة أو بلد إلا ورضع من قيمها الإنسانية وتأثر بأفكارها التقدمية وتضاعفت أسباب التعاطف مع محنها ومحن أصحابها الذين لم يكونوا سوى الشعب الأوروبي ذاته وكادحيه وفقرائه ومظلوميه ومواطنيه من الدرجة الثانية.
وإذا أخذنا في الاعتبار أن الأمريكيين هم أوروبيون في الأصل، فأين أدبهم الأوروبي المنقول من مهاجرهم الأولى التي لم ينقطعون عنها؟! وأين إبداعهم الجديد في مستعمراتهم الجديدة؟! أين إنجازاتهم الفكرية والإنسانية والفلسفية التي تخصهم؟!
أليس غريبا أن تجد أقوى دولة في العالم ماليا وتطورا، وأكثرها علما وصناعة واقتصادا وازدهارا، هي الأكثر فقرا في مجال الثقافة الحقيقية الجادة البانية والإنسانية، بالرغم من أن أوروبا في نهضتها أنتجت روائع الأدب والفكر والفن وحملتها إلى أمريكا خلال الهجرة المتواصلة، إلا أننا لا نجد أي إنجاز خاص وجديد يخص الأمريكيين.

الدولة الأكثر فقرا روحيا
إن الولايات المتحدة بين الدول الأكثر فقرا في المجال الثقافي الروحي والفكري والإنساني، وبالأخص خلال القرون الأخيرة، وبشكل غريب لا يمكن فهمه بسهولة إلا بالغوص العميق في تاريخها القريب والحديث. ولكن أليس لديها كتاب وفلاسفة ومفكرون وروائيون ومصلحون اجتماعيون وإنسانيون وسينمائيون وفنانون ومخرجون ومسرحيون جيدون...؟!
نعم، لديها، ولكن أين هم؟! ما مصيرهم؟! إنهم مجهولون، لا صوت لهم ولا وقع أقلام ولا صدى أصوات تنادي في بيداء الصمت والضياع المطبق على حياة الأمريكيين البسطاء المفقرين والعاطلين والمغيبين ذهنيا ونفسيا والمسحوقين والبائسين الذين تضيق بهم ضواحي المدن الكبرى ومدن الصفيح والجسور ومقالب القمامة.
أليس لأمريكا مآسٍ إنسانية تحكي عنها وتشكو منها وتبحث عن معالجات لها وحلول إصلاحية كغيرها من البلدان؟! نعم، لديها الكثير من المآسي الإنسانية الكبيرة، بل لديها من المآسي ما يدهش الألباب ويحير العقول، ومع ذلك لا يتم تناولها إلا بالطريقة التي تريد وتخدم الاحتكارات العملاقة وأهدافها وثقافتها الاستعمارية.
ولكن لأمريكا سينما كبرى وصناعة سينمائية عظيمة ومتطورة تغزو العالم بإنتاجها وأفلامها من كل نوع وطراز، وهي تعكس المشاكل الاجتماعية ولو في جانب منها. نعم، لها سينما هي الأضخم في العالم، ولها آلة إعلامية هي الأوسع في العالم والأكبر حجما وقوة وتأثيراً؛ لكن ما هي القيم والرسالة التي تنشرها عبرها؟! وإلى أين توجهها؟! وما هي أهدافها؟!
إن ما تنشره للعالم لا يزيده إلا خرابا وتمزقا وانحلالا فوق ما هو عليه. وكل ما تنشره وتبعثه إلى العالم موجه إلى إثارة أسوأ الغرائز وأكثرها تطرفا واستباحة وإباحية، ويحض على العنف والحروب والجريمة والمخدرات واللصوصية والاحتيال والغش والخيانات والبغاء وانتهاك المحرمات والمحارم واحتقار الدين والمتدينين...