مروان أنعم / لا ميديا -

بدأت الثورة الصناعية الثانية في العالم بالتوسع في صناعات الصلب بدلاً من التركيز على الحديد فقط، فمن خلال ضخ الهواء النقي في الأفران يتحول الحديد مهما كانت نوعيته إلى صلب (فولاذ). ثم جاء بعد ذلك مباشرة اختراع الدينامو، الذي بفضله استطاع العلماء تحويل الطاقة الميكانيكية إلى طاقة كهربائية. ولاحقاً تم اختراع أول محرّك (موتور) في عام 1876 يعمل على أساس الاحتراق الداخلي، وهو ما فتح المجال أمام صناعة السيارات.
كل ذلك كان من أهم منجزات الثورة الصناعية الثانية، وهذا أمر يكاد يعلمه الجميع، لكن ما لا يعرفه الكثيرون أن اليمنيين كان لهم إسهامات وبصمات في هذه الثورة الصناعية، وهو ما سنوضحه طي هذا التقرير.

1870 الهجرات الأولى
أشارت العديد من المصادر التاريخية إلى أن أول هجرة لليمنيين إلى أمريكا كانت مع بداية الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، وتحديداً في العام 1870. حينها كثرت الهجرات الفردية لبحارة يمنيين استقروا للعمل في مصانع وورش الحديد والصلب التي كانت منتشرة في ولايات الشمال الشرقي الأمريكية، مثل نيويورك. وبعد الحرب العالمية الثانية تزايد أعداد المهاجرين اليمنيين إلى أمريكا بسبب ارتفاع وتيرة الطلب على الأيدي العاملة اليمنية، وخاصة في قطاع صناعة السيارات، نظراً لما أبدوه من مهارة وتفانٍ في العمل.

من عدن إلى ميتشغن
كانت النقابات العمالية وما تمارسه من إضرابات واعتصامات تشكل صداعاً لكبار الصانعين الأمريكيين في تلك الحقبة. ولكي يتخلصوا من هذا الصداع وجدوا الحل في استقدام عمالة أجنبية تكون لغتها الإنجليزية بسيطة، لا يستطيعون معها الانخراط في النقابات العمالية والمشاركة في الإضرابات والاعتصامات، بسبب الحواجز اللغوية والثقافية.
ومن هنا بدأ كبار الصانعين الأمريكيين استقدام عمالة من اليمن أو المكسيك، عمالة عازفة عن الإضرابات والاعتصامات، ومنهم الرأسمالي هنري فورد، صاحب شركة "فورد" للسيارات، الذي أرسل سفينة إلى ميناء عدن لجلب عمالة يمنية، وهو ما كان له، حيث عادت السفينة إلى أمريكا وعلى متنها 2000 عامل يمني استوطن بعضهم في ديربورن في ديترويت بولاية ميتشغن، في قصة شهيرة صارت جزءاً من السيرة الذاتية لـ"هنري فورد" وللجيل الأول من المغتربين اليمنيين في أمريكا.
وهناك أوراق رسمية أمريكية، تحتفظ بها أسر يمنية في الولايات المتحدة، تؤكد مرور نحو قرن منذ أن وطأت أقدام المهاجرين القادمين من ميناء عدن هذه الأرض، وتحديدا في ولاية نيويورك.
بدأ العمال اليمنيون ممارسة أعمالهم في مصانع فورد بتفانٍ وإخلاص، الأمر الذي أدى إلى تضاعف عدد اليمنيين العاملين في مصانع السيارات الأمريكية، ليصل إلى نحو 7 آلاف يمني حالياً، وفق تقديرات يمنيين مغتربين في أمريكا.
ميتشغن، الولاية الصناعية المحتضنة لأكبر مصانع السيارات في أمريكا، تحتضن اليوم أكبر جالية يمنية أمريكية، تعيش في أحياء خاصة، كما في مدينة ديربورن أو مدينة هام ترامك. ولعل الزائر العربي إلى ميتشغن سيلحظ الانتشار الواسع لليمنيين الأمريكيين في الولاية. والسر يكمن في أن نسبة كبيرة منهم يعملون في مصانع السيارات العملاقة، وأيضاً الصغيرة منها كمصانع قطع الغيار والتغليف.

في ولايات أخرى
ليست ولاية ميتشغن الصناعية محطة الجذب الوحيدة للمهاجرين اليمنيين، فهناك أيضاً المصانع العملاقة في فروع الشركات الكبرى في ولاية نيويورك، وتحديدا في مدينة بافلو، إضافة إلى مصانع أخرى في ولاية أوهايو، كما يعمل البعض الآخر في ولاية كاليفورنيا في مجال الزراعة وتربية المواشي.
وهناك حاليا استكشاف لبعض الولايات الأخرى من قبل جيل الشباب من أبناء الجالية اليمنية في الولايات المتحدة الأمريكية كولاية كارولينا الشمالية وولاية تينسي وغيرهما. ويعمل أغلب اليمنيين في أعمال حرة أغلبها تتعلق بتجارة التجزئة.
وتقول دراسة أعدها رون ستوكتون، أستاذ العلوم السياسية بجامعة ميتشغن، إن 79 % من اليمنيين الوافدين يحملون الجنسية الأمريكية، وأن 80 % منهم يتحدثون الإنجليزية (اللهجة الأمريكية) بطلاقة.

قصة نجاح وتميز
فاطمة مطهر، العاملة في شركة "جنرال موتورز" الأمريكية (GMC) لصناعة السيارات، عاشت إحدى قصص النجاح للأجيال المتعاقبة العاملة في أمريكا. وتمثل تجربتها نتاج كفاح جيل سابق مهد لها الطريق، فالجد كان يعمل بحاراً ووالدها مُراجع محاسبي في وزارة الخزانة الأمريكية، وهي أصبحت مهندسة تشارك في الإعداد لصنع القرار في أهم شركة صناعة السيارات بأمريكا.
تلك التراكمات الأسرية والأجيال التي تعاقبت منذ عام 1930 وقت أن سافر الجد للعمل بحاراً في البحيرات العظمى، مهدت لفاطمة طريقاً للنجاح والانخراط في أوساط المجتمع الأمريكي، فقد ولدت وترعرعت في ولاية ميتشغن وسط أسرة مؤمنة بهويتها اليمنية.
درست فاطمة الهندسة وتخرجت في جامعة "واين ستيت"، ثم حصلت على وظيفة في شركة "جنرال موتورز".
وحالياً تعمل فاطمة في دارسة كل التقارير وتقديم كل البيانات للمشرف الأول، الذي يُعد المختص الأول والأخير في إصدار القرارات عن نوعية نماذج السيارات وتصنيعها. وتعتبر فاطمة حالياً من نجوم المجتمع في ديربورن بميتشغن، ونموذجاً متميزاً للمرأة اليمنية العصامية المكافحة والعاملة، لدرجة أن الأستاذ الأكاديمي في كلية مونري فيلا، الدكتور كوب موزاد، وضع مسيرتها المهنية والحياتية ضمن أطروحته للدكتوراه في مجال اليمنيين الأمريكيين.

تقدير أمريكي لمهارة العامل اليمني
أجيال عديدة تركت بصماتها في العديد من الطرازات والموديلات المختلفة من خلال التواجد الكثيف في مصانع السيارات المتنوعة. فالآباء، الذين وصل أغلبهم إلى سن التقاعد، عملوا في شركة (Ford) العملاقة، وكذلك في شركة (General Motor) التي تمتلك أكبر مصانع السيارات في العالم، إلى جانب عملهم في الشركة العملاقة الثالثة (Chrysler)، إضافة إلى عمل العديد من أبناء الجيلين الثاني والثالث في هذه المصانع والشركات الكبيرة، في وظائف مختلفة، تؤكد تميز وذكاء ومهارة العامل اليمني.
كما أن اليمنيين الأمريكيين، خاصة من أبناء الجيل الثاني، يعدون مطلباً للمصانع الأخرى المعنية بقطع غيار السيارات، ولهذا نجدهم يتوزعون في مختلف تلك المصانع، كمصانع البطاريات والإطارات والزجاج وكراسي السيارات وغيرها، ويعملون في عدة وظائف مختلفة، فمنهم العامل اليدوي، والإداري، ورؤساء الأقسام.
ويحظى العامل اليمني في مصانع السيارات في ميتشغن بالكثير من التقدير والترحيب من قبل أصحاب المصانع الأمريكية، بسبب التزامه وجهده وتواجده اليومي في عمله، وتركيزه وسرعة فهمه وحرصه على الإنتاج حسب مواصفات الجودة.