مثلت محافظة تعز لعقود طويلة قبلةً للفكر والثقافة والحركات القومية واليسارية والتحررية، وامتزجت في مكنونات أبنائها وثقافتهم وتقاليدهم وهويتهم.. وكان الحال أيضاً أن امتزجت الوجوه والسحنات لتلك القادمة من خارجها مع وجهها المحلي، وتشكلت لاسيما بمنطقة الجحملية في تعز المدينة مزيجاً اجتماعياً وثقافياً نوعياً عبر عن تنوع الإرث الثقافي والمعرفي والتقاليد واللهجات... لمعظم أرجاء البلاد.
في المقابل أيضاً، كانت تعز ولا تزال، محط أنظار المطامع الاستعمارية الدولية لقرون طويلة، ويجدر القول إن ما يدور اليوم خاصة في جبهات الساحل من احتشاد لقوى المرتزقة والعدوان بمواجهة الشعب اليمني، هو أبرز التمظهرات العملية للمطامع الاستعمارية في  تعز التي تشكل كتلة سكانية وجغرافية حيوية تُعد (الكتلة الضامة) لشمال الوطن وجنوبه، واستهدافها العدواني يعني استهدافاً للوحدة الوطنية اليمنية..
وفي هذا السياق، تكالبت مشاريع التدجين الاستعمارية وتخريب الهوية الوطنية اليمنية لدى أبناء تعز، وللمدينة التي حملت بذور المشروع الوطني، طمعاً في إخراجها عن سياقها الوطني لصالح النزعات الإثنية ما قبل الوطنية، وتجلت مؤخراً في الإعلام المعادي محاولات تصوير المحافظة كجهة معادية لأبناء الوطن أرضاً وإنساناً وثقافة. لكنها ارتطمت بجدار المقاومة الوطنية، وانحصرت لدى الأمزجة المريضة في مواقع سيطرة مرتزقة العدوان، فيما مناطق السيطرة الوطنية كانت منفتحة على الفضاء الوطني الرحب وجزءاً أصيلاً منه.
كما هو الحال مع باقي الجبهات، كانت تعز خلال عيد الفطر -مجدداً- قبلة للزيارات العيدية المتجهة للجبهات المختلفة التي قامت بها القوى السياسية المختلفة، وكذا من الجانب الحكومي والرسمي والعسكري والإعلامي، علاوة على وفود علمائية ووجاهات اجتماعية، وجميعها اجتمعت من محافظات مختلفة وانتماءات متعددة، ومقابل استقبال أهلي وجبهي حافل عكس صورة التماسك ووحدة الصفوف التي عليها جبهات تعز..
كان من التوفيق أن أكون ضمن وفد الزيارات لجبهات تعز ضمن حملة (أعيادنا جبهاتنا).. وكان من الجميل جداً الملامسة عن قرب لصورة الأحداث الدائرة في تعز وماهية المشهد القائم..
كل شيء مختلف حقيقة خارج دائرة العدسات والشاشات وأقلام الكتاب.. فهناك، يمكنك أن تشعر بصدق (عرعرات) البسطاء: للفقر والعدوان وللريال السعودي، ولغلاء القات... ولما شاءت تلك اللهجات الشعبية الجميلة والطريفة ومعينها الفسيح المتشبع بالمفردات، وبما يفرض مزاج اللحظة.
هناك مباشرة، يمكنك أن تلمس في عيون وتجاعيد الوجوه عمق الحزن والوجع القسري الذي طوق الحياة وبأدق تفاصيلها اليومية.. وأخيراً -وليس آخراً- فاجعة قتل مديرة مدرسة دبي رهام نديم، بالرصاص، ورميها في سائلة عصيفرة، بعد نهبها والسطو على منزلها في حي صينة.

استغلال فرصة للفرح
وعلى الرغم من حصة المآسي اليومية للمدينة، إلا أن أجواء العيد الروحية معاشة إلى حد كبير.. يرجح رجل خمسيني -في سياق الحديث العابر- أنها الروح التي تحاول استغلال كل فرصة للفرح، وهي كذلك احتفاءٌ بكل لحظة من عمر المدينة لم تطل أيدي وسواطير مسوخ العدوان السعودي الأمريكي أحياء وأزقة أهاليها. الأهالي الذين كثر منهم قد غادروا مساكنهم في المناطق الواقعة تحت سيطرة مرتزقة العدوان، تحت الإجبار أو الهرب من نيران المعارك الدائرة.
يُعد المشهد الأخير حاضراً قوياً في المناطق التي زرناها في الحوبان والصلو وحيفان وصبر الأقروض والأثاور ومناطق متاخمة لجبل جالس الاستراتيجي التابع للقبيطة والذي سقط بيد قوات الجيش واللجان الشعبية.
بالنسبة لرجال الرجال في متاريس الوطن المنتشرة هناك بوجه العدو المتربص، فإن العيد إن لم يكن هو تحقيق الأمن واستقرار الحياة للناس والدفاع عن الكرامة والسيادة، فماذا يكون؟!
حال المتاريس هناك يقول: في السابق، كان كل شيء تقريباً مدجناً ومفرغاً، من أعياد ومناسبات صارت بلا معنى، حتى الفرحة غزاها الزيف. لكن كل شيء الآن حقيقي، ويعيشه الناس حقاً.
يخبرنا أحد أفراد الأمنيات في حيفان، أن الناس ببساطة عقدت المقارنة بين حالها حين كان المرتزقة ينتشرون في مناطقهم، وبين الحال الذي صارت عليه مناطقهم عقب دخول قوات الجيش واللجان الشعبية وتطهيرها من المرتزقة.
يتعايش المواطنون في مناطق السيطرة الوطنية على السواء، وبغض النظر عن تمايز المواقف السياسية، فإن ما لا شك فيه أن الجميع تقريباً متفقٌ على سيادة الأمن والاستقرار الذي أنجزه الجيش واللجان بمساندة واسعة من الأهالي.
تتكون فرق الأمنيات والنقاط ومرابطي الجبهات من مزيج جغرافيات واسع يؤكد واحدية القضية والانتماء والهوية، وتنتفي معه تباينات الجغرافيا وصراعها على سيادة أحدها على الآخر، حد ما تصوره ماكينة الإعلام المعادية، خاصة السنوات الأخيرة. فكل تمايز هناك عدا تمايز التقوى وصدق الانتماء، يتقلص لا محالة تحت أقدام الأبطال وانتصاراتهم المتواصلة.
ويبدو أن محاولات (الأقلمة) التمزيقية لم تتجاوز حدود هوس الأدمغة التي صاغتها وفصلتها على مقاس الفصل السابع والبترودولار وحلف الأطلسي.. على الأقل في نطاق السيطرة الوطنية اليمنية: القسم الأكبر من البلد.
لطالما روج الإعلام المعادي، وبمقدمته السعودي والقطري، على أن تعز (تعيش احتلالاً حوثياً عفاشياً) وشمالياً جاء لإخضاع تعز الثقافة والمعرفة والتحديث وتاريخ الحركة الوطنية، عوضاً عن تصوير هذه الأخيرة بكونها قامت وتشكلت أبداً ودائماً في مواجهة الشمال اليمني والقبيلة. وتضيف هذه العقلية الهوليودية أن ما يجري الآن صراع مناطقي لتحرير تعز والجنوب وتهامة من سطوة الشمال!
بيد أن كل صورة للشهداء اعتلت منازل ذويهم وأحياءهم وجدران المناطق المحررة، وما خلفه الطيران من شواهد لا تزول -كما هو الحال مع مبنى إدارة الأمن والسطلة المحلية في حيفان- وكل صورة من صور المقاومة والتحدي والإباء التي تعتلي جباه الأهالي والتضاريس السامقة المقاومة، تؤكد جميعها حقيقة أن الوطن اليمني الضاربة جذوره في عمق التاريخ لآلاف السنين؛ لا يمكن تجييره وتشكيله كما تشتهي المخيلة المريضة لكيانات الـ500 عام كأمريكا، أو الـ100 عام كالكيانين الصهيوني والسعودي.

(اعرفوهم بثمارهم)
أفادنا المسؤول الأمني للمحافظة، أن أهم أولويات الأهالي تحقيق الأمن والاستقرار قبل أي شيء، وبأن الناس لا تعاير طبقاً لمعايير اللهجة والانتماء الجغرافي، بل لحقيقة ما يتم إنجازه ومصداقيته، ثم تتعرف بعدها للخلفيات الثقافية والإيمانية.. ويؤكد هُنا، أن هذا ما قدمته حقاً قوات الجيش واللجان الشعبية للمواطنين بالدرجة الأولى، وتم إنجازه بإسنادهم وصمودهم ووعيهم العالي والمتجاوز للانتماءات الضيقة، والرافض لها.
بطبيعة الحال، فكل مشروع وطني بالضرورة يكون مفتاح نجاحه تعميم حالة تجديد للشعور الوطني المتجاوز واللامتصالح مع الأمزجة التمزيقية والجهوية التي يبعثها الاستعمار من ركام المخلفات والماضي الغابر.. هكذا أكد لنا السياسي الاشتراكي وليد العبسي، أحد أعضاء الوفد.
وفي سياق تنقلنا، أخبرتنا المدينة كم قدمت بدورها من الشهداء والجرحى والمفقودين في صفوف جبهات المقاومة الوطنية والدفاع عن الوطن والسيادة والاستقلال والكرامة.. فتعز (كاذيةً في هام الوطن وبندقيةً في يده).. إنها مدينة وعلى عكس ما يريد العدو ومنظومته الإعلامية أن يصبغها، حاضرة بدماء أبنائها -كالعادة- في كل جبهة من جبهات الوطن، وامتزجت بدماء المدن اليمنية الأخرى، مجسدةً أعمق صور الوحدة في الأرض والهوية والمصير.
من جهته، أفادنا المشرف العام بتعز أن المحافظة قدمت الكثير من الشهداء في صفوف الوطن، فما لا يقل عن 500 شهيدٍ بذلوا أرواحهم للدفاع عن الوطن، وكذا أكثر من 1300 جريح ومصاب، والعديد من المفقودين والأسرى، وذلك فقط في إطار الجبهات وحدها، وليس مع الضحايا المدنيين.
تنتهي آخر نقاط تواجد قوات الجيش واللجان الشعبية من جهة الحوبان شرق المدينة، عند جولة القصر وجولة كلابة وقصر الشعب، وعندها تنتهي آخر حدود الحياة الطبيعية، إذ إنها -ما بعد تلك النقاط- تصطدم بتضاريس الوجوه الوحشية والسواد المستفحل حولها، وتودع سياف العدوان، في مشهد انتزعت عنه مشاعر الطمأنينة والسلام حتى بحدها الأدنى، وتذبح فيه أي مظاهر لحياة طبيعية.
ففي الوقت الذي يتجول فيه الأهالي بحرية مطلقة ضمن نطاق السيطرة الوطنية، محتفين بالعيد تحت سقف الأمان؛ يتوجس معظم من تبقى داخل المدينة ضمن نطاق سيطرة المرتزقة في مساحة الثلاثة كيلومترات مربعة أن يمارسوا طقوسهم العيدية بسلام، فلا تزال مخيلتهم دامية، ووجدانهم لم يتجاوز فاجعة قتل امرأتين في العشر الأواخر من الشهر الكريم -اغتصبت إحداهما- ورمي جثتيهما في السائلة بلا عزاء أو اعتبار لحرمة.. إنه مشهد يعاقر الرازحين هناك تحت رحمة سياف القاعدة وداعش وأبو العباس، وعمليات التصفيات المتبادلة بين المرتزقة وما يرافقها من معارك دامية في شوارع وأزقة المدينة -كما حدث قبل أيام في منطقة وادي القاضي- خلفت ضحايا كبيرة بين المدنيين، فيما الناجون يقبعون خلف جدرانهم التي تصيرت معتقلات ومنافي مأساوية، حالها أشبه ما يكون بجزر جبلية متناثرة على المحيط بلا موانئ أو شطآن..
إنها تماماً ساحة موت شبقة دون سقف أعلى لمقادير حصادها البشري، أو مكابح لجنازير التجريف المتحرك بالعكس لمنطق التاريخ والتطور والتقدم، الذي تواجهه المدينة بقيمها وموروثها وتاريخها وهويتها وإنسانيتها.
بالجهة المقابلة، وتحديداً المناطق المطهرة مؤخراً من تواجد العصابات كحيفان، يؤكد الأهالي أن الثمن الذي كان سيدفع في ظل عدم الحراك سيكون مأساوياً وبشكل لا يصدق.. ويأتي هذا الحديث على الرغم من كل الخسائر التي منيت بها مناطقهم قبل تأمينها الكامل، لاسيما جراء مدفعية العدوان وغاراته الهستيرية التي استهدفت المدنيين. لكن العزاء لهم أن هذه ضريبة فرضت على كل الوطن أن يدفعها مقابل استقلاله وسيادته وتحرره، وأبى الناس هناك إلا أن يكونوا دافعيها.
كنت أراقب -أو ربما أتلصص- عيون الناس وتعابير وجوههم وتفاعلهم وردود فعلهم أثناء مرور موكب الزيارة.. ليست نظرة التعجب من مرور غرباء أو معتدين، بل اعتيادية تماماً، ورافقها بوضوح ارتفاع المعنويات والحماس، وتعزيز الشعور بالأمن، والتأكيد على الانتصار. حتى إن تلك النظرات الممتعضة للبعض -من منتمي اتجاهات سياسية معينة- لم تكن تخلو من القناعة أن ما قدمه الجيش واللجان هو النموذج الذي يجب أن يبقى، فمسوخ العدوان لا يرون حولهم إلا غنائم للسبي ودواب للمناكحة، ولا أكثر.