علي نعمان المقطري / #لا_ميديا -

ملخص لما سبق
أكثر ما تخاف منه الصين ليس الحرب مع أمريكا والغرب، بل أن يتم محاصرتها وخنق وصول الطاقة النفطية إليها فتنهار صناعاتها واقتصادها، وتضطر لأن تخضع للإرادة الغربية الأمريكية قبل استخدام السلاح الحربي.
وقد نشر عن البنتاجون الأمريكي قبل عامين تقرير ووثيقة تقييمية للقوة في شرق آسيا وبحر الصين الجنوبي، تقول بأن الصين ستصبح الدولة الأقوى في العالم اقتصاديا خلال السنوات الخمس المقبلة كأمر محتم لا نقاش فيه.
بعد أن وصلت إلى المركز الثاني عالميا منذ بضع سنوات، ستبلغ الصين مركزا أعلى من الاقتصاد الأمريكي وأكثر من الدخل القومي الأمريكي. أما الولايات المتحدة الأمريكية فسوف تتراجع نحو مراكز أدنى، لأنها تواصل تراجعها دون توقف منذ أربعة عقود، أي منذ هزائم فيتنام والعراق ولبنان وسوريا، وهي تتكبد عجزا سنويا مقداره 1,5 تريليون دولار، يتراكم على شكل مزيد من الاستدانة من الخارج ومن الداخل حتى وصل حجم الاستدانة إلى 50 تريليون دولار، أي ضعف الدخل القومي الأمريكي القومي الحالي.
ولكن ما هو الاقتصاد ومن هي الدولة التي تجتاح باقتصادها الاقتصاد الأمريكي فلا يستطيع منافستها ولا يستطيع منعها ولا يستطيع حربها مباشرة كلاسيكيا وتقليديا؟ ومن هي الدولة التي يستدين منها قروضا سنوية لتدبير الدين والعجز السنوي في موازنة الدولة الأمريكية؟ ومن هي الدولة التي تسيطر الآن على أهم القطاعات الصناعية الأمريكية التقليدية المفلسة؟
إنها الصين، فإليها تذهب أفضل الصناعات الأمريكية العاجزة والمفلسة والبنوك المالية الضخمة ومراكز الذهب والعملات الصعبة والبورصات، وتملك أكبر احتياط من الأموال وثروات العالم الصناعي، وتنتشر بنشاطها السلمي التعاوني المغري البنّاء والإيجابي، وتحترم سيادة الدول والشعوب ولا تتدخل في شؤونها الداخلية. إنها الصين، التي صارت تسيطر حتى على قسم كبير من السوق الأمريكية والأوروبية بحكمتها وذكائها واحترامها وبكياستها وتواضعها وأدبها الجم وحسن تعاملها وشروطها الميسرة وتعاونها وخدماتها وأسعار منتجاتها الرخيصة والمناسبة وقلة الفوائد التي تقنع بها... إذن فليس أمام الثور الأمريكي الهائج إلا الرهان الأخير المتمثل بخنق وصول الطاقة الاستراتيجية للصين.
 
تحدي الدولة العظمى
سيأتي الخنق الاستراتيجي الأمريكي للصين من خلال إعادة السيطرة على ما يسمى منطقة الشرق الأوسط العربية الإسلامية، ومنع الصين من تأمين الحصول على احتياجاتها الضرورية من النفط والطاقة من المنطقة، وهي (أي أمريكا) تريد إعادة الهيمنة على جميع مصادر الطاقة خلال فترة قصيرة، وهي لا تخفي نواياها ولا استهدافها للصين وروسيا وإيران، وقد أصبحت التهديدات الأمريكية جدية الآن، إذ لم يعد بوسعها تحمل التطور الهادئ والسلمي للعملاق الصيني، والتظاهر بقدرتها على امتصاص نتائجها ومفاعيلها في إطار قواعد لعبة الأمم التي صممتها بنفسها.
تحدي دولة عظمى كالصين في عقر دارها، في جغرافيتها وساحاتها الداخلية وخطوط مواصلاتها الخارجية ومسارات نقل طاقاتها، تلك هي الاستراتيجية العدوانية التي تراهن عليها الولايات المتحدة الأمريكية وتحالفاتها ضد الصين وحلفائها وشركائها.
 
إعداد ساحة الحرب والمعارك الكبرى
إن مدارس ومناهج الاستراتيجية الأمريكية تقسم العالم إلى ثلاث مناطق عظمى، وهي كالتالي:
1 ـ معاقل الغرب المعتدي الغازي المحيطي البحري المائي.
2 ـ معاقل الشرق المعتدى عليه المدافع القاري البري.
3 ـ مناطق وسطية مركزية تفصل بين الطرفين وكل طرف يسيطر على جزء منها ويحاول توسيع سيطرته.
وللتغلب على الطرف المستهدف في الرقعة الشطرنجية الكبرى لا بد من السيطرة على منطقة الوسط المركزية والهيمنة على خطوطها ونقاطها الحاكمة وضبط الجماعات السكانية المحلية (الشعوب والأمم القاطنة فيها)، وإخضاعهم بشتى الوسائل الممكنة الباردة والساخنة والرمادية، وضمان احتياجاتهم الأساسية وتجنيدهم بالوكالة ودفعهم إلى المعارك نيابة عنها وخداعهم بأنها قضاياهم المقدسة، وتقتضي منهم محاربة الأخطار القادمة من الشرق.
 
خطوط التماس
تمثل منطقتنا العربية الإسلامية كما هي في واقعها الموضوعي والتاريخي خطوط التماس الأولى في المواجهة المصيرية، أو ساحة الصراع الأولى الكبرى التي يشتد النزاع فيها في المرحلة الراهنة، لأنه لا يوجد ساحة أخرى لها الأهمية نفسها والقيمة المفتاحية المركزية والمواصفات والثروات والمواقع والقدرات والإمكانات والتماسات التي تقرر مصير القوتين مرحليا، لكنها تقرر المصير الاستراتيجي بالتأكيد، ذلك أن من يملك السيطرة والهيمنة على منطقتنا فإنه يمكنه التحكم بالعالم كله من خلال التحكم بالطاقة، فليس هناك منطقة أخرى لديها هذه الكمية من الثروات البترولية. كما أن الدول الناهضة الجديدة تعتمد على نفط منطقتنا، مثل الهند واليابان وماليزيا وكوريا والصين، وفي الغرب تعتمد دوله على نفط العرب. ورغم استخراج النفط الصخري في أمريكا إلا أنها مازالت بحاجة لكميات إضافية من نفط المنطقة، ولكنها في مواجهتها ومحاربتها لصعود الصين وبقية المحور التحرري، حتى وإن استطاعت التصرف بنفط الخليج وأمواله فإنها تجد أمامها إيران قوية مستقلة لا يمكنها منعها من تطوير التنسيق والتكامل الاقتصادي مع الصين وروسيا، مما يجعل عقوباتها التي تفرضها على إيران لا قيمة لها، بفضل تعاونها المشترك مع المحيط الآسيوي الأوراسي الذي يلتف على المناورات الأمريكية. ولذلك فإن أحد أهم أسبابها لإثارة التوترات في المنطقة هو القضاء على هذا التعاون المشترك الذي يحول دون تقويض قوى محور المقاومة والاستقلال، ويمنع الاستفراد الأمريكي بأي منها.

الصين تواصل الالتفاف على الحصار الأمريكي
منذ أيام بوش والمنطقة ملتهبة بالصراعات والمؤامرات التي تواصل الولايات المتحدة الأمريكية القيام بها بشكل متصاعد بقصد زعزعة أوضاع الأنظمة والمقاومة وتعزيز الهيمنة الصهيونية الامبريالية على المنطقة.
وفي المقابل تواصل الصين كسب الوقت اللازم لإنجاز بدائلها الاستراتيجية لنقل الطاقة والبضائع المتبادلة مع دول العالم، للالتفاف بعيدا عن مناطق السيطرة الأمريكية البحرية، بإقامة وإنشاء شبكة طرق جديدة برية وسكك حديدية عالمية ضخمة تمتد عبر ما كان يعرف قديما بطريق الحرير الممتد من الصين نحو شرق وشمال أوروبا عبر أوراسيا، كما تمد طرقا جديدة منها إلى إيران عبر باكستان وأفغانستان لنقل النفط والبضائع برا، وهي توسع تعاونها المربح للطرفين مع الدول المحيطة بها، حيث توظف إيجابياً الأموال والفوائض الضخمة التي تحققها في تطورها وتمنح جميع الدول المستعدة للدخول معها في شراكة اقتصادية إنتاجية نهضوية للطرفين، وهي مستعدة أن تقدم الأموال اللازمة على هيئة قروض ميسرة، شروطها غير قابلة للمنافسة.
هناك أمثلة بارزة على هذ النوع من التعاون المتبادل، هي أمثلة التعاون مع باكستان ومع العراق ومع إيران:
1ـ مع باكستان عبر بناء ميناء ضخم على المحيط الهندي وبحر العرب، هو ميناء جوادار، وسيكون مركزا ضخما لإعادة التصدير والتجارة ينافس الإمارات والخليج، إضافة إلى استثمارات في مجال البنية التحتية والطرق والمصانع والسدود وغيرها، وتقدر الصفقة بحوالى 200 مليار دولار.
2ـ مع إيران تم بناء ميناء على مضيق هرمز ومركز بري وطريق لإيصال النفط من إيران إلى الصين عبر باكستان.
3 ـ التعاون مع العراق مقابل ضمان توريد نفط عراقي إلى الصين تلتزم الصين بإقامة مشاريع نهضة كاملة، تقدر الصفقة بـ500 مليار دولار، تقيم الصين بها عددا من المشروعات العملاقة في العراق والتي تخدم الاقتصاد الوطني من سكك حديدية ومصانع وطرقات وموانئ وسدود وبنية تحتية ومطارات ومنشآت.
وكانت هذه هي القشة التي قصمت ظهر بعير العلاقات مع الأمريكيين في ظل حكومة د. عادل عبد المهدي.

خطى الخسارة والانتحار
لقد خسرت أمريكا الحرب في شرق آسيا في منتصف السبعينيات، وكانت تلك حربا مختلفة في جوهرها، لأنها حدثت في ظروف مختلفة عن الآن والمكان والساحات، فقد كانت الولايات المتحدة الأمريكية ما تزال في فتوتها وعنفوانها وقوتها، واقتصادها كان ما يزال قويا يسمح لها أن تعيد بناء قواها مجددا، لأن الهزيمة المرة التي تجرعتها كانت غير ساحقة، وثمنها كبير في الجانب التحرري المدافع والثوري. أما الآن ومنذ الهزائم الأمريكية في العراق والأطراف الوطنية التحررية فقد تعلمت هذه الأطراف الكثير من الدروس وحفظتها عن ظهر قلب، وأعادت بناء استراتيجياتها وتكتيكاتها بشكل مذهل وساحق ورهيب، فقد تكبدت أمريكا أكثر من 7 تريليونات دولار من الخسائر والأكلاف، حسب تصريحات ترامب وأوباما وغيرهما، ثم تكبدت في حرب سوريا وحدها حسب اعترافات قادة المؤامرة أنفسهم ومنهم حمد بن جاسم آل ثاني وأوباما، للذين قالا بأنها بلغت أكثر من 4 تريليونات دولار، غير مئات الآلاف من الضحايا من مرتزقتهم وجنودهم وعملائهم. وفي اليمن كبدت المقاومة الوطنية الشعبية الغازي أكثر من 3 تريليونات دولار إلى الآن، غير مئات الآلاف من القتلى والجرحى طوال الخمس السنوات من العدوان الأمريكي السعودي الصهيوني، مما يجعل الأمريكي أمام تحديات ضخمة لا سبيل إلى دفعها والتغلب عليها، ويشتد وطيس الحرب العدوانية وآلامها ومقاومتها ويزيد أوارها كل يوم، لكنها تؤشر بخطوطها الأساسية العامة إلى متجهاتها ومآلاتها ونتائجها، وفي جميع الأحوال تحقق الاستقلال والحرية.
وها هي أمريكا تحث الخطى نحو انتحارها الاستراتيجي المدوي الموعود وكأنه وعد سماوي قدري لا رجعة عنه، فهو انتحار المقامرين المستكبرين المتجبرين، فهم إما أن يأخذوا كل شيء وإما لا شيء.
ولأن أمريكا تتصور أن الزمن قد تجمد ولم يتحرك وظل كما كان قبل قرن أو نصف قرن ولا يعتريه تغيير وتبديل، ولا سنن كونية تنطبق عليها، فهي تعتبر نفسها فوق كل سنة أو منطق أو قانون، وهذه هي كارثتها ومأساتها وفجيعتها المرعبة التي تجمعت ونسلت من فجائع ومآسي وآلام شعوب وأمم وقارات بكاملها عبر قرون هي التي كانت ومازالت صانعها والمستفيدة منها منذ الهنود الحمر الأحرار الذين تمت إبادتهم بالملايين على يديها وأسلافها، إلى الفيتناميين والفلسطينيين واليمنيين واللبنانيين والعراقيين والسوريين والإيرانيين والأفغان والكوريين والكوبيين والفنزويليين والتشيلييين والبوليفيين والبنميين والكولمبيين والمكسيكيين والسلفادوريين والأفارقة والروس و... و... ومليارات من الناس أحالت حياتهم إلى جحيم أو قضت عليها بالمرة.
«لا أحد ينسى، ولا شيء يُنسى» في هذا العالم المقهور المظلوم المستغل المستنزف من قبل ثلة متخمة من لاعقي «الشوانجام» ولابسي الجينز واليخوت الفخمة.