ربما لم يكن يدري أن جبهة بحجم نجران تنتظره، وأن إدارة جولات المواجهة فيها قد أوكلت إليه، الرجل لم يكن شخصاً عادياً، وسيرته زاخرة بالسبق في أمور عدة، وعلى مستوى مسيرة أنصار الله، هو في الحرب رجل الاستطلاع، وهو مهندس العمليات، وحرصه ليس فقط على التخطيط، بل مباشرته للتنفيذ بعد التجهيز والمتابعة، بمعنى أشمل هو في الجبهة (القائد)، وبما تحمله الكلمة من معنى، وهو إلى ذلك المرشد للأفراد القريب منهم، لدرجة أن يعتقد كل فرد فيهم أنه صديقه الأقرب، وهو المدد للمحاربين، وعطاؤه وافر وجزيل ومتنوع، وفي سيرته ما يؤكد أن تعدد المهام بالنسبة له لا يؤثر في برامج عمله الجهادي حتى وهو في المربع الأكثر صعوبة، في هذا السياق أخبرني واحد ممن عرفوه عن قرب أنك تجد الشهيد أحمد محمد العزي أكثر جدارة في ما قد تعتقده صعباً للغاية..
حلم الجهاد في العراق! 
ولد القائد الشهيد أحمد محمد العزي في محافظة صعدة، مطلع العام 1980م، وفي مديرية الصفراء عاش مرحلة الطفولة والدراسة، وبعد مرحلة الثانوية درس العلوم الشرعية، وعرف عنه حرصه على اكتساب المعرفة ونشاطه الدائم في هذا المسار، وحين غزت الولايات المتحدة جمهورية العراق حاول مغادرة اليمن إلى دولة العراق بغرض الانخراط في صفوف حركات وكتائب الجهاد هناك، إلا أن عراقيل كثيرة حالت دون ذلك، كما أكدت ذلك والدة الشهيد القيادي أحمد العزي الذي يعد من الرعيل الأول للمسيرة القرآنية، فقد عرف عنه التمسك بمبدأ الذود عن الدين والأمة والجهاد لتغيير الواقع الرديء، وقد تعرض للسجن من قبل نظام علي صالح بعد أن التحق بركب المسيرة، وله حضور كبير في أهم المراحل الزمنية التي مرت بها المسيرة القرآنية، واشتهر ببساطته وتواضعه والإحسان إلى الآخرين بشكل كبير، بحسب المعلومات ممن عرفوه عن قرب ولسنوات. 
تميز الشهيد العزي بمؤهلات متكاملة تولى معها مهمة منتقاة بدقة (قيادة جبهة نجران)، مع بداية الترتيبات لعمليات الرد والردع في الحد الشمالي، والحديث لسفر الصوفي مدير مكتب قائد الثورة لقناة المسيرة، والذي يوضح أن (إدارة المواجهات والعمليات العسكرية في جبهة نجران مهمة كبيرة وهامة، باعتبار أن الجبهة تحتاج إلى إعداد وتجهيز يتلاءم وطبيعتها الجغرافية، ويراعي المعادلات العسكرية على المستوى الميداني، ولا يغفل نقاط التفوق العسكري للعدو). الصوفي هنا يؤكد أن اختيار أحمد العزي كان خطوة مهمة نحو صناعة الإنجازات وتحقيق أهداف المهمة باقتدار ونجاح.. 

نقل الحرائق إلى ما وراء 
الحد الشمالي
بانشداد غير عادي لمتطلبات العمل الجهادي تولى القيادي في أنصار الله أحمد محمد حمود العزي مهمته الجديدة بعد مهام كثيرة كان من بينها قيادة جبهة القطعة في حروب نظام صالح ومحسن على مدينة السلام، كما كان له حضور عسكري لافت عام 2013م في تحرير مديرية كتاف إلى الشرق من محافظة صعدة، من العصابات التكفيرية، واستعادة ما كان يعتبر من أهم معسكرات القاعدة وداعش ليس في اليمن وحسب، بل في المنطقة..
وما من شك أن هذا القائد العسكري الفذ قد بنى خططه ومساراتها وفق ما اكتسبه من معرفة خلال مشاركته في المعارك التي خاضها أنصار الله ضد معسكرات القاعدة الممتدة إلى مناطق متاخمة لما يعتبر خطاً حدودياً مع العربية السعودية. يقول مدير مكتب السيد عبد الملك الحوثي: (انطلق القيادي العزي مع مجموعة من رفاق الجهاد لترتيب جبهة نجران، بعد أن أعدوا للحرب ما يلزمها، واستقدموا لها المجاميع العسكرية من كل مكان، واهتم السيد أحمد العزي بتنظيمهم وتوزيع المهام وفق الاختصاصات والمهارات وصولاً إلى الإعداد لتنفيذ الهجمات على المواقع التي يتمركز فيها حرس الحدود السعودي، وقد باشر ذلك بعد أن تلقى التعليمات والتوجيهات من السيد القائد).
أنجز القيادي أحمد العزي ورجاله المرحلة الأولى من المهمة بنجاح هائل، فقد انهارت كل الخطوط الدفاعية الأولى للجيش السعودي في أول جولة من المواجهة، ليقود بعد ذلك هجمات إسقاط مواقع العدو في مساحة جبلية مترامية الأطراف بداية من الشرفة مروراً بالشبكة وغيرها من المناطق العسكرية ذات الطبيعة القاسية التي لانت تحت عزيمة العزي ورجاله الشرفاء رجال اليمن من أبناء المؤسسة العسكرية واللجان الشعبية.
لهذا القائد سيرة واسعة ورحبة، وله من الصفات ما تدهشك وتبث في روحك ما يجعلك على حال كنت قبل أن تمر به أو تلتقيه تعيش النقيض منه تماماً، يقول سفر الصوفي في هذا السياق: (والأحداث في أشُدها كان الشهيد العزي يضحك، حتى عندما تسأله عن الأحداث وعما يجري من مواجهة وظروفها، يكلمك بكل راحة وبمعنويات عالية، يتكلم بحالة اطمئنان كبير جداً)، ثم يقفل الصوفي الكلام هنا بجملة توضح كيف أن الموصوف من قبل كثيرين، ومنهم الإعلامي الزميل يحيى الشامي، بـ(ذليل المؤمنين)، إنما هو سلاح مصوب ومسدد، يقول الصوفي: (مع كل ذلك لقد ذاق منه العدو والخصم سوء العذاب).
الصوفي في حديثه لقناة المسيرة في الفيلم الوثائقي الذي تناول حياة الشهيد العزي، يلفت إلى ما يعتبر ميزة جوهرية للقيادي العزي، وهي الاهتمام الكبير بالارتقاء بالمستوى الإيماني والعسكري لدى المقاتلين: (استطاع العزي أن يؤهل العديد من المجاهدين، فأكسبهم مهارات احترافية، وأولاهم العديد من الأعمال العسكرية، لدرجة أنه أصبح في هذه الجبهة قيادات عسكرية مسؤولة وفاعلة حتى الآن وبعد استشهاده، واهتم بهم في الجانب الإيماني). قد تمر هذه النقطة على البعض مرور الكرام، قد يحسبها مهمة سهلة! فيما هي في الحقيقة من المعضلات، فما أقل الفرسان في مختلف الميادين، ولربما من هذه الزاوية جاء تكرار الإشارة إلى هذه الميزة الجوهرية للشهيد أحمد العزي في حديث سفر الصوفي، يقول: (لقد خرج قادة مجاهدين لا زالوا يواصلون دربه ويواصلون نشاطه)، ويضيف: (هناك قادة كثر في جبهة نجران لديهم من الخبرة والاهتمام والحرص والروح المعنوية القوية والإقدام والشجاعة ما تحكي عنهم شاشات التلفزة، وما ترونه من المواقف التي يسطرونها في كل عملية)، ثم يختار مدير مكتب السيد عبد الملك الحوثي أن ينهي حديثه للمسيرة بنصيحة تعكس المكانة التي كان يحظى بها الشهيد أحمد العزي في المسيرة، يقول الصوفي: (هذه هي النماذج العظيمة التي ينبغي أن ننظر إليها وأن نقتدي بها). 

نجران على حافة السقوط! 
خلال زيارتي لجبهة نجران شاهدت ترتيبات هائلة تحكم مسارات الجبهة، ونظرة استراتيجية تتحكم بكل خطوات المقاتلين هنا، وهي كما أخبرني البعض جانب من الإرث الذي تركه الشهيد العزي للمجاهدين.
في هذا السياق يقول العميد ركن عابد الثور (خبير عسكري): (إن المعارك في ما وراء الحد الشمالي ضرب من الأساطير، فكل شيء انهار هناك. التجهيزات الفنية والهندسية للعدو والغطاء الجوي انعدمت فاعليته أيضاً).
ويضيف: (لقد شكل ذلك صدمة للعدو، ووقف عند نتائج المواجهات الكثير من الخبراء العسكريين بتعجب وذهول، وقال بعضهم: لم نكن نتوقع أن المقاتلين اليمنيين لديهم القدرة الكبيرة للتعامل مع طبيعة الأرض والسيطرة عليها وتحقيق مكاسب لم تعرف في القانون العسكري والتقاليد العسكرية التي تعلمناها ودرسناها).
الخبير العسكري عابد الثور يرى أن شخصية القائد أحمد العزي لعبت دوراً كبيراً في رفع مستوى معنويات الأفراد، ووعيهم بطبيعة المواجهات في جبهة نجران: (حين يستطيع القائد كسب ثقة الأفراد والجنود معه، وإكسابهم كل ما لديه من خبرة، تتجلى هنا حنكة وحكمة القائد، ذلك أنه إذا وثق الجنود والمقاتلون بقائدهم استطاعوا جميعاً أن يحققوا مكاسب كثيرة)، ويستطرد عابد الثور: (إدارة المعركة في نجران تتجاوز كل ما هو مثبت ومتفق عليه في الأكاديميات العسكرية وفي الخرائط والنظريات العسكرية، وعلى المستويات المختلفة، التكتيكي والعملياتي والاستراتيجي، شاهدنا بعد معارك ما وراء الحدود معادلات عسكرية أبهرتنا كعسكريين). لنعد إلى الوراء قليلاً لنراجع مجريات المواجهات في نجران! سنجد أن استراتيجية القائد العزي في إدارة المعارك ركزت على مهاجمة مواقع الجيش السعودي في هضبة الشرفة وفي السلسلتين الجبليتين عن يمينها (الشبكة) وشمالها (رجلاء ونهوقة) في آن واحد، وبخطى قادت المقاتلين إلى مناطق متقدمة في نجران، ثم هو بعد ذلك ينشغل باستنزاف العدو هنا، وقد كانت تكتيكات التنكيل منظمة، وهجماته متوالية، مع حرص على توسيع رقعة السيطرة ومن الجهات المطلة على نجران المدينة جنوباً وغرباً وما بينهما! لدرجة لا تعرف معها ما الذي كان يريده العزي القائد العسكري الفذ؟ هل أراد أن تكون لحظة إسقاط المدينة واحدة؟ أو أنه سعى إلى تعويض ما لم يتسنَّ له في موقع هنا أو هناك؟
الواضح أن هذه الاستراتيجية التي ثبتها العزي أربكت العدو بشكل منظم وغير مسبوق، وأتاحت أمام جنود ورجال العزي البواسل تعدد خيارات الضغط والرد من هذه المواقع الرديفة والموازية لتلك الأخرى التي يحاول الجيش السعودي ومقاتلات الـ(إف16) والأباتشي أن يسجلوا حضوراً لحظياً على تخومها عبر سلسلة زحوفات.. يقول العقيد خالد الثور: (عندما ترى النتائج التي تحققت في جبهة نجران والمكاسب التي تحققت على يد هذا القائد البطل، تستطيع القول إن هذا القائد نخبوي). 
والشهيد أحمد العزي كغيره من قيادات أنصار الله في الجانب العسكري، أمضى سنوات من العمل اليومي بين التخطيط والتنقل من جبهة إلى أخرى، يقول رفيقه العقيد خالد العقيدة: (كان نموذجاً للقائد الناجح، شارك في الحرب الثانية، حيث ثبت في موقعه حتى قيل إنه آخر من انسحب من الجبهة)، ويواصل العقيد العقيدة: (بعد أن تم إطلاق سراحه من السجن قبل الحرب الرابعة على صعدة، اختار أن يلتحق بقسم المدفعية، وقد كان له دور بارز ومؤثر في الحرب الرابعة، خاصةً في جبهة آل مزروع، ثم في الحرب الخامسة أشرف على جبهة (القطعة)، وأسقط مخططات التكفيريين هناك، وأبلى بلاءً حسناً).
وفي ما يخص مواجهة العدوان يشير حديث العقيد خالد العقيدة إلى نجاح الشهيد العزي في (تحويل الجبهة من حالة الدفاع إلى الهجوم، وهو ما أقلق العدو، وأربك جهده العسكري).
كثيرة هي العمليات التي نفذها المجاهدون في جبهة نجران، يقول أحد أفراده: (سيدي أحمد كان يدير المعركة من القلب)، ويكمل آخر: (ويشارك في الاستطلاع، وينهي ذلك بعرض للوضع العسكري وطبيعة المواقع التي ستهاجم وثغرات التهديد التي قد يستفيد العدو من عدم التركيز عليها، مع تجديده التأكيد على ضرورة ضبط الحركة والحذر من الاستهداف الآتي من الجو).
من جانبه، رفيق الشهيد عياش ناصر عياش استفاض في حديثه للمسيرة، لكننا هنا نختار ما ذكره حول حرص الشهيد العزي على إشراك كل من سينخرط في تنفيذ الهجمات العسكرية في التخطيط: (كنت أناقشه كمقرب منه في بعض التفاصيل بما يظهر الحذر، فيتفهم سيدي أحمد، ويذكرني أن الله كلفنا بإعداد ما استطعنا، ووعد بالنصر). ويتابع عياش (فكنا نمضي لمباشرة الهجمات على المواقع السعودية ونحن مدججون بثقة عالية بمعية الله، لدرجة أن كل مجاهد يترقب صيحة: شردوا.. شردوا). عياش هنا يشير إلى لحظات هروب الجيش السعودي في بداية المواجهات، ويقول: (من المبادئ التي غرسها السيد أحمد العزي في نفوس المجاهدين جميعاً، ألا نقاتل مسعفاً أو جريحاً، وكذلك الأسرى ألا نصيبهم بأذى).. 
ويستذكر عياش موقفاً حصل معه خلال عملية هجومية على موقع لجيش العدو: (سبق واتفقنا أن الشهيد أحمد العزي يدير العملية دون أن يكون مشاركاً فيها، بدأنا تنفيذ العملية، وكنا مجموعات مختلفة توالت ضرباتنا من كل جانب، حتى اضطر العدو معها للانسحاب والتراجع تدريجياً، حينها سعيت لتغيير مكاني إلى جهة أخرى، ووجدت مع الانتقال أني قريب من دبابة، فتواصلت بقسم الإسناد ليتم التعامل معها، فكان أن انسحب العدو بها). 
يواصل عياش حديثه ليصل إلى عنصر المفاجأة أو ما يعتبر كذلك في هذه الحادثة، يقول: (بعد العملية لقيت سيدي أحمد، وسألني عن الفرد الذي دخل بالـ(بي10) إلى قرب الدبابة، فأخبرته أنه أنا، وسألته من أخبره بالأمر، وعندها عرفت أنه كان يدير العملية، وهو ضمن المجموعة الثانية التي تشارك في مهاجمة موقع الجيش السعودي)..
إن كل شيء في سيرة هذا البطل يشدك للاستمرار في نبش سيرته، ومن ذلك أمر كان يجب أن نستهل التقرير به، وهو نجاح الشهيد العزي في تثبيت هضبة الشرفة وما يحيطها من سلاسل جبلية مطلة على نجران مسرحاً للعمليات والمواجهات، لدرجة أن الجيش السعودي لم يستطع توسيع دائرة المواجهات إلى صحراء البقع إلا بعد أكثر من عام على المواجهات في المحور الجبلي الساخن، ولكن بعد ماذا؟ بعد أن سبق العزي إلى فرض معادلة جديدة، وبعد أن أطل على مدينة نجران، وباتت على حافة السقوط تحت سيطرة الجيش واللجان الشعبية.