وليد مانع / لا ميديا

قلنا في الحلقة السابقة إن «شريعتي» وضع أسساً ثلاثة لبناء الذات الثورية، هي: العبادة، العمل، والنضال الاجتماعي.
العبادة
يقول "شريعتي" إن الوجود الإنساني الذي فُرض علينا فيه من الميول والغرائز ما يجعلنا ننزلق إلى حضيض الأنانية والحيوانية والتوحش... وهذا "يمكن أن يصفَّى وينقى ويزكى بإشراف الإرادة الإنسانية، من خلال نظام صارم يحد من انحداره، فيصل إلى الإخلاص، وهو تفرد الوجود الإنساني في طريق الإيمان، في طريق القيم السامية...".
العبادة هي هذا النظام الصارم، كاتصال وجودي مستمر بين الإنسان وبين الله: منبع الروح والجمال والهدف وكل القيم الإنسانية... وضرورة العبادة اليوم ألحّ مما كانت بالماضي؛ "فبالأمس كانت برجوازية سوقية بدائية هي المسيطرة علينا"، وقبلها "حَكَمَ المجتمعَ إنتاجٌ تقليديٌّ زراعيٌّ دوريٌّ وساكن... أما اليوم، والرأسمالية نظام خليط من الاقتصاد والثقافة والسياسة وعلم الاجتماع والقوة العسكرية، ومثل شبكة سرطانية، لم تفسد الدنيا فحسب، بل أفسدت الإنسان، من الخارج ومن الداخل...". والعبادة فقط يمكنها أن تحمي الإنسان من إفساد حياته وذاته وإنسانيته، وتعيد ربطه بالقيم الإنسانية، وبالله، وتهبه ملاذا عظيما من هذا الانحلال والفساد.
لكن العبادة ليست مجرد أداء جاف لمجموعة من الطقوس... بل هي جهاد عظيم في تحطيم القوالب الاجتماعية الضيقة، وصقل الوجود الحقيقي، واستخراج الكنوز المحجوبة للوعي... هي حالة "وعي القلب"، وكشف الالتزام الأعمق، الحقيقي، الذي سماه الإمام علي: ميثاق الفطرة.

العمل
"إن تقديس العمل في الإسلام بلغ حدا بحيث إن رسول الله لم يقبِّل يداً إلا مرتين: يد امرأة، ويد عامل؛ وهما نموذجا الاحتقار والذلة والحرمان في كل النظم والحضارات والمدنيات". ولقد صافح رسول الله (ص) يداً خشنة وسأل صاحبها عن سبب خشونتها، فأجابه الرجل بأنه يعمل في تأبير النخل، فرفع الرسول يد الرجل كأنها اللواء، وقال: "هذه يد لن تمسها النار"، ثم أنزلها وانحنى يقبلها.
والعمل -بحسب "شريعتي"- ليس مجرد عمل ديني، أو اقتصادي، أو فكري... بل هو هذا كله في وقت واحد؛ المهم أن يكون "عملا صالحا"، نافعا للمجتمع وللفرد. وكثيرا ما اقترن العمل الصالح بالإيمان في القرآن. وفي حديث لرسول الله حين سئل: ما الإسلام؟ أجاب: هو العمل".
وللعمل أهمية قصوى في بناء الذات؛ لكن لا باعتباره "مقدمة للدراسة أو الوصول إلى منصب أو جاء... وإنما المقصود هنا العمل كرياضة في بناء الذات. العمل هو بطولة الإنسان في مواجهة الطبيعة". و"الإنسان بعمله يُغيّر المجتمع ويصنعه"، ويصنع ذاته في الوقت الذي يصنع فيه مجتمعه.
وفي العمل يتجلى الجوهر الوجودي للإنسان باعتباره وحده الكائن الذي يعمل؛ وعمله ليس غريزيا... بل تتجلى فيه عياناً الإرادة والقيم الإنسانية.
وتحرير العمل يجعل دوره ثورياً في بناء الذات، "فالإنسان سجين قوالبه الأسرية والطبقية والاجتماعية... والسجين أداة، لا علة ولا عامل... فكيف يمكن أن يتحرر من هذه السجون؟".
يجيب علي شريعتي قائلا: "هذه المسألة تأخذ أبعادا عميقة... عندما تثار قضية المسؤولية الثورية للمفكرين. فمَن هم المفكرون في الغالب؟ لا جدال بأن أكثرهم قد نشؤوا في الطبقة المتوسطة". وبالطبع فإن المفكر لا يمكن أن يكون من طبقة عبثت بها الرفاهية والارستقراطية وبلغت حد التفاهة والفساد، ولا من طبقة حرمها الفقر من التفكير والنضج الاجتماعي والأخلاقي.
هذا لا يعني الدعوة إلى القطع أو الفصل بين المفكر وبين الجماهير، بل ينبغي على المفكر "أن يجعل هدفه الأساس نجاة الجماهير، التي يفكر فيها نظريا، وهي الجماهير نفسها الموجودة فعليا".
وإذا كان العمل يحرر المفكر من "مضيق البرجوازية الدنس... ويوسع أفقه الاجتماعي"، فإن الأهم من ذلك أنه "يغير شخصيته تغييرا ثوريا عميقا، ويمنح جوهره الإنساني الصفاء والنقاء، رغم بيئة حياته ومحيطه الطبقي".
بالعمل فقط يمكن للمفكر أن يغوص في عمق معارفه وأفكاره ورؤاه. أما أن "يستيقظ في الصباح ليتناول فطورا جاهزا، ويرتدي ملابس عادت لتوها من المغسل والكواء، ويركب سيارته... وحين يعود إلى منزله ويجلس إلى مائدة جاهزة، ويتحدث مع أسرته حول ما سيأكلونه في العشاء، والمشكلة التي تؤرقهم هي مشكلة الاختيار بين أطعمة متنوعة... مثل هذا المفكر ستكون العلاقة الوحيدة بينه وبين الجماهير عن طريق الكتاب، وسيكون الاتصال الوحيد بينه وبينهم عن طريق الألفاظ... إنه حين يتحدث عن الثورة فإنه ينقل مفاهيم مفكر ثوري غربي، ويترجمها... مثل هذا المفكر ينحدر إلى أقبح وأدنى أشكال الفكر... فهؤلاء المفكرون هم الذين لم يفهموا من أيديولوجيا اليسار إلا أنها تفرض عليهم اختيار اللون الأحمر لسياراتهم الفارهة".
مثل هؤلاء المفكرين "هم الذين يؤيدون العمل الفكري والثقافي عندما يكون العمل الثوري مطروحا، وحينما يكون العمل الفكري والثقافي هو المطروح يصرخون: لا حل إلا بالكفاح المسلح".
"عبادة الذات" إذن ليست مجرد انحراف، بل هي "مرض لا شفاء منه" إلا بالعمل! "العمل يحمل الأيديولوجيا من الذهن والحافظة، ويغرسها في أعماق وجود الإنسان وفطرته، ويخلطها بطبيعته ويجعل منهما عجينة واحدة. وبهذا تتحول الأيديولوجيا إلى إيمان". واختلاف هذا المفكر العامل عن المفكر العاطل هو الاختلاف نفسه بين المؤمن والمسلم!
و"الذين يعيشون مثل عثمان، ويغازلون أبا ذر، ليسوا بقليل... ومثلهم أولئك الماركسيون أصحاب السيارات الفارهة الحمراء. وبالعمل فقط يمكننا النجاة من الوقوع في براثن "الكسل الصوفي الشديد، أو اللامبالاة الفكرية".
ثمة مرض آخر قد يصيب المفكر، هو "مرض العلمية، أو الفلسفية". ورغم كونه مرضا، فإنه يطرح باعتباره "أعلى درجات التكامل والنضج"!
لذلك فإن المفكر اليوم حينما يفكر في الجهاد ضد الرأسمالية والاستعمار، وفي خلاص الطبقات المحرومة، فإنه يعمد إلى "حمل المبادئ الإنسانية البديهية على نظريات فلسفية أو علمية مبهمة أو غير ثابتة". فمبدأ الاشتراكية، بمعناه الذي يقتضي ألا يتركز الإنتاج والاستهلاك المرتبط بمصير مجتمع أو أمة في يد فرد أو أقلية لا تفكر إلا في الكسب بأي طريقة؛ الاشتراكية بهذا المعنى هي مبدأ إنساني بديهي. غير أن من أكبر الأضرار التي لحقت بهذا المبدأ الإنساني البديهي أن نحمله على نظريات فلسفية وعلمية لفلاسفة وعلماء من هذا العصر أو ذاك، ليسوا متفقين على كل شيء.
إن مشكلات وآلام الإنسان اليوم هي نتيجة لربطه أكثر مبادئه ومُثُله قداسة... بفرضيات الفيلسوف فلان، أو العالم فلان، الذي هو ربيب مرحلته وعصره وبيئته الاجتماعية وموروثه الثقافي.
"هذه الفرضيات والنظريات إما أنها تتغير مع مرور الوقت، أو أنها تلغى، أو حتى إن كانت معاصرة فإنها قد لا تلاقي قبولا عند الأمم أو المجتمعات الأخرى، في حين أن الجميع معترف ومقر بأصالة تلك المبادئ الإنسانية البديهية اعترافا كاملا وإقرارا مخلصا". وإن وهن الفرضيات والنظريات وتغيرها يصيب المبادئ الإنسانية البديهية التي تُحمَل عليها. كما أن ذلك يتيح الفرصة لجيش الرأسمالية، مفكرين وسياسيين وإعلاميين، ليشنوا هجومهم على تلك المبادئ الإنسانية البديهية ونسفها، من خلال الهجوم على تلك النظريات ودحضها. ولقد استفادوا حتى من الدين في دفع الجماهير، المحرومة خاصة، للوقوف ضد إزالة الفوارق بين الطبقات وضد الاشتراكية، وضد كل المبادئ والقيم والمثل الإنسانية البديهية.. فقد روجوا أن "الاشتراكية تعني التخلص من القيم الأخلاقية ومن الحرية ومن عبادة الله والجانب الروحي، في حين أن هذه الأمور لا يمكن أن تتحقق إلا في مجتمع متحرر من الجشع ومن التفاوت الطبقي... وهذه المفاهيم لم تُذبح في المجتمع الرأسمالي فقط... فباسم الاشتراكية تُمتهن حرية الفكر والعلم والإيمان...".
ويسرد "شريعتي" نماذج من التاريخ الإسلامي ممن كانوا يجاهرون بآرائهم ومواقفهم وأفكارهم الإلحادية، دون أن يلحق بهم أذى؛ "فكيف يقبل المسلم اليوم أن يُسلب منه ما كان متمتعا به في ظل سلطة دينية؟ وكيف لا تستطيع الرأسمالية والاستعمار العالمي أن يطمعا في إغواء هذه الأمة العظيمة وتعبئتها واستغلالها في مقاومة الاشتراكية ومناصبتها العداء؟!".
"هذا الدرس العظيم يعلمنا أن التحول إلى الثورية يستلزم قبل كل شيء ثورة ذهنية، ثورة في الرؤية وفي نمط التفكير عندنا، ثورة تقترن بوعينا الذي هو ثمرة تجربة التاريخ الإنساني العظيم. هذا الوعي هو عبادة الله التي جرها رجال الدين إلى الابتذال، وهو الاشتراكية التي بدلها الشيوعيون إلى اقتصادية حتمية مادية عمياء، وهو الحرية التي حولتها الرأسمالية إلى نقاب للخداع والنفاق".
وهذه المبادئ الثلاثة (عبادة الله والاشتراكية والحرية) هي وحدة واحدة لا انفصام لها في أساس بناء الذات الثورية.
مرض ثالث لا بد من التحذير منه أيضا، ويتمثل في الافتتان بالجديد في الفكر وعبادته... والعمل وحده هو ما يكشف لنا جودة الجديد أو نفاقه. فبالعمل نكتشف صحة الأفكار وتهافتها.

النضال الاجتماعي
الإنسان هو كائن سياسي... والصفة السياسية للإنسان معناها أن له رؤية وميلا واهتماما يربطه بمصير مجتمعه. ومن الخطأ تعريف الإنسان بأنه كائن اجتماعي، فالكثير من الحيوانات اجتماعية. و"نزع التسييس" من الإنسان يجعله شبيها بتلك الحيوانات.
"نزع التسييس" هو أسلوب اتبعه الاستعمار والأنظمة الاستبدادية المعادية للشعوب. ولقد كانت الحساسية السياسية لدى المسلمين أبرز أسباب سقوط أنظمة حكم وسلطات استبدادية قوية. ولا تطول أعمار هذا النوع من الأنظمة إلا حينما ينصرف المجتمع عن الاهتمام بقضاياه السياسية.
و"كم من شبابنا الراقي المفكر، وباسم محاربة الخرافة... أو حتى باسم أيديولوجيا تقدمية راقية، يشغلون أنفسهم ليل نهار بالنضال في مسائل كلامية، أو نضالات فلسفية ولفظية، ويشتبكون في حروب مذهبية ومنازعات أيديولوجية، فلا يحسون أبدا أنهم على هذه الحال، بل يعتبرون أنفسهم مفكرين في غاية الرقي".. إذن فالنضال السياسي هو "مجال تجلي أسمى الاستعدادات الاجتماعية عند الإنسان؛ لكنه بالنسبة للمفكر يقدم عملا ويبني ذاتاً. ويعد النضال الاجتماعي أعظم العوامل التي تشكل الوعي الذاتي للمفكر".. وبالنضال السياسي فقط يمكن للمفكر أن يعرف طبائع الناس وميولهم ورغباتهم واحتياجاتهم ونقاط قوتهم ومكامن ضعفهم وطبيعة اللغة أو الأسلوب الذي ينبغي أن يتخذه في التعامل معهم... ويمكنه بالتالي من معرفة إمكانيات العمل ونوعية الحلول اللازمة لمشكلاتهم... كما يداويه من مرض اجتناب الناس أو التعالي عليهم... وبذلك فإنه بالنضال السياسي وحده يمنح المعنى لأيديولوجيته، وللجماعة التي تعتنقها في مجتمعها وبيئتها...
فلو أن العمال أو الفلاحين نفذوا إضرابا مثلا للمطالبة بحقوقهم أو رفع الظلم عنهم... ورأوا مفكرين أو علماء جاؤوا للتضامن معهم حتى لو لم يكونوا من طبقتهم، لظهرت أيديولوجيا هؤلاء المفكرين أو العلماء بين العمال والفلاحين، ولكانت أكثر فاعلية وتأثيرا...
ومن الناحية العلمية فإن أبا ذر كان أقرب إلى كونه أمياً بالقياس إلى سلمان الفارسي؛ غير أنه بنضاله الاجتماعي والسياسي ترك في التاريخ الإسلامي أثرا لم يستطع سلمان أن يترك مثله!
ويختم شريعتي هذا الجزء من أعماله الفكرية الرائعة بـملحوظة ملحقة يقول فيها: "لا يستطيع الصمود إلا من يعرف الصمود، ولا يعرف الصمود إلا من يعرف جيدا قدرات من يواجه". فأوروبا لم تصل إلى ما وصلت إليه في مواجهتنا إلا بعدما عرفت قدراتنا جيدا.
وإذن فإن علينا معرفة:
 • تاريخ الغرب، مع التركيز على التطور الاجتماعي وتطور الحضارة.
 • مسيرة الحركة الفكرية في الغرب، مع التركيز على عصر النهضة وما بعده.