عشية ثورة الـ21 من أيلول كان سفراء الدول الغربية قد حزموا حقائبهم للمغادرة، فالثورة هذه المرة لم تكتب شهادة ميلادها في محراب السفارة الأمريكية، ولم تصنعها دهاليز البيت الأبيض، فإن البقاء في ظل ثورة ولدت من رحم معاناة الناس أمر صعب يعري تاريخهم الأسود وأياديهم الملوثة بدماء شعب وعرق أمة. 
إذ لم يكن سفراء الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، لدى اليمن، قبل ميلاد ثورة 21 أيلول 2014، يمارسون مهامهم في نطاق وظيفة السفارات المعروفة والمحددة في القوانين الدولية، بل كانوا يصولون ويجولون في كل أنحاء البلاد بكل حرية دون أن يعترضهم أحد، وتجدهم في كل صغيرة وكبيرة، فترى أحدهم يزور معسكرات الجيش، وآخر يلقي خطبة بأئمة الجوامع في تعز، وثالثاً يفصل في قضية ثأر بين قبيلتين في مأرب.. كيف كان يمارس سفراء الدول الأجنبية أعمالهم في صنعاء؟ ومن أتاح حرية التحرك خارج نطاق عملهم في بلاد لها سيادتها؟.. تساؤلات كثيرة تدور في ذهن المتابع اليمني.. صحيفة (لا) تسلط الضوء على دهاليز السفارات الأجنبية من خلال سرد معلومات وتفاصيل كثيرة عن أعمالها وتحركها خارج البروتوكولات الرسمية، والتي تفضي إلى حقيقة واحدة يجدها القارئ والمتابع اليمني في التالي. 

خارج البروتوكولات 
بعيداً عن القوانين والبروتوكولات الدبلوماسية المعروفة دولياً، والتي تحكم عمل السفارات ومجال ونطاق تحركات العاملين فيها، يتحرك السفير الأمريكي وكذلك سفيرا بريطانيا وفرنسا بكل أريحية في كل اليمن، بل وفي مؤسسات الدولة العسكرية والمدنية.
لم يكن السفير الأمريكي لدى صنعاء يمارس مهامه كسفير دولة لدى حكومة بلادنا، بل أصبح السفير كشيخ قبلي يزور أعراس ومقايل الناس، بل إن زياراته للمدن اليمنية ولقاءه وجاهات فيها أكثر من تلك التي يقوم بها مسؤولو الدولة.
علاوة على زيارة مشائخ ووجهاء القبائل اليمنية، لم يتحرج السفير الأمريكي جيرالد فايرستاين بأن يعقد اجتماعاً لخطباء المساجد بتعز، ويلقي عليهم محاضرة بعد صلاة الفجر في فندق سوفتيل بالمحافظة، بداية 2010.
لقد بدا السفير فايرستاين عالم دين يوعي الناس ويدعوهم إلى خطاب واحد، في سخافة تعكس مدى تغلغل الوصاية الأمريكية في البلد. 
فايرستاين كان آخر سفراء أمريكا في صنعاء، ولم يتوقع أنه سيغادر اليمن فجأة ليلة 21 أيلول، فالابتعاد عن تعاطي القات مشكلة تحتاج لوقت طويل للتعافي منها، كما أن دواوين الشيخ (الأحمر) التي اعتاد على المقيل فيها كل خميس، أصبحت هاجساً يلازمه أينما ذهب.

إدمان للقات 
وعلاوة على المهام التي كان يقوم بها السفير الأمريكي الأخير جيرالد فايرستاين، كان إدموند جيمس هول سفير أمريكا في صنعاء من العام 2001 إلى 2004، مدمناً للقات، ويقضي معظم أوقاته في التنقل من وزارة إلى أخرى. وبحسب مصادر صحفية خاصة كان هول يقوم بزيارات متعددة إلى معسكرات الجيش ومقرات الاستخبارات العسكرية، وكان نائبه نبيل الخوري لا يدع مقيلاً أو عرساً في صنعاء إلا وحزم (علاقية القات) وذهب لتقديم الواجب. 
كانت مقرات أحزاب اللقاء المشترك ومنازل قياداتها أماكن مخصصة جمعت عشرات اللقاءات بين سفراء دول الاتحاد الأوروبي وأمريكا وقيادات في أحزاب اللقاء المشترك، وبحسب مصدر مسؤول شاهد على تلك الأحداث، كان السفير الأمريكي يلتقي بقيادات الإخوان بشكل شبه أسبوعي، وفي أماكن مختلفة كان يذهب السفير الأمريكي إدموند هول برفقة نائبه نبيل الخوري للقاء بهم، ومن تلك الأماكن منزل حميد الأحمر وشقيقه صادق الأحمر في منطقة الحصبة بالعاصمة صنعاء، كذلك منزل نبيل الصوفي، والكثير من قيادات أحزاب اللقاء المشترك. 

جاسوسية 
عندما ينطق العربية بثقة وطلاقة لا تشعر للحظة أنه ليس يمنياً أو عربياً، يلبس المعوز ويشد الجنبية في وسطه، ولا يمكن أن تفوته ظهيرة يوم ما دون أن يحزم (علاقية) القات العنسي أو الأرحبي في جعبته. 
لقد كان آدم بارون الصحافي الأمريكي الذي طردته السلطات عام 2013، دون ذكر أسباب، يبدو يمنياً أكثر من اليمنيين أنفسهم. 
بعيداً عن أسباب ترحيله من اليمن، لا يبدو اهتمام بارون باليمن والغوص بتفاصيلها الصغيرة محط اهتمام شاب غاوٍ بالتعرف على الشعب اليمني وعاداته من تلقاء نفسه، أو طالب علم أرسله بلده إلى جامعة صنعاء لدراسة اللغة العربية، وهو يجيدها بطلاقة.
بالرغم من ذلك، وإذا ما دققنا جيداً بحقيقة الأمر وتقارير بعض المراقبين التي أكدت أن بارون يعمل جاسوساً لأجهزة الاستخبارات الأمريكية، فإن ذلك قد يبدو منطقياً بعد ظهوره برفقة اللجنة الإعلامية التابعة لحكومة الفار هادي في مشاورات الكويت، العام الماضي.
الصحفي الأمريكي غادر اليمن، لكنه لم يترك مهمته، فهو لم يأتِ إلى الكويت لمضغ القات وتناول وجبة (السلتة) التي يحبها، بل جاء في إطار مهمته الاستخباراتية.

إخوان السفارة 
في العام 2006 حضر السفير الأمريكي برنان ليفي اجتماعاً برئاسة الرئيس السابق علي عبد الله صالح، وتحدث الأخير عن علاقة علي محسن الأحمر بالجماعات الإرهابية، بما فيها جامعة الإيمان التي يديرها عبدالمجيد الزنداني، وبعد الاجتماع بدقائق توجه السفير الأمريكي سراً إلى مقر الفرقة الأولى مدرع، والتقى علي محسن الأحمر وقيادات إخوانية كبيرة. 
وهذا الأمر يؤكد العلاقة الوطيدة بين أقطاب ثلاثية المستعمر (أمريكا ـ الإخوان ـ القاعدة)، المعادلة الأمريكية التي مررت مشاريع الهيمنة والوصاية من خلال لافتة عريضة اسمها محاربة الإرهاب. 
تاريخ الوصاية الأمريكية على اليمن يعود إلى أكثر من 5 عقود، وتحديداً عقب الإطاحة بالإمام أحمد حميد الدين وقيام ثورة 26 سبتمبر 1962، إنما الوصاية الفعلية المباشرة بدأت منذ بداية الألفية الثالثة ودخول العالم مرحلة جديدة من الصراع بصورة مغايرة حضرتها إدارة البنتاغون الأمريكي عشية أحداث الـ11 من سبتمبر 2001.

زيارات سرية
على خلفية ذلك، وضمن المخطط الأمريكي الواضح للهيمنة على العالم، شنت الولايات المتحدة الأمريكية حملة عسكرية عالمية واسعة بحجة مكافحة الإرهاب، وكانت أول عملية عسكرية أمريكية في اليمن بالعام 2002 في محافظة مأرب، وشهدت عملية إنزال للجنود الأمريكيين، وكان ذلك عقب استهداف مدمرة (كول) في خليج عدن.
عمل سفراء أمريكا المتعاقبون لدى صنعاء على إقامة علاقات واسعة مع رجال دين وشيوخ قبليين من معظم محافظات الجمهورية، وكشفت تقارير صحفية وإعلامية تردد السفير الأمريكي إدموند هول على زيارة قيادات في تنظيم القاعدة في محافظة مأرب.
التقارير التي صادرتها السلطات اليمنية بضغوط أمريكية، والتي اعتقل على إثرها عدد من الصحفيين، أبرزهم عبدالإله حيدر شائع الذي نشر عدداً منها، تؤكد علاقة قيادات من القاعدة بالسفارة الأمريكية، واصفة أن محاربة الإرهاب سخافة أمريكية للهيمنة على شعوب المنطقة. 

مغامرات السفراء 
لم تكن علاقة الأمريكيين بالجماعات الإرهابية محض أكاذيب وتهم باطلة يرميها عليهم أعداء الرأسمالية، بل كانت حقيقة جلية تكشف عن نفسها بنفسها، ففي الوقت الذي أعلنت فيه عناصر تنظيم القاعدة سيطرتها على أجزاء واسعة من محافظة مأرب في صيف 2006، كان السفير الأمريكي يتجول في مديريات المحافظة برفقة عدد كبير من السياح والصحفيين الأجانب، ولم يعترضهم أحد.
مغامرات سفراء أمريكا والدول الغربية في اليمن لم تتوقف عند زيارة السفير الأمريكي لمأرب في خضم الاشتباك مع عناصر القاعدة، إذ إن سفيرة الملكة إليزابيث البريطانية جين ماريوت لم تأبه لخطورة الوضع والتوتر القائم في تعز مع أحداث 2011، حتى قامت بزيارة المحافظة ولقاء قيادات أحزاب اللقاء المشترك هناك.
الصورة ليست حصرية في اليمن وحسب، فقبل اندلاع الحرب في سوريا بعدة أسابيع ظهر السفير الأمريكي لدى سوريا روبرت ستيفين برفقة مسلحين ينتمون لجماعة الإخوان المسلمين في باب توما، وقد أكدت وكالة (سبونتيك) الروسية وقتها أن السفير الأمريكي التقى بقيادات من الجماعات المتطرفة، كما قام بالتنسيق مع البعض منهم وتزويدهم بالأسلحة.

مباركة السلطة 
لم يكن الدور الكبير التي حظيت به سفارات الدول الأجنبية في صنعاء وتحرك سفرائها بأريحية تامة خارج بنود القوانين والبروتوكولات الدبلوماسية الدولية، إلا بمباركة أصحاب القرار السياسي في البلاد، وإلا على أي أساس يقوم السفير الأمريكي بزيارة مراكز الاقتراع في العاصمة صنعاء، ويعلن من إحداها عن فوز الرئيس الأسبق علي عبد الله صالح قبل أن يتم فرز كل الأصوات! 
ومن أعطى الحق لوزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون، لتوجه سؤالاً لقيادات أحزاب اللقاء المشترك قبيل انتخابات الرئاسة 2006: هل لديكم بديل لشغل منصب رئيس الجمهورية؟

غرف الاستخبارات 
تغلغلت سفارات الدول الغربية، وبالأخص السفارة الأمريكية، في كل مفاصل الدولة، حتى إنها حسب تأكيدات مسؤولين في وزارة الداخلية، كانت تحصل على تقرير شبه يومي بإحصائيات عدد الحوادث والجرائم الواقعة على مستوى البلد.
وصلت جذور الوصاية الأمريكية إلى كل مؤسسات الدولة ووزاراتها حتى أسرَّة نوم المسؤولين، وقد كشفت ثورة 21 أيلول عن غرفة عمليات استخباراتية داخل مبنى رئاسة الوزراء يديرها ضباط ومسؤولون من السفارة الأمريكية. 

موجة الاستقطاب 
شهد العام 2011 موجة استقطاب كبيرة للشباب اليمني من قبل المنظمات الحقوقية الدولية ومراكز حقوق الإنسان التي كانت تحظى بدعم ورعاية سفارات الدول الغربية، وتقديمها بصور مختلفة في الشارع العام. 
الكثير من المرتزقة ممن يسمون أنفسهم نشطاء وحقوقيين، والذين يتشدقون اليوم باسم (الشرعية) في ملاهي إسطنبول وبارات باريس، جميعهم تخرجوا من دهاليز البترودولار والغرف السرية لسفارات أمريكا وبريطانيا وفرنسا التي منحتهم تأشيرات العبور الى أحضان الرأسمالية العالمية، وضمهم تحت إبطها للاستفادة منهم في المستقبل، ويعد مركز الزائر الدولي أحد أكبر مراكز الاستقطاب التي تديرها الاستخبارات الأمريكية.

جاسوسية المنظمات 
وعلاوة على استقطاب المنظمات للشباب تحت مسميات مفرغة ديكورية تحمل في شكلها الخارجي الحديث عن حقوق الإنسان والحريات والحداثة وتجنيدهم وفق مغريات ومفاهيم خاطئة تخدم السياسة الغربية، فإن عمل المنظمات الدولية وصل إلى مراحل متقدمة، حيث كانت تمارس دور التجسس على مؤسسات الدولة العسكرية والمدنية.
في العام 2012 نظمت منظمات حقوقية هولندية وبريطانية برامج للشباب تحت عناوين تخفيض مستوى البطالة والأمية، وكان ضمن الاستبيانات التي وزعت على المتدربين والعاملين، قيام كل واحد منهم برصد عدد الجنود والضباط في منطقته ومديريته والجهة العسكرية التي ينتسبون إليها.

تعيينات السفارة 
يد السفارات الطامعة بتحقيق مشاريع التمزيق والهيمنة على مقدرات الشعب وسلبه حريته وسيادته، لم تتوقف عبر الزحف تحت لافتات المنظمات الحقوقية والإنسانية، بل طالت للتحكم بالشكل الإداري في مؤسسات الدولة وتعيين مدراء ووكلاء حسبما تشاء، وكأنها الحاكم الفعلي للبلاد.. ففي إحدى الوقائع التي تؤكد اليد الطولى للوصاية الغربية على البلاد وهيمنتها على قرار السلطة سابقاً، رشحت سفارات دول الاتحاد الأوروبي، وعلى رأسها السفارة الهولندية، بحجة دعم قطاع المياه، عدداً من الشخصيات لتقليدها مناصب في وزارة المياه، ومن ثم قامت السفارة بتعيين مدراء لمكاتب مؤسسات المياه في مختلف محافظات الجمهورية. 

أكبر غرف الاستخبارات 
قبل بزوغ فجر الـ21 من أيلول 2014، ولسنوات طويلة، كانت صنعاء ساحة ملغمة برجال الموساد والمارينز وكهنة قوى الرجعية والاستعمار، ومظللة بعمامات الوهابية والإخوان، ومن خلال قوى الأخيرة التي استغلت السلطة والمال لتمهد الطريق أمام نفوذ الخارج حتى أصبحت العاصمة مركزاً محورياً للنافذين وغرفة عمليات كبرى لقوى الاستكبار الأمريكي الصهيوني. 
الكاتب الأردني المعروف مأمون أفندي، أكد في مقال له نشرته صحف عربية عديدة منها صحيفة (السفير العربي) اللبنانية، في 2010، أن السفير الأمريكي فريدمان أسس في العاصمة صنعاء أهم غرفة استخبارات أمريكية بالشرق الأوسط. وقد أشار أفندي في مقاله الذي استند على وثائق مسربة، إلى أن معظم المخططات والمشاريع الأمريكية في المنطقة العربية كانت تدار من أكبر غرفة استخبارات في صنعاء.

صنعاء معتقل 
وعلاوة على تشييد قوى الرجعية والاستعمار لغرف الاستخبارات والعمليات التي شكلت ملامح العاصمة صنعاء من نهارها المشرق إلى ليل دائم لعقود من الزمن، حولت الإدارة الأمريكية صنعاء إلى معتقل كبير لخصومها، حيث سربت وكالة (ويكيليكس) عام 2013 وثائق تؤكد قيام البيت الأبيض بتوزيع مئات المعتقلين السياسيين والعسكريين الذين قبضت عليهم بتهم إرهاب وغيرها، على عدة عواصم عربية، بما فيها العاصمة اليمنية صنعاء، وكان يوضع المعتقلون في سجون سرية بمعرفة السلطة وبإشراف أمريكي مباشر.

الثورة ميلاد عهد جديد 
كل غرف العمليات والاستخبارات التي كانت تديرها أيادي الموساد والمارينز الملوثة بدماء الشعب اليمني، نسفتها ثورة الـ21 من أيلول، وعرتها أمام العالم، وتبدو صنعاء اليوم أشبه بحسناء مشرقة عادت إلى شبابها بعد غياب. وبين الماضي والحاضر يسير اليمنيون بخطى واثقة نحو مستقبل جميل تضيء سبيله ثورة ميلاد عهد جديد مزق أوصال الوصاية التي كانت تمارسها السفارات الأجنبية.