لكل حركة رمز، ولكل رفّة جفن دلالة خاصة.. ليس فقط في عالم الجدات، بل حتى الشباب واليافعون تعودوا على تلك الدلالات، وصارت معتقدات يومية ملازمة لحياتهم.. وصار توارثها جيلاً بعد جيل حتى تأصلت في الموروث الشعبي، ومن تلك المعتقدات في بعض المناطق أن المرأة الراغبة في الحصول على طفل عن طريق الحمل تذهب إلى أحد قبور الأولياء أو لمقابلة أحد الزهاد الذي يعطيها، مقابل مبلغ تدفعه، حجاباً تحمله في أحد أجزاء جسدها الخفية، وقد تذهب إلى المقابر القديمة فتبوح لبعض الموتى برغبتها، وتطلب منهم معاونتها على تحقيقها..  كما ساد ولازال هناك اعتقاد لدى بعض اليمنيين، بأن تراب قبر ولي ما كفيل، بسبب كرامته، بطرد الحشرات السامة من منازلهم كالحيات والثعابين، وأن دواء الحمى مرهون بأوراق شجرة (مبروكة)، وأنه يمكن للجان تقمص الإنسان والتحكم به في صور وأشكال مختلفة، وأن بعض الحيوانات والحشرات ما هي إلا شياطين تشكلن بأشكالها.. وهنا تعرض صحيفة (لا) بعضاً من تلك المعتقدات التي صارت لصيقة بالحياة اليومية..
أصل المعتقد
يرى المهتمون بتدوين التاريخ أن (المعتقد) يعود إلى الخرافة، كون معظم المعتقدات أقرب إلى الخرافة، ويُعرّفُ المختصون الخرافة بأنها: كل ما ارتبط بعالم الخيال، وصار جزءًا من المعتقد البشري لأمةٍ ما، أو شعبٍ ما، أو فئة معينة من الناس.. والحقيقة أنه ليس من حضارة على وجه الأرض تخلو من الخرافة، كونها كانت سبيل البشرية الأول في استكشاف الحقيقة، وسبر أغوار الكون، وفك طلاسم المحيط البيئي، الأمر الذي نسج في ظله العقل الإنساني تصوره للرب بأنه الشمس، أو القمر، أو البحر، أو الجاموس.. الخ، ثم صار ينظم علاقاته النُّسكية بطقوس توحيها مخيلته الواسعة، حتى شاء الله أن يهديه إلى الحقيقة المختلفة.
اليمنيون لم يكونوا استثناءً بين البشرية، فتراثهم القديم غني بالخرافات الغريبة، التي تحكي علاقتهم مع الإله القمر (المُقَه)، ومعابده فوق (هرّان)، ومعجزات السحرة، والمنجمين، والكهنة، ثم لينتهي ذلك كله بالإسلام، حتى إذا مرت القرون وانتكست الأمة في حقب من الجهل، والظلم، وجدت الخرافات طريقها- بأشكالٍ مختلفة- إلى رؤوس الناس، ومفردات حياتهم اليومية.

رفّة العين
تمتلك الخرافة جذوراً ضاربة بعمق الحياة اليومية، حتى تعوَّد الناس عليها، وصارت معتقداً شعبياً يؤمنون به حد القداسة، وعدم المساس بمخالفته، تسرد الجدّة فاطمة عبدالملك (76 عاماً)، العديد من المعتقدات التي صارت لصيقة بالحياة والتعاملات اليومية، والتي من خلال حديثها أطلقت العنان لسردها عبر صحيفة (لا)، وذكرت بعضاً منها، وكونها إحدى المحتكات ببيئة محافظة (حجة) التي قد لا تختلف عن بقية المحافظات سوى بالتسميات، تقول الجدة فاطمة: لرفة العين عدّة دلالات، فالعين اليمنى تدل على الخير، أما إذا رفّت اليسرى فهي تدل على الشر، ولذلك يكون الشخص متخوفاً حتى تغرب شمس ذلك اليوم، وعندما تسكبُ ربة البيت الماء الساخن من حوض المطبخ، لا بد أن تسمي الله، أو الجن (عيأذوها) حسب كلام الجدة فاطمة، وتضيف حتى إن حفلات الزواج تتوقف في شهر (صفر)، وذلك اعتقاداً من الناس أن الزيجات بهذا الشهر مشؤومة، وقد تكون فاشلة.

ممنوع (كنس) البيت بعد المسافر..!
ومن غرائب تلك المعتقدات - تضيف الجدة فاطمة - أن أهل البيت لا يقومون بكنسه بعد المسافر إلا بعد أن يصل لوجهته، أو يقومون بالتنظيف قبل سفره، اعتقاداً منهم أنه قد لا يعودُ إليهم.
أما إذا أصيبت المرأة بشدٍّ عضلي في رقبتها، فإنها تأخذ قطعة من ملابسها الداخلية، وتضعها تحت رقبتها وتنام، وتصحو وهي بخير، حسب ما روت الجدّة فاطمة. 
 
حبة (جد المجدي)
ولكل محافظةٍ مسمى لما تعتقده، وإن كانت نفس العقيدة تشترك فيها معظم المحافظات مع اختلاف المسميات.. محمد (موظف) يقول: من المعتقدات في مديرية شرعب بمحافظة تعز، أن حبةً تظهر في العين تسمى حبة (جد المجدي)، وطريقة مداواتها أن يقوم الأطفال بجمع حبوب القمح من الجيران، ثم تخبز وتوزع للناس، فيدعون له بالشفاء، ويقولون: جد المجدي، لا عاد يبدي، أي (لا تظهر). بينما نفس الحبة إذا ظهرت بالعين تسمى في محافظة حجة (النُّفّادي)، وطريقة المعتقد لديهم في مداواتها: أن يستيقظ المصاب من النوم، وأول شخص تقع عينه عليه يقول له: (نُفّادي نفدك.. جني عفدك)، أي يقلب بك. المهم أن يكون ذلك الشخص من خارج العائلة ليحصل الشفاء، حسب اعتقادهم.
 
العلاج.. بالكي
جرى الاعتقاد أن العلاج بالكي لن يكون ذا مفعول أبداً إذا تم العمل به يوم الجمعة، ويعللون ذلك بمواقع النجوم، ويضرب المثل على الأمر عديم الفائدة.
وفي مثل شعبي آخر يتحدث اليمنيون في موروثهم الثقافي الشعبي عن خرافة تقول إن الأفعى كانت لديها أرجل كثيرة ولم يكن في رأسها عيون، فرأت حشرة (الحُلبُباني) التي تسمى عند البعض (أم أربع وأربعين)، فأقنعتها أن تعطيها الأرجل مقابل العيون، وهكذا أصبحت الأفعى بعيون دون أرجل، وأصبح الحُلبُباني بأرجل دون عيون، فانطلق المثل الشعبي يقول: لا عيد الحُلبُباني ذي عمي وما نَقَشْ.

ارتباط المعتقدات بالموروث الشعبي
امتزجت المعتقدات بحياة الشعوب، وسلوكياتها، كجزء من واقع لا ينبغي لأحد الشذوذ عنه، إلا أن توغل البشرية في العلوم المعرفية، وبلوغها عالم الحقيقة بنظريات استدلالية، وشواهد حية، ومناطيق واضحة ودافعة، أخذت بتشذيب السلوك البشري، ودحر معتقداته الخرافية التي كانت تمثل فلسفته العملية في الحياة.
ونورد هنا بعض ما كان شائعاً في موروث اليمن الشعبي من معتقدات يمارسها الناس عن سابق يقين بحقيقتها.
يعتقد الناس أنه من الخطأ ضرب الطفل وقت الغروب، لأنه وقت مرور الشيطان (جزعة الشيطان)، وكذلك لا ينظفون بيوتهم، أو يعملون أي شيء آخر في هذا الوقت..
لا يجوز قص (تقليم) أظافر الرضيع، للاعتقاد بأنه سيصبح سارقاً في الكبر. أما إذا لم يدفن (الحبل السري والمشيمة) للوليد في مكان آمن، فربما تأكله القطط، وذلك سيجعل هذا الطفل يفشي الأسرار، ولا يحفظها أبداً.
الأفاعي تدخل في أفكار العامة، فالأفعى (الحنش) الأبيض لا يجوز قتله، لأنه ملك صالح، وإذا مر أمام أحدهم فإنها بشرى خير. أما الثعبان الأسود فهو شيطان لعين وبشرى شؤم يجب قتله.. كما جرى الاعتقاد أن لدغة الأفعى في أول الشهر مميتة، وتضعف آثارها وأضرارها كلما اقترب الشهر من نهايته.
إذا جاء المخاض امرأة، وعلم رب الأسرة بذلك، وكان عاقداً العزم على السفر، فإنه يتحتم عليه العدول عن سفره، للاعتقاد أن الولادة ستتعسر، ولن تتم حتى يعود الغائب من سفره، فالنسوة تقول (إنه شلّ الحس معاه). أما إذا كان الرجل مضطراً للسفر، فإنهم يقطعون خرقة من ثوبه، ويضعونها عند المرأة التي في حالة ولادة.
وهذا الأمر لا ينطبق على البشر وحدهم، بل حتى الأبقار والأغنام تمنع من الخروج للمرعى، مخافة أن تتعسر الولادة حتى تعود.
وهناك تقليد في بعض المناطق يقضي بأن يشتري الزوج كبشاً (خروفاً) صغيراً، ويودعه عند زوجته الحامل لتتولى تربيته، ويسمونه (ربيطة)، الغرض منها هو حفظ الزوجة من التعرض لكراهية أهل البيت، أو الكدر والانزعاج وما شابه.

منع نظر العروسة إلى (النجد)
إذا تزوجت المرأة إلى منطقة عند مدخلها (نجد)، فإنها عند الزفاف ينبغي عدم الالتفات إلى جهة المساكن الواقعة على ذلك النجد، للاعتقاد بأن نظر العروسة إليها سيبعث الشؤم، ويتسبب بانقطاع المطر.. إذا كانت هناك جنازة تريد المرور على طريق يقع على أحد جانبيه منزل على مستوى أدنى انخفاضاً من الطريق، وفيه امرأة (نفاس)، فيجب على المرأة أن ترتفع بوليدها إلى مكان آخر يكون أعلى مستوى من الطريق الذي تمر فيه الجنازة، للاعتقاد أنها إن لم تفعل فإن وليدها سيموت أيضاً.

تغيير اسم المولود
إذا رزق أحدهم بمولود، وظل هذا المولود يبكي، فإن المنجمين ينصحون الأهل بتغيير اسمه، وإذا بدلوا اسمه واستمر بكاؤه، فإن النصيحة حينئذ ستأتي بتغيير اسمه إلى اسم غريب وغير مألوف، لأن نجم الوليد لم يكن متوافقاً مع الاسم.
هناك معتقدات كثيرة ارتبطت بالجان، والسحر، ومواقع النجوم، وأوقات اليوم، فضلاً عن تلك المرافقة للزواج، وما ارتبط بزيارة الأولياء، والنذور، ووضع الحناء على الجدران.. وغيرها مما بات اليوم يمثل جزءاً من ماضي اليمن السحيق الذي طوته الأجيال مع مرور الزمن.
وفي الحقيقة، رغم أن اليمنيين خلفوا تلك المعتقدات وراء ظهورهم بفضل دخولهم عصر الحداثة، إلا أن الحديث عن ذلك الموروث الشعبي ظل أمراً يستهوي المجالس الشعبية اليمنية، ويبعث السرور إلى قلوب الفتيان والشبان الذين لم يدركوا ذلك الزمن، ولا يجدون في قصصه إلا باعثاً لكثير من السخرية والضحك.

آخر الأوراق
وهكذا نرى أن المعتقدات الشعبية تضرب جذورها عميقاً في الماضي، بل وفي أعماق اللاوعي البشري، وتمتد فروعها حتى الحاضر، فنجد معظم الناس في الوسط اليمني والعربي، لازالوا يعتقدون، على سبيل المثال، أن الليل وظلامه هما المسرح المناسب لظهور الأشباح الشريرة، وخاصة مزعوم الجن والعفاريت والشياطين، لذلك فإن هذه الفئة من الناس يجتنبون العديد من التصرفات عند حلول الظلام، خشية أن ينالهم أذى هذه الكائنات، فهم، مثلاً، يتورعون عن صفع الأطفال على وجهوهم في الليل، لأن ذلك من شأنه أن يعرضهم لضربات الجن الذين يظهرون في الليل، كما أن الآباء والأمهات يحذرون الأطفال من الصراخ في الليل، لأن الصراخ، في اعتقادهم الخرافي، يزعج الجن، ويستدعيهم، فيحضرون لإيذاء سكان البيت، وغيرها من المعتقدات.