في مواجهة القحط الوهابي
النبي والأنصار سيرة يمانية خضراء
حلمي الكمالي/ لا ميديا

منذ مئات السنين يحتفل اليمنيون في كل عام بمولد الرسول الأعظم وخاتم الأنبياء محمد (ص)، كحدث استثنائي في حياتهم، لما له من تأثير كبير في وجدانهم الروحي والديني من تجديد للقيم الدينية والأخلاقية والثورية التي جاء بها رسول الله.. وتختلف مراسم الاحتفالات الشعبية بالمولد النبوي في البلد من محافظة إلى أخرى، إذ تبدأ من مطلع شهر ربيع الأول إلى نهايته، وذلك بإقامة مجالس تنشد فيها قصائد مدح الرسول، وتقرأ الدروس من سيرته وشمائله، ويقدم فيها الطعام والحلوى.. وبالرغم من تراجع الاحتفالات بالمولد النبوي الشريف في العقود الأخيرة، مع انتشار الوهابية في البلد، إلا أنه ظل أحد أهم الطقوس الدينية التي صنعت إرثاً ثقافياً وفنياً وتاريخياً في البلاد.. وفي هذا التقرير نستعرض الطقوس التي كان يقيمها اليمنيون في احتفالاتهم بالمولد النبوي في مختلف أنحاء البلاد.

طقوس مختلفة
عرفت معظم القرى في مختلف المحافظات اليمنية طقوساً وعادات احتفائية بالمولد النبوي من قبل المتصوفين، حيث كانوا يعملون على إحياء المولد من خلال جلسات القات التي يقومون فيها بالإنشاد وترديد أبيات شعرية بألحان مختلفة بحسب عادات المنطقة أو المدينة. 
قاسم سعيد ناجي (68 عاما) من أبناء مديرية شرعب السلام يؤكد في حديثه مع (لا) أن أهالي المديرية كانوا ينتظرون بشغف مناسبة مولد الرسول الأعظم كل عام للاحتفاء به، وذلك بإلقاء القصائد التي تنشد على وقع الطار (الدف)، وتزيين المساجد وزيارة أضرحة الأولياء، ثم بعد ذلك يقام سمر لقراءة القرآن والأحاديث ليلة الـ12 من ربيع الأول في أحد بيوت مشائخ العلم بالمديرية.

كرنفالات احتفالية
وكان مشائخ الصوفية في محافظة تعز خلال الفترة من مطلع العشرينيات إلى نهاية الثمانينيات، يقيمون كل عام احتفالاً كبيراً بالمولد النبوي في منطقة يفرس في مديرية جبل حبشي، حيث كانوا يتوافدون من مختلف القرى إلى المنطقة ويقيمون فيها وليمة كبيرة يوزعونها على الفقراء والمساكين. ويتم خلال الفعالية التي تستمر أسبوعاً كاملا قبل وبعد مولد الرسول بقراءة قصائد عبدالهادي السودي وأحمد بن علوان اللذين يُعدان من أبرز أعلام الصوفية في المحافظة.
كما كان يقام احتفال مشابه في مدينة تريم بمحافظة حضرموت، حيث كان الاحتفال بالمولد النبوي له نكهة خاصة وروحانية، وحضور واسع أشبه بكرنفال احتفالي لا يزال عالقاً في أذهان الكثير قبل أن تنحدر هذه الاحتفالات شيئاً فشيئاً بسبب المد الوهابي الذي غزا معظم المنابر والمراكز الدينية في البلاد وشوه جوهر وروحانية الشعائر الدينية.

سيرة عطرة في جميع المنازل
ويحكي محمد السقاف (من مدينة تريم) عن الطقوس المتعارف عليها في المولد النبوي الشريف بمدينة تريم قائلا: (تبدأ الاحتفالات في ليلة الثاني عشر من ربيع الأول من داخل مسجد باعلوي وتستمر حتى صباح اليوم الثاني، لتنتقل بعدها مراسيم الاحتفال إلى جامع الإمام المحضار حيث يجتمع مشائخ وطلبة علم من مختلف المناطق لتلاوة القرآن. وفي نفس اليوم بعد صلاة الظهر يتم قراءة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع منازل المدينة).

زفاف حارات تريم
ويشير السقاف في حديثه مع (لا) إلى أن الاحتفالات تظل على هذا النسق حتى الأسبوع الأخير من شهر ربيع الأول، حيث يتم قراءة الموالد والأناشيد الصوفية في مسجد الفتح بالحاوي في وقت الفجر، ومسجد الحبيب عبد الله بن شيخ العيدروس بحارة السحيل في وقت العصر. وفي آخر جمعة من الشهر ينتقل المحتفلون إلى مسجد الإمام السقاف، ومن ثم ينتقلون إلى مدرسة أبي مريم لتحفيظ القرآن الكريم، وقبة الإمام العيدروس بالتربة آخر يوم أثنين، وبعد ظهر نفس اليوم في مصلى أهل الكساء بدار المصطفى، ونفس اليوم بعد صلاة العشاء يتم إقامة الزف السنوي بالساحة الشرقية بدار المصطفى، حيث يشارك شباب من كل حارات تريم بزف معين تعبيراً عن فرحتهم بالمولد النبوي الشريف.

احتفال بماء الورد
أما في مدينة صنعاء القديمة فإن الاحتفال بالمولد النبوي زاهٍ مع الورد ورائحة العطر والبخور. الحاج عبدالله السري (78 عاماً) يصف لنا طقوس وعادات إحياء المولد النبوي في صنعاء القديمة في فترة الستينيات والسبعينيات بالقول إن (عاداتنا في يوم مولد الحبيب المصطفى تبدأ من بعد صلاة المغرب ليلة المولد، حيث يجتمع الجيران وأهل الحارة في الجامع الموجود فيها، حيث يقوم خطيب الجامع بالصلاة على الرسول وعلى آله وأصحابه وسرد سيرة الرسول، مولده ونشأته وحياته وأخلاقه وصفاته، فيما المجتمعون في الجامع يصلون على النبي، كما أن النساء يجتمعن في جامع النساء ويقمن بعمل مولد نبوي).
ويضيف السري أنه بعد الانتهاء من قراءة سيرة الرسول يقوم أحد المنشدين بالإنشاد فيما يقوم أحد الأطفال برش ماء الورد على الحاضرين وهم يرددون الصلوات ويتم تبخير الجامع بالعودة ويستمر الاحتفال من ساعتين إلى ثلاث ساعات.

نضال شعبي في صعدة لإحياء المولد
تعتبر صعدة من أبرز المحافظات اليمنية إحياءً لذكرى مولد الرسول عبر القرون السابقة ولعل هذا أحد أهم الأسباب التي جعلت الوهابية السعودية تسعى لغزو أبنائها أكثر من مرة. وكانت تقام مراسيم الاحتفال بالمولد النبوي في صعدة طيلة أيام شهر ربيع الأول، حيث كان يقوم مشائخ وأعلام المحافظة بتجهيز ولائم عشاء كبيرة في مركز المدينة.
ويعد جامع الإمام الهادي أحد أبرز الأماكن التي يقام فيها الاحتفال، حيث يتم قراءة سيرة الرسول كل ليلة من ليالي شهر ربيع الأول، ويلقي الكثير من الشعراء قصائد في مدح الرسول.

الصوم وتزيين الأطفال
في محافظة الحديدة بشكل عام وزبيد خصوصاً كان الاحتفال بالمولد النبوي حدثاً عظيماً يحييه الرجال والنساء والأطفال معا.
أحمد راجح الحداد من أبناء محافظة الحديدة يؤكد في حديثه مع (لا) أن طقوس الاحتفال بالمولد النبوي في المحافظة حاضرة في كل عام، وتتمثل بصيام يوم المولد وقراءة القرآن وقت العصر، بعد ذلك يجتمع الأقارب لتناول الفطور معاً، وفي الليل يجتمع الرجال في مجالس القات لقراءة سيرة الرسول والصلاة عليه، وتجتمع النساء في مجالس مماثلة. 
ويشير الحداد إلى أن مظاهر الاحتفال تتضمن ارتداء الأطفال ثياباً جديدة كما يتم توزيع الطعام على الفقراء.

جزء من الموروث الشعبي
بجانب هذه التنوع الرائع في إقامة الاحتفال فإن إحياء المولد النبوي في اليمن أصبح جزءاً من الموروث الشعبي عبر الأجيال، لما له من تأثير كبير في وجدانهم الديني والشعري والفني، إذ أنتجت هذه المناسبة إرثاً ثقافياً وفنياً كبيراً تمثل في العديد من القصائد والموالد والأناشيد والألحان الصوفية.

زبيد معلم بارز للمولد النبوي
وتعد مدينة زبيد في محافظة الحديدة معلماً كبيراً لإحياء مناسبة المولد النبوي الشريف على مدى عقود طويلة. وتتميز هذه المناسبة في زبيد بإنتاجها أهم وأشهر الموالد والأناشيد والقصائد في مدح الرسول والتي أصبحت تراثاً شعبياً متعارفاً عليه في جميع أنحاء البلاد.

محاربة الوهابية للمولد
الاحتفاء بالمولد النبوي الشريف يمثل إرثاً ثقافياً ودينياً لدى اليمنيين منذ قرون، حتى بدأت الوهابية بغزو اليمن في مطلع ستينيات القرن الماضي، حيث يؤكد باحثون أن انتشار الوهابية في اليمن عقب قيام الجمهورية في مطلع الستينيات تسبب في انحسار كبير لفعاليات الاحتفاء بالمولد النبوي، خصوصا على المستوى الرسمي واقتصر على الاحتفالات الشعبية التي يقيمها اليمنيون في القرى والأرياف. فالوهابية من أشد الرافضين لإحياء مناسبة المولد النبوي، وتصفها بالبدعة، لذلك فقد دأبت الوهابية السلفية طيلة الفترة الماضية على الإساءة والتكفير لكل من يحيي ذكرى المولد النبوي، وذلك عبر خطب تكفيرية من على منابر المساجد والمدارس وتوزيع منشورات تسيء إلى الصوفية كما حدث في الثلاثة العقود الأخيرة.

جميع المذاهب تحتفل
محاربة الوهابية للاحتفاء بالمولد النبوي ليس خلافاً مذهبياً بل إن الكثيرين يؤكدون أن معارضة إحياء ذكرى المولد النبوي بالذات لا يعد خلافا مذهبياً، باعتبار الرسول هو المرجعية الأولى والأساسية لجميع المذاهب في حين من الممكن الأخذ نسبيا بمعارضة شعائر إسلامية أخرى.
ويؤكد الباحث والمفكر الإسلامي محمد طاهر أنعم في حديثه مع (لا) أن جميع المذاهب الإسلامية تحتفل بالمولد النبوي منذ أكثر من ألف عام، ولا يعارض إلا فئة قليلة لا تحسب على المذاهب وإنما مواقف فردية.

خارج اهتمام السلطات
ويمكن القول بأن انتشار الوهابية في الفترة السابقة مكنها من غزو مركز القرار في البلد حيث لم تتبن السلطات اليمنية السابقة التي جاءت بعد قيام الجمهورية إقامة المولد النبوي، واكتفت بإعلان يوم المولد عطلة رسمية لفترة قصيرة جدا، إلا أن هذا الأمر لم يدم طويلا، حيث ألغت عطلة يوم المولد واستبدلتها بأول السنة الهجرية وذلك في مطلع التسعينيات.

حرج للسلطات
وبغض النظر عن ذلك ظل الاحتفال بالمولد النبوي يحظى بتفاعل شعبي كبير طيلة العقود الماضية، حيث كان اليمنيون يحيون يوم المولد في مختلف القرى والمدن، ولعل هذا بحسب مراقبين سبب حرجاً للسلطات التي كانت تبث عبر قناتها الرسمية مراسيم الاحتفال بالمولد من الجامع الكبير في صنعاء كل عام خلال السنوات الأخيرة.

تجديد العهد والولاء 
إن إحياء المولد النبوي يعد بمثابة تجديد العهد والولاء لسيدنا محمد رسول الله والتمسك بما جاء به. وفي ظل هذا التشويه المتعمد للدين الإسلامي من قبل قوى الرجعية والاستعمار والغزو الفكري الموجه من هذه القوى للقضاء على الشعائر الدينية فإن الظرف بحسب مفكرين دينيين وسياسيين يستدعي من المسلمين إحياء مولد الرسول الأعظم لما له من تأثير في وجدانهم وتعزيز للقيم الأخلاقية والثورية التي جاء بها رسول الله في مواجهة أعداء الأمة.