فؤاد عبد العزيز الزريقي / إعداد/ طاهر علوان الزريقي -

في معرض ما توهمه رداً موضوعياً على آراء أدونيس، حول مكونات منحى العقلية العربية، طرح الأستاذ عبدالله علوان بعض الآراء والتصنيفات والأحكام الإطلاقية البعيدة عن روح العلم وقواعد مناهج البحث والتحليل. 
وليس هنا مجال المحاكمة النقدية لكل ما طرحه من آراء، توهم أنها تساعده في تسفيه آراء أدونيس. ولكن سوف أحاول مناقشة بعض الأحكام الجزافية والتصنيفات التعسفية التي وردت في مقال عبدالله علوان «زمن الفراغ في مكان ملآن»، وبالتحديد موضوع المعتزلة التي أقحمت عشوائياً في مقاله.

يصنف الأستاذ عبدالله علوان، غيلان الدمشقي ضمن المعتزلة لقوله بالقدرية ورفض الجبرية، كما لو كان رفض الجبر والقول بالقدر يجعل أي شخص معتزلياً، دون تمسكه بالأصول الرئيسية الأخرى التي تصيغ فكر هذه المدرسة.
والحقيقة أن المعتزلة تاريخياً هي مدرسة فكرية. ودون الدخول بالفروع، تتمسك بخمس قواعد أساسية أو خمسة أصول بالمصطلح المعتزلي. وهذه الأصول هي: العدل، التوحيد، الوعد والوعيد، المنزلة بين المنزلتين، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ويقول أحد أواخر المعتزلة، وهو القاضي عبدالجبار المعتزلي، إن كل من يأخذ هذه الأصول الخمسة مجتمعة ويختلف معهم في الفروع الأخرى يعتبر معتزلياً، ومن لا يتمسك بأحد هذه الأصول ويأخذ باقي الأصول لا يعتبر معتزلياً. وهذا ما اتفق عليه علماء الكلام، بالإضافة إلى مؤرخي المدارس الفكرية الإسلامية ابتداءً بالدكتور سامي النشار، ود. عبدالرحمن بدوي، ود. أحمد صبحي، وانتهاء بالمستشرقين المختصين في هذا الجانب كجولد تسهير وفلهاوزن.. الخ.
فالأصول الخمسة هي المرتكز الأساسي الذي يتمحور عليه الفكر المعتزلي. ومن أخذ هذه الأصول كلها رغم التباين بالفروع المنبثقة من هذه الأصول يعتبر تاريخياً من المعتزلة. صحيح أن غيلان الدمشقي المقتول إبان حكم هشام بن عبدالملك، وأيضاً معاصره درهم الجعدي، كانا من أوائل من قال بالقدرية (القدرية بمصطلح علم الكلام يعني الاختيار، ولا يعني الإيمان بالقضاء والقدر بالمعنى الحديث والمعاصر). فغيلان الدمشقي يتفق في تأكيده على حرية الاختيار ونفي الجبر مع أحد أصول المعتزلة، ولكنه يختلف مع المعتزلة في بقية أصولهم الأساسية.
فهو -على سبيل المثال- كان من المجسمة والمشبهة، إذ يطرح في التوحيد فكرة التشبيه والتجسيم الذي يفيد أن صفات الله متمايزة عن ذاته، وأنه يتصف ويشابه ما جاء ظاهرياً في القرآن، وهذا التشبيه والتجسيم يعتبر نقيضاً لآراء المعتزلة في التوحيد، لأن المعتزلة في أحد أصولهم، وهو التوحيد، يؤكدون أن صفات الله هي عين ذاته: فالله عز وجل- كما يقول أبو هذيل العلاف أحد كبار المعتزلة- عالم بعلمه هو هو، وقادر بقدرة الله هي عين ذاته، فالله عز وجل هو هو. وهكذا فالصفات عند المعتزلة هي عين الذات، ولا انفصام أو تمايز بين الصفات والذات.
كما أن المعتزلة انطلاقاً من تنزيه الذات الإلهية عن التجسيم والتشبيه، قاموا بتأويل كل الآيات القرآنية التي تفيد التشبيه ظاهرياً، إذ يؤولون الآيات التي تفيد التجسيم: "يد الله فوق أيديهم"، "ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام"، "الرحمن على العرش استوى"، تأويلاً مجازياً لإبعاد صفة الله أن يكون له يد أو وجه. كما يؤولون الآيات التي تشبه الله بصفات إنسانية كالانفعالات والشعور: "إن غضب الله لشديد"، تأويلاً مجازياً استناداً إلى الآية القرآنية "ليس كمثله شيء".
ومن هنا يتضح لنا أن غيلان الدمشقي، رغم اتفاقه مع المعتزلة في أحد أصولهم، وهو العدل الذي يفيد حرية الآراء والاختلاف، يختلف معهم في أصل مهم من أصولهم الخمسة، وهو التوحيد. فغيلان الدمشقي في أخذه لظاهر النص يتفق في التوحيد مع الظاهرية أتباع ابن حزم الأندلسي.
وهناك معاصر آخر لغيلان الدمشقي، هو جهم بن صفوان، يتفق مع المعتزلة في التوحيد، ولكنه كان جبرياً. ولهذا تعرض للنقد والرفض من قبل المعتزلة في جبريته ومخالفته إياهم في أصولهم الأخرى.
وإذا كان جهم بن صفوان لا يعتبر معتزلياً لمجرد اتفاقه معهم في أصل التوحيد، فكذلك لا يعتبر غيلان الدمشقي معتزلياً لمجرد اتفاقه معهم في أصل العدل.
إن أخذ الاتفاق في نقطة واحدة كمقياس للانتماء الفكري لا يؤدي إلَّا إلى الخلط والتشويش وتداخل المدارس المختلفة.
وكل ما يمكن القول عن غيلان الدمشقي، إنه كان مقدمةً أو إرهاصاً لمجيء مدرسة الاعتزال التي صاغ أصولها واصل بن عطاء، وطورها أبو هذيل العلاف، وآراؤه في الجزء الذي لا يتجزأ، والنظام، وآراؤه في الكون.
وفي معرض تفضيله للمعتزلة على القرامطة والزنج، يطرح عبدالله علوان أن المعتزلة كانوا بين أفضل الحركات السياسية التي قامت بالثورات والانتفاضات ضد الواقع القائم في أواخر العهد الأموي وأوائل العهد العباسي. ولا شك أن المعتزلة يمثلون النواة العقلية في الفكر الإسلامي لإعطائهم العقل دوراً أكبر في فهم المعتقدات والحياة، وفي دفاعهم عن حرية الإنسان.
ولكن يجب ألا ننسى أن المعتزلة عندما أكدوا على حرية الإنسان، لم يكن ذلك رغبة منهم في الدفاع عن الحرية الإنسانية، ولكنهم كانوا ينطلقون من دافع أساسي ووحيد، وهو تنزيه الله عن الظلم.
إذ يذهب المعتزلة في أصولهم إلى القول: "إن الإنسان كائن عاقل وقادر على حرية الاختيار، وهو مخير وليس مسيراً، ولهذا يحاسبه الله على أعماله بالعقاب أو الثواب"، إذ لو كان الإنسان غير قادر على الاختيار ولا يمتلك الإرادة، وكان مجبراً على أعماله، لم يكن هناك داعٍ للثواب أو العقاب، إذ كيف يحاسب ويعاقب على عمل أجبر على فعله. ومن ثم فإن الله عادل في إثابته للفعل الحسن، وعقابه على الفعل السيئ، لأن الإنسان يستطيع الاختيار، وليس مجبراً على فعل العمل السيئ.
وهكذا نلاحظ أن تأكيد المعتزلة على حرية الإنسانية، ينطلق من دفاعهم عن العدالة الإلهية وتنزيه الله من الظلم، ومع هذا فإن تأكيدهم ودفاعهم عن حرية إرادة الإنسان واعتبارهم الإنسان كائناً عاقلاً مخيراً، له جانب إيجابي لا ينكر.
ولكن رغم هذا الجانب الإيجابي لدى المعتزلة، نلاحظ أنهم استخدموا السلطة في قمع معارضيهم، بصرف النظر عن مواقفهم الفكرية. ويظهر هذا من استعداء واصل بن عطاء، مؤسس الفكر المعتزلي، في أواخر العصر الأموي، للسلطة على بشار بن برد، مما اضطر هذا الأخير لمغادرة الكوفة، ولم يعد إليها إلَّا بعد وفاة واصل بن عطاء.
كما يتضح موقف المعتزلة الخاطئ وتأييدهم للقمع السلطوي في وقوف عمرو بن عبيد، أحد زعماء المعتزلة، مع أبي جعفر المنصور، في كثير من مواقفه التي اتسمت بالبطش ضد معارضي الدولة العباسية، ولاسيما الشيعة. كما نلاحظ احتواء المريسي وأحمد بن أبي داود للخلفاء العباسيين، أمثال المأمون والمعتصم والواثق، واستخدام السلطة لقمع معارضيهم، وعدم الاكتفاء باستخدام النظام الفكري ضدهم.
ففي أيام المعتصم، نلاحظ محاولة المعتزلة إجبار الناس تحت طائلة القمع على الإيمان بأن القرآن مخلوق. ورغم أنهم أكثر تنوراً وتقدماً في رأيهم من أحمد بن حنبل، إلا أنهم أساؤوا إلى أنفسهم باستخدام العنف السلطوي، بدلاً من مواجهة الفكرة بالفكرة والحجة بالحجة.
ويخلط عبدالله علوان بين الاتجاهات الفكرية والسياسية المختلفة عندما يصنف "النفس الزكية" كمعتزلي. والحقيقة أن النفس الزكية كان من أتباع زيد بن علي، ولا يعني تأثر زيد بن علي ببعض آراء المعتزلة أنه كان معتزلياً. ومن ثم، فالنفس الزكية لم يكن معتزلياً. وعندما كان أتباعه مطاردين طيلة العصر العباسي- باستثناء أواخر أيام المأمون- كان المعتزلة مستشارين للخلفاء العباسيين.
وفي الحقيقة أن المعتزلة لم يكونوا حركة سياسية، ولكنهم كانوا مدرسة فكرية متنورة وعقلانية في إطار عصرهم، وكانوا يستخدمون المنطق والعقل في تأكيد المعتقدات الإيمانية، ولهذا صنفوا كمدرسة فكرية في علم الكلام، ومثَّل المعتزلة مدرسة فكرية معزولة عن قضايا واهتمامات ومطالب جماهير ذلك العصر، ومن ثمة لم يستطيعوا تجذير أنفسهم جماهيرياً، لأنهم لم يكونوا حركة سياسية، مما أعطى للسلطة العباسية أيام المتوكل فرصة قمعهم أيديولوجياً كمدرسة فكرية، وقد سهل عملية تصفيتهم عزلتهم عن الناس، لأن أية حركة فكرية يمكن تصفيتها إذا تقوقعت وانطوت على نفسها كنخبة مستعلية بعيدة عن هموم المجتمع وتعايشه.
وإذا قورن بين المعتزلة والشيعة، نلاحظ أن الشيعة لم تكن مدرسة فكرية منغلقة ومتشرنقة، لكنها كانت حركة فكرية سياسية، تبنت مطالب عامة الشعب. ولهذا، رغم حملات القمع طيلة العصرين الأموي والعباسي، لم تستطع السلطات تصفية الشيعة لتجذرهم جماهيرياً، بينما حملات القمع للمعتزلة أيام المتوكل- وكانت بالدرجة الأولى قمعاً فكرياً - أدت إلى تصفية واستئصال المعتزلة كحركة فكرية، مما مهد لسيادة الفكر الأشعري في الفكر الإسلامي إلى الآن. والدليل على ذلك أنك لا تقرأ عن آراء المعتزلة- باستثناء كتاب "العدل والتوحيد" للقاضي عبدالجبار المعتزلي - إلَّا من خلال مؤلفات خصومهم كمؤلفات ابن حزم الأندلسي "الفصل في الملل والأهواء والنحل"، و"الملل والنحل" للشهرستاني، و"الفرق بين الفرق" للبغدادي، و"مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين" لأبي الحسن الأشعري، و"إلجام العوام" للغزالي... الخ.
وهكذا نلاحظ أن المعتزلة لم يكونوا حركة فكرية سياسية أكثر تقدماً من القرامطة والفرق الشيعية وحركة الزنج، كما زعم عبدالله علوان، بل كانوا مدرسة فكرية عقلانية تُتهم بالانطواء والبُعد عن هموم العامة. ولهذا اندثرت كقوى مؤثرة في التراث الإسلامي منذ حكم المتوكل العباسي.

ملحوظة أخيرة:
إن علوان في وصفه الخاطئ للقرامطة وثورة الزنج، وصف هاتين الحركتين بالفوضوية بالمعنى المعاصر. وهذا من حقه، وحسناً فعل عندما ذكر اسم كزوبتكين عند الكلام عن الفوضوية. ولكن لماذا حشر اسم مارنوف في سياق الحديث عن الفوضوية الحديثة، إذ إن مارنوف لم يكن فوضوياً من أتباع باكونين على الإطلاق، ولا يمكن تفسير هذا الخلط بين الاتجاهات والمدارس إلا بالتشويش وفقدان المقاييس، فهذا الخلط الأخير لا يستدعي في الحقيقة إلا الابتسامة.