تعتبر الملاريا من أخطر الأمراض التي تسبب الوفيات في المناطق الموبوءة، وتتأثر بعدة عوامل طبيعية، إلا أن تدخلات الإنسان وسلوكياته تسهم أيضاً في رسم الخارطة الوبائية للملاريا، ولعل أهم هذه التدخلات استحداث بؤر توالد البعوض، مثل بناء السدود والأحواض المائية لغرض التنمية، دون أن يترافق معها إجراءات السلامة من الأمراض.. ومؤخراً تم رصد عدة حالات مصابة بهذا المرض في العاصمة صنعاء، وهي من الأماكن التي لم تعرف مثل هذه الحالات المرضية، مما جعل الكثير يضع علامات استفهام كبيرة عن ظهور تلك (الحالات)، وهل أصبحت موبوءة بهذا المرض؟ 
ظهرت كحمى
تقول (أم أمل): نحن لم نعرف في البداية أن الذي أصاب (أمل) هو مرض الملاريا، واعتقدنا أنها مجرد حمى وتزول مع المهدئات التي أخذناه من الصيدلية، وإذا بها تزداد مكوثاً في فِراشِ المرض، وبعد عمل فحوصات وجد الأطباء أنها تعاني من الملاريا، تسببت بحمى مستمرة جعلتها تخضع لرقابة الأطباء، وهاهي الآن بدأت تتعافى والحمد لله، ولحد الآن لم نعرف سبباً لذلك.
وختمت أم أمل: لا أنصح أبداً بالاستهانة بأي مرض مهما يكن، حتى لا نخسر أطفالنا ومن نحب.

أعراض المرض
 توضح للقارئ د. انتصار المعمري، طب بشري- جامعة صنعاء، أعراض المرض التي يسببها الطفيل، كارتفاع في درجة الحرارة، واصفرار في الجسم، وأعراض فقر الدم نتيجة انفجار كريات الدم الحمراء، وتظهر علامات على شكل نوباتٍ من الإحساس بالبرودة والارتعاش، بالرغم من ارتفاع درجة الحرارة، وما بين نوبةٍ وأخرى تكون الأعراض خفيفة، وقد يحدث قيء وإسهال، وصداع، وتغير لون (البول) إلى اللون المائل للسواد، وذلك نتيجة أن طفيل الملاريا يقوم بمهاجمةِ خلايا الدم الحمراء مباشرة، وتحطيمها، بالإضافة إلى إفراز سموم تسبب هذه الأعراض، بالإضافة إلى انتفاخ الطحال.. وتضيف الدكتورة المعمري أنه في المراحل المتقدمة قد يهاجم الطفيل الأجهزة الأخرى كالجهاز العصبي، الذي يسبب تشنجات أو إغماء، كذلك الجهاز البولي، والكبد، واضطرابات في الأيض.
وتختم د. انتصار أن اكتشاف المرض مبكراً يساعد في حل تلك الأعراض، بالإضافة إلى إعطاء جرعات وقائية، تحول دون عودة المرض، كذلك الاهتمام بالنظافة، ورفع المخلفات من الشوارع والطرقات، ووضع الناموسيات المشبعة بالدواء في غرف النوم، كذلك ردم الحفر المفتوحة بالشوارع، ورش المبيد على المناطق الموبوءة، والتي تفاقمت بسبب الأوضاع الراهنة. 

النزوح من مناطق الصراع!
إلا أن للدكتورة عايدة الهاشمي، كلية الطب - جامعة صنعاء، وجهة نظر مغايرة، حيث ترجع أسباب انتشار طفيل الملاريا في العاصمة إلى هجرة ونزوح السكان من المناطق الأكثر انتشاراً لوباء الملاريا، كالحديدة، وتعز، إلى العاصمة صنعاء، هرباً من الأجواء الأمنية السيئة هناك، كذلك موجة الحر الشديد التي اجتاحت مؤخراً محافظة الحديدة، ومناطق تهامة، إضافة إلى تراكم المخلفات الذي يخلق بيئة حاضنة وخصبة لانتشار البعوض المسبب لمرض الملاريا.
ووجهت د. عايدة الجهات المختصة بتكثيف الجهود، وتفعيل الوقاية من المرض، كرفع المخلفات ووضعها في الأماكن المخصصة. ولأن العملية تشاركية بين المواطن والجهات المسؤولة، أضافت أن على المواطنين أيضاً الالتزام برمي القمامة في أماكنها الصحيحة، كذلك التعامل مع مريض الملاريا بعمل وقاية له وللمحيطين به، لتفادي انتشار المرض، وزيادة الحالات المصابة، كذلك - وهو الأهم - متابعة الدواء بانتظام من قبل المريض نفسه، وعدم الاستهتار في تناول العلاج.

مستشفى الكويت يفتقر لوجود علاج 
ولحساسيةِ الموضوع التقت (لا) بالأخ عبدالمجيد الرزازي، مدير إدارة شؤون المرضى بمستشفى الكويت، حيث قال: إن هذه الظاهرة جديدة على العاصمة صنعاء، وأن المستشفى يعاني من شحة وجود علاج الملاريا، مرجعاً سبب انتشار المرض إلى الأحداث الأخيرة، والوضع الذي تمر به البلاد، كانتشار النفايات على مستوى أمانة العاصمة، ونقص الأدوية بسبب الحصار الجائر من قبل دول العدوان، وكذلك المحاليل الطبية، مما يضطر المستشفى إلى شراء المحاليل.
ورغم اعتراف المستشفى بوجود حالات كثيرة من الملاريا، إلا أننا لم نحصل على إحصائية تبين لنا ذلك. 

العاصمة ليست موبوءة
ومن خلال البحث والتحري في صحةِ ما أشيع عن (انتشار) المرض، طرحت (لا) تساؤلاتها على الدكتور عبدالحكيم الكحلاني، مدير عام مكافحة الأمراض والترصّد الوبائي، حيث أكد أن العاصمة صنعاء ليست مدينة موبوءة بالملاريا، لسببين وجيهين أولهما: ارتفاعها الجغرافي عن مستوى سطح البحر بـ2600م، وثانيهما عدم وجود البعوض الناقل.
ويختم الكحلاني: لا ننكر وجود بعض (الحالات) التي ظهرت مؤخراً، وهي لا ترقى أن تسمى (ظاهرة)، وذلك بسبب وجود نازحين أتوا من مناطق موبوءة، وكانوا حاملين للمرض، أو سكان العاصمة الذين نزلوا للمناطق الموبوءة، وتم اكتشاف أنهم حاملون للمرض.

تصنيف اليمن وبائياً
د. معمر بادي، مدير الرصد والتقييم لبرنامج مكافحة الملاريا، بدأ حديثه عن تصنيف اليمن وبائياً، قائلاً: تصنف اليمن وبائياً ضمن المجموعة الأفريقية الاستوائية للتشابه بينها وبين دول تلك المجموعة، لتوطن أخطر أنواع الملاريا فيها، وهي الملاريا المنجلية التي تمثل أكثر من 95% من الحالات المسجلة. وتنتشر الملاريا وتتوزع بدرجات تختلف من منطقة إلى أخرى، وفق المتغيرات الجغرافية-المناخية والاجتماعية والاقتصادية، وهذا ما جعل الملاريا تحتل رأس قائمة المشاكل الصحية الأكثر تعقيداً وخطورة في البلاد.

وبائية الملاريا
 وأضاف د. معمر بادي أن الملاريا تنتشر في معظم محافظات الجمهورية، ولكن مع اختلاف في درجات التوطن من خفيفة إلى عالية، وبحسب الإحصائيات والدراسات فإن 68% من سكان الجمهورية يعيشون في مناطق هم فيها عرضة للإصابة بالملاريا، وتعتبر منطقة تهامة هي الأعلى وبائية، فقد أثبتت الإحصائيات والمسوحات أن أكثر من 70% من حالات الملاريا تسجل في هذا الإقليم، ويضم هذا الإقليم حوالي 46 مديرية موزعة في 7 محافظات، ويمتد هذا الإقليم من الحدود الشمالية للجمهورية اليمنية مع السعودية شمالاً إلى مديرية المخا في محافظة تعز جنوباً.
ويضيف بادي: هناك انتقال موسمي للملاريا في اليمن، الموسم الشتوي يبدأ في أكتوبر، ويستمر حتى أبريل، في مناطق السواحل وأقدام الجبال في الارتفاعات بين (0-600م) فوق مستوى سطح البحر. أما الموسم الصيفي فيبدأ في شهر مايو، ويستمر حتى سبتمبر، في المناطق ذات الارتفاعات بين (1001-2000م)، وأما المناطق التي ضمن الارتفاعات بين (600-1000م) فإن الانتقال فيها طوال العام, أما بالنسبة للمناطق التي تقع في ارتفاع يفوق 2000م، فقد أثبتت الدراسات أنه لا يوجد انتقال داخلي لمرض الملاريا فيها.
ويشير إلى أن الإحصائيات أظهرت أن هناك انخفاضاً ملحوظاً في نسبة انتشار حالات الملاريا، فعلى سبيل المثال انخفاض حالات الملاريا المسجلة في المرافق الصحية الحكومية من 217.270 حالة العام 2006 الى 122.853 حالة في 2014. كما أظهرت هذه الإحصائيات أن بعض المحافظات تقترب من خلوها من المرض، وتسجل فيها حالات قليلة جداً، وأصبحت هدفاً لاستئصال الملاريا فيها، ومن هذه المحافظات (حضرموت - المهرة - شبوة).
كما أظهرت نتائج المسحين الوطنيين لمؤشرات الملاريا، أن هناك انخفاضاً في نسبة انتشار الملاريا خصوصاً في المنطقة الأكثر وبائية (إقليم تهامة)، حيث أوضحت نتائج المسح الوطني لمؤشرات الملاريا 2013، انخفاض نسبة الإصابة في تهامة إلى 2.6%، عوضاً عما كانت سجلت في نتائج المسح الوطني لمؤشرات الملاريا 2009، والتي بلغت 4.5%.

البرنامج الوطني لمكافحة الملاريا
وعن مهام البرنامج الوطني لمكافحة الملاريا، أوضح د. بادي أن البرنامج مر بعدة مراحل قبل الوحدة وبعدها، حيث بدأت المكافحة في المحافظات الجنوبية في العام 1940 في ظل الاستعمار البريطاني، كما بدأت أعمال مكافحة الملاريا بشكل محدود في المحافظات الشمالية في العام 1980، ومرت عمليات المكافحة بعدة مراحل، وتم تأسيس أول برنامج مكافحة بعد الوحدة في العام 1991، ولكن بإمكانيات ضعيفة، وفي العام 1999 تم إصدار قرار بتأسيس البرنامج الوطني لمكافحة الملاريا، بدعم حكومي عالٍ في أبين، وفي العام 2000 انتقل البرنامج الى صنعاء، ومن ذلك الوقت والبرنامج يقدم خدمات المكافحة المختلفة، والتي كان لها الأثر الكبير في انخفاض معدل الإصابة، وتخفيف وطأة الملاريا على المواطنين في بلادنا.
وأوضح بقوله: يعتمد البرنامج استراتيجية مكافحة تتمثل بعدة محاور، لعل أهمها مكافحة الناقل من خلال الرش والناموسيات، التشخيص المبكر والمعالجة الفورية من خلال توفير الأدوية والفحوصات في المرافق الصحية والتدريب على السياسات العلاجية، رفع الوعي المجتمعي تجاه المرض من خلال التثقيف والإعلام الصحي، وقد وصل البرنامج إلى نتائج رائعة.
واستطرد د. بادي أن للبرنامج شركاء داخليين وخارجيين يعملون جنباً إلى جنب مع البرنامج من أجل الوصول إلى يمن خالٍ من الملاريا، ولعل أهم هؤلاء الشركاء الصندوق العالمي الذي لم يألُ جهداً في دعم البرنامج، وخصوصاً في الأوضاع الراهنة، التي يعاني البرنامج فيها وضعاً مالياً صعباً.
أما عن عمل البرنامج في الفترة الحالية، فيقول: حالياً يمر البرنامج بوضع عصيب جراء انعدام الموارد المالية سواء المحلية أو الخارجية، ولم يتبق إلا دعم الصندوق العالمي، ومع ذلك لازال البرنامج يقدم خدماته بحدود الإمكانيات المتاحة، وبدعم ومساندة مباشرة من المسؤولين في وزارة الصحة، ممثلة في قطاع الرعاية، والذين يستشعرون مدى خطورة توقف المكافحة، ويدفعون بكل ما هو متاح لاستمرار المكافحة، كما أن للوضع الأمني غير المستقر في المديريات تأثيراً سلبياً في تحركات البرنامج في عمليات المكافحة.

سقطرى جزيرة خالية من الملاريا
وعن مهام البرنامج التوسعية على مستوى المحافظات، يضيف بادي: كانت سقطرى إلى وقت ليس بالبعيد تعاني من مرض الملاريا، حيث كانت نسبة انتشار الملاريا في أواخر القرن الماضي وبداية القرن الحالي، تصل إلى أكثر من 50%، ولكن مشروع المكافحة في هذه الجزيرة أثبت نجاحاً منقطع النظير، وفي فترة وجيزة، بالإضافة إلى أنه مع انطلاقة برنامج استئصال الملاريا في سقطرى في 2001، بذل البرنامج الوطني لمكافحة الملاريا جهوداً جبارة، مدعوماً بجهود عالية المستوى من منظمة الصحة العالمية وبقية المانحين، وكان لهذه الجهود ثمارها، ففي 2006 وصلت حالات الملاريا في هذه الجزيرة إلى الصفر، ومن ذلك الوقت لم تسجل حالة واحدة ذات انتقال داخلي، وكل الحالات التي ترصد فيها هي حالات وافدة من بقية المحافظات.

الملاريا في أمانة العاصمة
عن وضع الملاريا في أمانة العاصمة ختم د. معمر بادي، مدير الرصد والتقييم، أن أمانة العاصمة تعتبر من المناطق التي تقع في ارتفاع أعلى من 2600 متر فوق مستوى سطح البحر، وهذه المناطق، مناطق خالية من الملاريا، كون الناقل لا يتواجد في هذا الارتفاع، ويؤكد بقوله: لذلك لا توجد حالات ملاريا ذات انتقال داخلي في أمانة العاصمة، وعن الحالات المسجلة قال: الحالات التي تم تسجيلها في مرافق أمانة العاصمة، هي حالات وافدة من خارج الأمانة، أو هي حالة من سكان الأمانة، سبق لها أن زارت مناطق موبوءة وأصيبت فيها في فترة أسبوعين إلى شهر من ظهور أعراض الإصابة، وختم قائلاً: وفي سنوات سابقة كان هناك بلاغات من بعض مستشفيات الأمانة تفيد أن هناك حالات مصابة من الأمانة، وعند التقصي وجد أن كل الإصابات إما وافدة، أو حالات أصيبت عند زيارتها مناطق موبوءة، وكان آخر تقرير من أمانة العاصمة هو تقرير 2015، وكان عدد الحالات المسجلة فيه 423 حالة، ولعل حركة النزوح السكاني من مناطق المواجهات والمحافظات التي تعاني عدم استقرار أمني، ستزيد من عدد الحالات المسجلة في الأمانة.