دخوله يحتاج إلى تصريح أو أسمال بالية وشعر مشعث 

غازي المفلحي/ لا ميديا -
حياتهم ليست كحياة الآخرين، فهم يتمرغون بين النفايات يومياً لأجل أن يعيشوا. فقراء وجائعون بأعداد كبيرة تقطعت بهم سبل تحصيل الرزق إلا من مكبات القمامة، يبحثون فيها عما هو صالح للأكل أو قابل للبيع من بلاستيك ومعادن... مكب النفايات في الأزرقين، شمال غرب العاصمة، هو بالنسبة لهم بمثابة منجم له امتداداته في أكوام القمامة المرمية في الشوارع.

حياة تتوقف على «قارورة صحة»
لم نتمكن من الحصول على تصريح للدخول إلى عمق منطقة المقلب، ولعل إجراءات الدخول إلى وزارة الدفاع أسهل! وبالرغم من أننا لم ندخل عمق المقلب وتلاله وشعابه (يمتد على مساحة تزيد عن 3 كيلومترات مربعة)، إلا أنه لم يكن من الصعب أن نرى مجموعة من الأشخاص يحملون الأكياس على ظهورهم، واقفين على رؤوس تلك التلال وأسفلها كالأشباح، منكسرين ورؤوسهم إلى الأرض، رجالاً ونساءً، كباراً وصغاراً... بعضهم يغطي وجهه بـ»الشال»، ربما لتجنب الروائح المنبعثة من المقلب، أو لكي لا يتعرف عليه أحد، بينما آخرون لم يعودوا يهتمون حتى أن تلتقط لهم صوراً. جميعهم يبحثون عن «قارورة صحة» أو علبة معدن باتت حياتهم مرهونة بها أو متوقفة عليها.
في مقلب نفايات العاصمة التقينا (م. أ) الذي انتصف به العمر  ويظهر الفقر جلياً في هيئته وملامحه، يغطي بالأكياس قميصه وبنطاله استعداداً لخوض غمار عشرات الأمتار ومن النفايات بحثاً عن بضاعته من البلاستيك والمعادن التي سيبيعها ليحصل على قوت يومه، ويبدو أنه من القلة الذين مازالوا يهتمون بحماية أنفسهم من المشاكل والأمراض التي يسببها الدخول وسط تلال القمامة تلك التي تغذيها أمانة العاصمة ومحافظة صنعاء ومحافظة عمران من مخلفات المنازل والمستشفيات والمصانع والمعامل والورشات والمحلات وكل ما يرغب الناس في التخلص منه من مواد قد تكون خطيرة على الصحة... طلب (م. أ) عدم ذكر اسمه أو التقاط صورة له، كحال أغلب من وجدناهم هناك وقالوا إنهم لم يأتوا إلى المقلب للبحث عن قوت يومهم بعيداً عن أعين الناس إلا صوناً لما تبقى من كرامتهم واجتناباً للتسول أو السرقة، وما أحالهم إلى هذا المسلك سوى الحاجة وأيام الجوع الطويلة.
في البداية أراد الجميع الحديث معنا ظناً منهم أننا نسجل الأسماء لصالح منظمة ما. لكن بدت عليهم الخيبة عندما عرفوا أننا صحفيون، فانصرفوا نحو أكياسهم التي يجمعون فيها ما يناسبهم، مدركين أنها حالياً الجهة الوحيدة لمساعدتهم. أخبرناهم أننا بنقل معاناتهم نساعدهم لدى من أراد من المنظمات المحلية والدولية أو الجمعيات وفاعلي الخير، فالمقلب موجود ويعج بالمحتاجين الذين ينتظرون من يمد لهم يد العون. رد علينا بعضهم بأنه حتى مساعدات المنظمات التي يحصل عليها عدد قليل منهم ليست بالشيء الذي يعتمد عليه، فهي لا تأتي إلا بشق الأنفس وبعد إجراءات طويلة وتأتي قليلة ومنقوصة، بينما مخلفات البلاستيك والمعدن تعد مصدر دخل آمناً ومستقراً لهم، حسب قولهم، مقارنة بمساعدات المنظمات التي تأتي ببضعة كيلوجرامات من الصويا والدقيق وعلبة زيت كل عدة أشهر، والتي لو اعتمدوا عليها لماتوا قبل سنوات، حسب تعبيرهم.
تحدث إلينا (م. أ) شارحاً حاله. هو نموذج لحالات قد يكون بينها أشد بؤساً، خاصة من النساء والأطفال. قال إنه والعشرات من المساكين يأتون إلى هنا كل يوم لجمع العلب البلاستيكية والمعدنية وأي قطع حديدية أو بلاستيكية، ثم يذهبون لبيعها لأصحاب محلات الخردة، ليحصلوا مقابل الكيلوجرام الحديد على 100 ريال، والبلاستيك 70 ريالا، و200 ريال مقابل الكيلوجرام المعدن. وقال: «نجمع في اليوم ما يتراوح ثمنه بين 1000 و1500 ريال، كل واحد حسب قدرته وجهده، وهو مبلغ نتدبر به شؤون يومنا لنبقى أحياء ليوم آخر، كل يوم جديد». وأضاف أنهم يجمعون حتى الكراتين، فهم يستفيدون منها لأغراض التدفئة والطبخ، فهي وقودهم المنزلي. «المكان كل يوم يمتلئ بالأرامل والأطفال المساكين الذين يجمعون العلب على شان يعيشوا». هكذا وصف (م. أ) زوار المقلب، ويفضل أغلبهم القدوم ليلاً وفجرا، تجنباً لملاقاة الناس، وأكثرهم في العادة من الرجال والشباب، أما النساء والأطفال فيأتون صباحاً وعصراً، لأن الأطفال لا يبالون كثيراً بمن يراهم، والنساء في الغالب منتقبات ويصعب التعرف عليهن.

عالم لا تعرفه
(أ. ح) قالت متذمرة: «نحن فقراء ولا نحصل على قوت يومنا كما تحصلون عليه أنتم وكثير من الناس الذين يأتون إلى هنا أحياناً، يسألوننا ويصوروننا ويتعجبون من حالنا وطريقة عيشنا ثم يذهبون ولا نحصل على أي مساعدة منهم أو من جهاتهم. ليس لدينا مصدر دخل كريم، ونعيش في عالم غير الذي يعرفه الناس. نحن نتمرغ بين القمامة كل يوم لأجل أن نعيش، ولأجل أن يذهب أطفالنا للمدرسة». وتضيف (أ. ح): «هناك أطفال يجمعون قوارير المياه المعدنية من بعد الفجر وحتى الظهر ثم يذهبون إلى المدرسة في العصر. نحن نحاول العيش كالآخرين، ولدينا مشاعر ورغبات وكرامة وأحلام...». وأشارت إلى أنها من الموظفين في المقلب، إلا أن هذا لم يكن كافيا لتأمين عيشها مع أسرتها، لذا فهي تجمع البلاستيك والحديد من المقلب لتبيعه.
بالرغم من أن مقلب الأزرقين محاط بسور منخفض وسياج غير منيع وقد فتحت أيدي الجائعين في جدرانه الاسمنتية فتحات ومنافذ، إلا أن أغلب أولئك الجائعين يدخلونه من بوابته الرئيسية، حيث يسمح لهم حراس وموظفو المقلب بذلك، «لأنهم مساكين يبحثون عن رزق لهم هنا» كما أخبرنا أحد الموظفين في البوابة.
أكثرية مرتادي مقلب نفايات الأزرقين، الذين يعدون هذا المقلب بمثابة منجم تعدين، لا يقصدون المقلب بحثاً عن شيء للأكل، لأنه في الغالب لا يأتي إليه أي شيء صالح للأكل، ومن يبحث عما يصلح للأكل فقد يجده في أكياس القمامة الملقاة في الشوارع وأمام المنازل. أما هنا في المقلب فإنهم يبحثون عما يصلح للبيع ليشتروا بثمنه الطعام!
القمامة على أرصفة الشوارع وجهة أخرى للمساكين، ينزلون إليها ليلاً بعد أن ينام الشابعون، فيبحثون فيها عن بقايا الطعام وأي خضار أو أي شيء صالح للأكل، بالإضافة إلى البلاستيك والمعادن. ويمكن لأي شخص إن قام بجولة في الشوارع بعد منتصف الليل وحتى قبل طلوع الفجر أن يرى رجالاً ونساء من مختلف الفئات العمرية أغلبهم «ملثمون» يفتشون في أكوام القمامة حاملين أكياساً وبعضهم على دراجات هوائية ذات صناديق يضعون فيها ما يجدونه ذا قيمة.
إن ما تسببت به 5 سنوات من عدوان صهيوأمريكي سعودي على اليمن قد انعكس جوعاً وفاقة ومرضاً وبؤساً ومعاناة لدى غالبية الشعب اليمني، وزاد من اتساع رقعة الفقر والعوز، فلجأ الكثيرون إلى مكبات النفايات بعد أن وجدوا أنفسهم وحيدين في مواجهة الفقر بدون مساعدة حقيقية، لا من منظمات دولية ولا من منظمات أو جهات محلية، أو رجال أعمال... وما تزال أعداد هؤلاء في ارتفاع، وما تزال رقعة الفقر في اتساع.