في ظل الصراع الجاري والعدوان المتواصل ضد أمتنا وشعبنا من قبل الإمبريالية الدولية والإقليمية، توجب الوقوف قليلاً أمام خبرات الصراع الاستراتيجي ضد الامبريالية الأمريكية، والصهيونية والاستعمار، وخاصة خبرات كفاح شعوب فقيرة مثل فيتنام وكوبا ولاوس وكمبوديا وروسيا، وكيف تمكنت هذه الشعوب في المواجهات الطويلة مع الإمبريالية الأمريكية الغربية، من تحقيق الانتصارات رغم تباين ميزان القوة بين الطرفين لصالح الإمبريالية، وخاصة تلك الناحية التقنية والتسليحية والمادية. وبالمقابل تعثر شعوب أخرى تملك قدرات وإمكانيات أكبر.
إن عقد المقارنات بين نموذج منها وبين نموذج عربي (العراق) من نماذجنا التي كانت واعدة وقوية وقادرة، وإذا بها تنهار في تجربة التحدي الأولي أمام دولة استعمارية شاخت مشبعة بالأزمات المتنوعة اقتصادياً واجتماعياً واستراتيجياً، وعاجزة عن مواجهة حروب استنزافية طويلة المدى, يثمر الكثير من الدروس المستفادة.
لقد أثبت الفيتناميون البسطاء الفقراء الذين هزموا بشكل متوالٍ امبراطوريتين كانتا في أوج قوتهما، أن شعباً حراً يصمم على الحرية، لهو قادر على هزم الأجنبي وطرده وفرض استقلاله عنوة وغلبة، وليس هناك مستحيل أمام إرادة شعب في أي مكان في العالم. إن تعاليم خبرة الصمود والتصدي والتحدي والانتصارات تثير الإعجاب والإجلال، وتجبر جميع الشرفاء الطامحين لتحرير أممهم أن يتعلموا من مدرسة هذا الشعب البسيط المتواضع القوي الشجاع الجائع، المعتز بكرامته وحضارته، الواثق بقدراته، المستعد للتعلم من خبرات إخوته المقهورين أينما كانوا.
كيف تمكنت فيتنام الشعبية بقيادة العم (هوشي منه)، من كسب ذلك الصراع الدامي الطويل مع الاستعمار (فرنسا وأمريكا)، بينما خسر العراق في ظل وجود توازن للقوى أفضل من الذي كان موجوداً في فيتنام؟! لماذا نخسر نحن العرب صراعاتنا مع العدو وهو الأضعف من زاوية التوازنات والقوى؟ هذا ما نحاول الإجابة عليه هنا..
إن على الوطنيين العرب واليمنيين خاصة، أن يضعوا السؤال، وأن يدرسوا إجاباته جيداً، ويستخلصوا الدروس والعبر والنظريات الثورية الملائمة لحروبنا الراهنة مع العدو الاستعماري بكل أشكاله ومتغيراته النوعية، فلا حرب مظفَّرة دون نظرية علمية استراتيجية صحيحة ومختبرة، خصوصاً وأن بلادنا تواجه الآن أعتى عدوان بربري همجي من قبل مصفوفة من الدول الكبرى والصغرى بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، براً وجواً وبحراً، ويخططون لمواصلة الحرب على بلادنا لأوقات طويلة، يدمرون فيها كامل البنية التحتية، ويفنون جزءاً كبيراً من شعبنا وكوادرنا وجيشنا وشبابنا، وهم يفرضون علينا حرباً لا هوادة فيها، ولا خيار آخر عدا الصمود والمواجهة أو الموت بوفاء وعزة، وشعبنا يمتلك رصيداً مكدساً من الخبرات الحربية الشعبية والنظامية، اكتسبها طوال العقود الماضية في مواجهته مع الدول الاستعمارية المحتلة لبلادنا، في طليعتها العثمانيون والبريطانيون وغيرها من الدول.
إننا نواجه صراعاً وجودياً، وليس مجرد صراع حدود، فهو يستهدف احتلال بلدنا وإخصاع وطننا وتمزيق شعبنا وإفناءه، لكي يعود الاستعمار بأشكاله القديمة الجديدة للسيطرة على هذه المنطقة، وإخضاع أمتنا العربية للهيمنة الصهيوأمريكية، والقضاء على كل أحلام التقدم العربي، والوحدة القومية والبناء والاستقلال، ويحاولون إعادة رسم الخارطة العربية مجدداً نحو مزيد من التقسيم والتجزئة والإمارات والدويلات المتشظية الطائفية والجغرافية والقبلية والسلاطينية، وفقاً لمخطط الكونغرس الأمريكي القائم منذ السبعينيات المقدم في 30 مجلداً أعدته لجنة الشؤون الخارجية للكونغرس برئاسة الصهيوني برنارد لويس الداعي إلى إبادة الأمة العربية عن طريق تشجيع أمريكا للغرب لتقسيم العرب على أسس إثنية، لتأسيس صراعات إفناء دائمة حول الاقتصاد وتأزيمه وتفكيكه وتخريب شروط التنمية والنهوض الاقتصادي الاجتماعي، والتنمية التعليمية والمهنية...، ودفعها دائماً إلى حالة من الديون والاستيراد والاستهلاك الترفي الباذخ، وتصدير قيم ثقافية ومعنوية تحطم النسيج الاجتماعي والأخلاقي والقيمي، وتصدير مقومات وثقافة العنف والجريمة والعصابات والتفسخ الأخلاقي والانحطاط المجتمعي، إضافة إلى خلق صراعات حول الحدود والمياه وغيرها، كما عملت على دعم وتحريض النخب في صراعات عقيمة لا تتوقف ولا تنتهي، وبالأخص تلك الصراعات المرتبطة بالمصالح المادية، واشتغلت كثيراً على تضخيم النزعات والنزاعات الانتقامية والجهوية والمذهبية والعشائرية...، وتضخيم القضايا الجزئية، والتلاعب بالهويات الوطنية الجامعات، وإبراز الهويات الدنيا الضيقة وإعلاء شأنها على حساب القضايا والمفاهيم المصيرية.

 (النموذج الفيتنامي في التصدي والصمود).. استراتيجية المقاومة الشعبية في مواجهة قوات ضخمة متطورة لدولة عظمى 
لقد واجه الشعب الفيتنامي الاستعمار الفرنسي الذي سيطر على الوطن بعد اندحار اليابانيين في الحرب العالمية الثانية، لتقع البلاد تحت سيطرة الاستعمار الغربي - الفرنسي. ومنذ تفجرت الحركة الوطنية المقاومة التحررية، وتكونت بقيادة الحزب الثوري لشعب الفيتنام والهند الصينية برئاسة هوشي منه، وبإسناد السوفييت والمعسكر التحرري، خاضت الجبهة الوطنية والجيش الوطني الشعبي معارك ضارية طوال عقد في ظروف بالغة الصعوبة، غير أن الشعب المكافح كان قد صمم على الحرية مهما كلفه ذلك من تضحيات، وتمكنت القيادة الوطنية من توحيد الأمة كلها حول الاستقلال الوطني.
تمكنت قوات فيتنام الشعبية من إنزال الهزيمة بالإمبريالية الفرنسية عام 1953م، في معركة (ديان بيان فو) الشهيرة، التي تحقق على إثرها انسحاب القوات الفرنسية الغازية من شمال فيتنام، ووقعت على اتفاق يقضي باعترافها بالشمال جمهورية محررة بعاصمتها هانوي. ورغم ذلك، فقد تواصل الصراع في الجنوب الذي بقي محتلاً، وواصلت الجبهة الوطنية بزعامة هوشي منه، والحزب الشيوعي، القتال ضد الاحتلال من العام 1953م حتى مطلع الستينيات عندما شارف الاستعمار الفرنسي على الانهيار، إلا أن الامبريالية الأمريكية سارعت بإرسال قواتها لاحتلال الجنوب وانسحاب فرنسا، وبدأت فيتنام بالقيادة الوطنية بزعامة (العم هوشي منه) والجنرال (جياب)، مرحلة نضالية جديدة في مواجهة الاستعمار الجديد (الاستعمار الأمريكي القوي)، مما حدا بالشعب الفيتنامي في الجنوب والشمال إلى حمل السلاح ضد المستعمر الأجنبي الجديد، في نضال طويل استمر أكثر من عقد حتى مطلع السبعينيات.
قامت النظرية الاستراتيجية للحركة المقاومة على مبادئ الحرب الشعبية الطويلة الأمد التي استخلصها قادة ومفكرو الحروب الشعبية في عدد كبير من البلدان التي نهضت شعوبها لمقاومة الاحتلال والاستبداد، وحققت نجاحات أكيدة في مواجهة دول كبرى وجيوشها الجرارة، وكان أبرزها هزيمة جيوش نابليون بونابرت في روسيا من قبل قوات الشعب المتطوعة: العصابات المسلحة الخفيفة الحركة المموهة باستغلال الجغرافية الوطنية المدروسة جيداً من مقاتلين شعبيين يشنون الحرب السرية الشعبية ضد عدو غريب.
لقد كانت هزيمة نابليون في روسيا ثم في إسبانيا بنفس الطريقة الشعبية، تأكيداً على ظهور شكل للحرب جديد، لم يكن له مثل هذه الأهمية من قبل. كانت هذه الحرب وما شابهها، أهم مرجعية لمنظري الاستراتيجية الحديثة في أوروبا، ثم تبلورت أكثر في حروب المقاومة العربية الجزائرية والمغربية والليبية والسورية والفلسطينية واليمنية، والتي تواصلت طوال القرن التاسع عشر حتى النصف الثاني من القرن العشرين، أمام الإمبرياليات الفرنسية والإيطالية والإسبانية، والتي تحققت خلالها إنجازات كبيرة، أضافت إلى رصيد الفكر العسكري الجديد، ثم جاءت الأعمال الكبيرة من القارة اللاتينية وثوراتها التحررية الوطنية، وأشهرها الانتفاضة المكسيكية والحركة البوليفارية التحررية بزعامة سان بوليفار، ضد الاستعمار الإسباني.
كما أن الثورة الشعبية الصينية الطويلة التي تواصلت لأكثر من نصف قرن من انتفاضات وحروب شعبية في مواجهة الإمبرياليات البريطانية والأمريكية واليابانية، والكومنتانغ والاستبدادية المحلية الداخلية والإقطاعية والرأسمالية البيروقراطية، وذلك بقيادة الزعيم (ماو تسي تونغ)، والحزب الثوري الصيني، تمخض عنها بقيادة (ماو تسي تونغ) عمل نظري علمي وعملي وفلسفي جبار، بدراسة وبحث الحروب الشعبية وتاريخها، واستخراج قواعدها وقوانين حركتها، وقدمها في مباحث تعليمية للكوادر القيادية لجيش التحرير الصيني الذي يحوض المعارك ويتعلم الاستراتيجية وفنونها من خلال تحليل الحملات والاشتباكات والحروب الجارية والسابقة؛ فكانت الثورة الصينية ودروسها وخبراتها قد أنضجت نظرية الحرب الشعبية الوطنية، وقدمت نماذج لا تبارى، في تصادم جيوش تعد بالملايين، فكانت النظرية خلاصة التجربة المباشرة.

ما الأسباب التي ساعدت الثورة الفيتنامية على كسب حرب معركة التحرر الوطني؟
هناك مجموعة من الأسباب، يبقى أهمها، هو توفر القيادة الاستراتيجية والتكتيكية الناضجة، ممثلة بالزعيم (هوشي منه)، وقائد الجيش الوطني الشعبي الجنرال (جياب). كان (هوشي منه) قائداً وطنياً شعبياً وثورياً كبيراً، ومؤهلاً ليجمع بين القدرات السياسية والعسكرية وفنون الحرب الوطنية. وكان اشتراكياً التحق بالحزب الشيوعي الفرنسي في باريس، عن طريق مجموعة عمال البحر المنضمين للحزب الشيوعي الفرنسي فوق الباخرة الفرنسية التي يعملون بها، وكان الحزب الفرنسي حينها يمثل طموحات البروليتاريا الفرنسية وشعوب المستعمرات المقهورة، وكان يحارب استعمار دولته الامبريالية الفرنسية، وينشر موقفه علنياً مدافعاً عن موقفه الأممي، مما حدا بالفيتناميين الاشتراكيين إلى الانتماء للحزب الشيوعي الفرنسي أولاً.
في 1917م نجحت الثورة الروسية في أكتوبر، ليقرر (هوشي منه) ورفاقه الشيوعيون الفيتناميون أن الظروف في تفجير النضال الوطني في البلاد ضد المستعمر الفرنسي الأجنبي قد توفرت بولادة أول دولة اشتراكية أممية في العالم، والتي أعلنت دعمها لثورات التحرر الوطني وثورات المستضعفين والمظلومين في العالم، بقيادة (فلادمير لينين)، الذي رفع شعار: (يا عمال العالم ويا أيتها الشعوب المضطهدة اتحدي).
قرر (هوشي منه) السفر إلى موسكو عاصمة الثورة البلشفية، والتقى هناك بلينين وبقية القادة البلاشفة الذين قرروا دعم الثورة الفيتنامية وثورة شعوب الهند الصينية، وبهذا تشكل الحزب الشيوعي الموحد لشعوب الهند الصينية بزعامة هوشي منه، وجرى توحيد النضال بين شعوب البلدان الثلاثة: (كمبوديا ولاوس وفيتنام)، وتشكلت جبهة وطنية موحدة لتحرير فيتنام والهند الصينية، وخاض الشعب بزعامة الحزب الثوري الكفاح ضد الاستعمار.. وقد ترافقت الحركة التحررية الفيتنامية مع نهوض حقبة الأربعينيات، وسقوط النظام الاستعماري الفاشي في اليابان وألمانيا، وتأسس المعسكر الاشتراكي وحركة التحرر العالمية ومكافحة الاستعمار العالمي. وهكذا تواصل النضال ضد الاستعمار الأمريكي حتى مطلع السبعينيات.
 مثلت المعارك مع الفرنسيين فرصة كبيرة لتدريب الحركة الوطنية بامتلاكها دروساً في المواجهات الكبرى، ما ساعدها على مواجهة جيوش الإمبريالية الأمريكية لاحقاً.

الحرب ضد الاحتلال الأمريكي.. الاستراتيجية والتكتيك
اتبع (هوشي منه) الطابع الدفاعي في الشمال، والدفاع عن الجمهورية الاشتراكية المحررة التي تعرضت للقصف الأمريكي الجوي، بينما تم تنظيم الهجوم في الجنوب بقيادة (جبهة تحرير جنوب فيتنام)، التي اشتهرت في الغرب باسم (الفيتكونج)، قائدة الثورة التحررية في الجنوب.
عمل الأمريكيون على تطبيق سياسات تقسيمية داخلية باسم (فتنمة الحرب)، أي دفع الشعب الفيتنامي إلى القتال بالنيابة عن الأمريكيين، فشكلت منظومة تابعة من الإقطاعيين والرأسماليين الطفيليين (القوى الرجعية التي يكرهها الشعب الفيتنامي)، فتعاونت تلك القوى الرجعية مع المستعمر، وأقام منها جيشاً وحكومة عميلة، وأنشأت جيشاً لمحاربة الفيتناميين الوطنيين. وكذا في بقية مناطق الهند الصينية، اتبع ذات التكتيك الاستعماري.
بدأت الولايات المتحدة تخوض حرباً ضد الشعب الفيتنامي بجانب تلك القوى، وأرادت أن تصور للرأي العام العالمي أن الصراع هو فيتنامي - فيتنامي، وأنها استجابت لدعوات الحكومة الشرعية لحمايتها من (التوسع الشيوعي).
(جبهة التصدي والتحدي)
أقام العم (هوشي منه) وقيادة الثورة جبهةً تحررية واسعة، ضمت جميع الوطنيين المعادين للاستعمار الأجنبي من كل القوى والاتجاهات الدينية والسياسية والاجتماعية المحبة للوطن (كل الاتجاهات من بوذيين ومسيحيين وماركسيين وإقطاع وبرجوازية وطنية... الخ)، كما استفاد هوشي منه من توازن القوى الدولية الجديدة.

التشخيص الصحيح للتحدي
اعتبر (هوشي منه) أن المعركة ضد الاستعمار الأمريكي والغربي، هي معركة عالمية جديدة، تخوضها القوى الامبريالية الدولية الكبرى ضد الشعوب، ومعها كل القوى الرجعية المحلية والإقليمية، وفي المقابل تواجهها قوى التحرر الوطني والمعسكر الاشتراكي وحركات التحرر العالمية والعمالية والتقدمية في جبهة واحدة. وهذه هي طبيعة المعركة الحقيقية وتوازنها، فبقدر ما هي ضد الامبريالية، بقدر ما هي معركة موجهة ضد الرأسمالية العالمية، أي أخذت طابعاً ازدواجياً جدلياً ضد المنظومة الاستعمارية سياسياً واقتصادياً ضد أسلوب ونمط الإنتاج الرأسمالي الذي لم يعد قادراً على البقاء والاستمرار في ظل الرفض المحلي له، وبالتالي تحول إلى استعمار لشعوب أخرى واستغلال ثرواتها وإبقائها في حالة التخلف، ناقلاً إليها أزماته. ولذلك أقدم هوشي منه بعد تحقيق الاستقلال للشمال، على إنجاز الثورة الاشتراكية فيه، ووضع أساس اقتصادي واجتماعي للصمود الوطني، بحيث توجه كل الموارد للدفاع عن الوطن والتحرر، كما جرى توزيع الأرض للفلاحين وجيش التحرير الوطني، وتوحيد الصناعة تحت قيادة الدولة الاشتراكية التي خططت لتلبية احتياجات المعركة الوطنية التحررية وصمود الجمهورية، كما عزز علاقات التعاون والتعاضد مع البلدان الاشتراكية التي دعمته بالأسلحة ووسائل الدفاع الوطني والصمود الاقتصادي والخبرة العلمية والتقنية. 
وقد واجه استراتيجية الامبريالية القائمة على الأرض المحروقة و(فتنمة الحرب) وسياسة الاحتواء والردع المرن والردع القوي، باستراتيجية فعالة تعتمد الواقعية والعزم الوطني، إذ قامت على ركيزتين رئيسيتين: أولاً، تعزيز قوى الدفاع الوطني في الشمال لمواجهة القصف الجوي الهائل وتأمين قاعدة الثورة، وثانياً، تعزيز قوى الجيش الشعبي وخوض المعارك الشعبية في الجنوب، وقد تم الجمع بين حرب العصابات الماوية والجيش النظامي الكبير، بشكل مبدع، وإطلاق جبهة سياسية إعلامية دعائية دولية وإقليمية، فضحت المستعمر بشكل فعال ومؤثر، نجحت بنقل أثر الحرب إلى مجتمعات الاستعمار نفسه.
وعلى المستوى الميداني، أقامت القيادة الوطنية شبكة واسعة من منظومات الدفاع والنضال الشعبي: أولاً، شبكة الدفاع الذاتي، وتشمل نظاماً للدفاع الذاتي في جميع القوى ومناطق فيتنام بشكل كامل، فيتم في كل قرية تنظيم ميليشيا مسلحة للدفاع عن الوطن ومحاربة المستعمرين، وتصفية القوى العميلة في كل القرى والمناطق، وتنظيف البنية الشعبية من خلايا التخريب الأمني والسياسي ومن كل القوى المعادية للثورة أو المتعاونة مع العدو، وذلك لضمان تماسك الجبهة الداخلية وتأمين أسرارها. وتنتشر هذه الميليشيات في جميع القرى والمناطق الفيتنامية الخارجة عن سيطرة القوى الاستعمارية، بينما ترتبط هذه القرى بقيادات إقليمية وجغرافية على مستوى مركزي إلى أعلى قيادة الثورة والجيش الشعبي، ومنها تتشكل فصائل حروب العصابات المتخصصة الريفية، كما يشترك في هذه الميليشيات كل من هو قادر على حمل السلاح من أبناء الشعب نساءً ورجالاً.
ثانياً: بنيت إلى جانب هذه الشبكة عدة شبكات، ومنها شبكة تسمى (فصائل العمل) أو (البناء الوطني) الإنشائي، مهمتها حفر الخنادق والأنفاق وإقامة الجسور وإصلاحها بعد تدميرها، وتأمين شبكات الاتصالات والقواعد تحت الأرض، وبناء ممرات تربط الشمال بالجنوب والمدن بالأرياف وقواعد آمنة تحت الأرض، وهكذا. فكان يوجد في كل قرية شبكة من الأنفاق لمواجهة القصف والهجمات، ولتأمين التمويل اللوجستي والتسرب والانسحابات السريعة والهجمات المباغتة والالتفافات.
ثالثاً: الكتائب والفرق والألوية العسكرية المحترفة التي اكتسبت خبرات عالية في حروب العصابات مع المستعمر، وتلقت تعليماً أصبحت فيه محترفة، تنتقل إلى فرق الجيش الدائم الوطني، المتركز في محاور رئيسية لمواجهة تقدم القوات الكبيرة، وترتبط مركزياً بقيادتها على مستوى المحافظات والجمهورية.
رابعاً: أقامت تنظيمات سرية من القوات الخاصة (الفدائيين والكوماندوز) التي تدفع للعمل خلف خطوط العدو في المدن التي يسيطر عليها الاستعمار (في الجنوب والمناطق الساحلية)، حيث يندسون بين العملاء وفصائل الجيش التابع والعميل، ومهمتها هي التجسس وجمع المعلومات وتخريب البنية التحتية للعدو وضرب العملاء وتصفية الجواسيس وتدمير وتخريب المعسكرات ومهاجمة العدو وبث الدعاية المعاكسة ونقل المعلومات.



الحلقة الثانية
قواعد المواجهة الثورية لدى القيادة الفيتنامية
استخلصت قيادة الثورة تجارب وخبرات الحروب والثورات السابقة والراهنة، والخروج بمجموعة من الدروس والقواعد النظرية لمواجهة الاستعمار على صعيد التكتيك الميداني التجريبي، وعلى الصعيد الاستراتيجي العام.
1- تحييد وسائل تفوق العدو المتطورة (الطيران الأمريكي المتطور الذي كانت أعداده بالمئات، ومتطوراً من فئة بي 52 وطائرة الفانتوم وغيرها).
2- تجنب المواجهات الكبيرة والمباشرة مع العدو حينما يكون مستعداً وكبيراً.
3- توجيه الضربات من أجنابه ومؤخراته، وشؤونه الإدارية وطرق الإمداد، كونها أضعف نقاطه، وأيضاً استدراجه إلى كمائن في الغابات والأدغال.
4- تطبيق مبدأ (ماو) القائل: (واحد إلى عشرة في الاستراتيجية وعشرة إلى واحد في التكتيك)، أي في المعركة، وهذا يعني ضمان التفوق العددي دائماً في المواجهة، وحشد أكبر قوة بشرية ممكنة في مواجهة فصائله وأجزائه المنعزلة والضعيفة، إذ يتحقق من ذلك سحق كامل وسريع، ومواصلة الحركة والتنقل نحو أجزاء أخرى بكامل القوة والإطباق عليها بذات المنوال، أو تحقيق الانسحاب السريع بدون خسائر في حالة المواجهات الاستنزافية أو غير المجدية، مع الحفاظ على عامل المباغتة والمبادرة.
5- اتباع قواعد الحرب الشعبية الطويلة المدى. وتقوم هذه القاعدة على إعاقة استراتيجية العدو القائمة على الحرب الخاطفة السرعة، وإدخاله في حالة استنزاف دائم، وتطويل خطوط اتصالاته وإمداداته، بتعريضه الدائم للهجمات الخلفية، التي تدعوه لتوزيع كميات من القوة لديه لأعمال الحماية، فيجعله ذلك مشتتاً، وتصبح قواته أهدافاً سهلة.
6- توظيف العدد أو الكمية البشرية للشعب في التجنيد للتفوق على التنظيم التقني والإداري النوعي للجيش المعادي.
7- استخدام الأرض بشكل جيد وشامل، فتتحول الأرض إلى نيران دائمة تحت أقدام العدو، وعدم السماح لهم بالشعور بالاطمئنان أو التعاون معهم، وجعلهم في حالة عزلة وارتياب دائم.
8- بناء قواعد دائمة تحت الأرض وبناء شبكات الأنفاق وإخفاؤها جيداً من العدو وعملائه، واعتماد السرية المطلقة، وإقامة موانع وفخاخ ومصدات معيقة لتقدم العدو وعرباته في كل الطرق المتصلة بقواعده، بحيث لا يستطيع العدو استخدام الطرقات، وكذا مد شبكات أنفاق تحيط بالقواعد الخاصة به، الأمر الذي يجعله في حالة حصار مطبق دون علمه.
9- إقامة قيادات إقليمية مستقلة نسبياً تدير المعارك التكتيكية اليومية، بينما تقوم القيادة المركزية بالتخطيط والإعداد للمعارك الاستراتيجية.
10- تحييد التفوق الجوي أو تركيز الدفاعات التقليدية. أي جعل القوات الجوية الاستراتيجية الضخمة عاجزة عن تحديد أهدافها بدقة، وذلك بإخفاء وتمويه كل المعالم على الأرض، وحشد كميات كبيرة من المضادات الجوية التقليدية بأنواعها، والقادرة على ضرب أي تدخلات جوية قريبة في موقع مركزي واحد، كما يتم إعمال إجراءات امتصاصية للضربات الاستراتيجية الخارجة عن مدى الدفاعات المتوفرة، وذلك باستخدام الأرض وما توفره من إمكانيات للحفر والتمويه والتغطية، من بناء سواتر رملية عازلة وكبيرة تمتص الضربات، والحفر، واستخدام حقول الطين والمياه والمستنقعات والغابات، وغيرها.
11- إقامة خطوط دفاعية، ففي العاصمة (هانوي) وغيرها من المدن الرئيسية في الشمال، تم إقامة مجمعات دفاعية صاروخية ضد الطائرات، حشدت فيها آلاف المضادات الجوية في منطقة واحدة (خمسة إلى ستة آلاف صاروخ ومدفع) لمواجهة الهجمات الكثيفة للطيران، وكان هذا التكتيك هو أخطر تكيتيك فعال، نجم عنه سقوط آلاف الطائرات (73 ألف طائرة من مختلف الأنواع، وأكثرها المروحيات، كسلاح مضاد رئيسي في الغابات والأدغال والقتال الأرضي).
لقد تحمل الشعب الفيتنامي التدمير والقصف الدائم للمدن والمصانع والمزارع والبنية التحتية، وظل تحت النار ليلاً ونهاراً تصب أمريكا عليه (النابالم) - وهو سلاح خطير حارق لكل ما هو حي- والأسلحة والغازات الكيميائية والصواريخ العنقودية والقنابل الكبيرة والمضادة للتحصينات، وأخرجت من مخازنها أحدث الأسلحة التي تفوق قوة ما استخدم في الحرب العالمية الثانية، ليذهب ضحيتها الملايين من الشعب الفيتنامي. ومع ذلك، فقد صمد الشعب في القتال والبناء في وقت واحد، وواصل البناء الوطني من مصانع ومزارع في ظل القصف، وأثبتوا بعنادهم وببسالتهم من البطولات ما لا يمكن وصفه، ومن الأمثلة الشهيرة على ذلك، تم نسف الجسر الرابط لضفتي نهر الميكونغ (وهو الطريق الرئيسي بين قسمي الإقليم) 83 مرة، كان الطيران يقصفه نهاراً، والشعب يبنيه ليلاً وينتقل عليه، وهكذا حتى مل الأمريكيون من القصف واستهلاك القذائف. وهذا مثال على صلابة إرادة الشعب الفيتنامي، كما أقاموا نفقاً يمتد مسافة 800 كيلومتر تحت الأرض، يربط بين الشمال والجنوب، عَمِلَ لإنجازه 500 ألف مناضل في زمن قياسي مذهل، والأدهى أن الأمريكيين لم يكتشفوه إلا بعد انتهاء الحرب، حين تحدثت فيتنام نفسها عنه، وقد كان يعد نفقاً رئيسياً لنقل القوات والإمكانيات وخزن الأسلحة، وشيدت داخله المستشفيات ومراكز القيادات ومعاهد تربية وبناء وتدريب وورش إصلاحات وتصنيع.. يسمى هذا النفق (طريق هوشي منه)، وهو عبارة عن شبكة متكاملة, وفيه بنيت قرى بكاملها كقواعد سرية للثورة في الأرياف والمدن، كما أنشئت أنفاق وشبكات أخرى تحيط بالقواعد الأمريكية, فكانت القوات تفاجئهم بالخروج من تحت الأرض في عمليات مباشرة للهجوم والانسحاب السريعين، دون معرفة المستعمر مكان القدوم والانسحاب. وهذا كبد القوات الأمريكية والعميلة الكثير من الهزائم.
حتى مطلع السبعينيات كانت أمريكا قد أنهكتها الهزائم في فيتنام، فاضطرت إلى طلب المفاوضات، والاعتراف بالجبهة الوطنية، والمطالبة بالخروج الآمن للقوات، فتمت المفاوضات في جنيف.
إنه لمن الصعب الإلمام بتفاصيل الانتصارات والبطولات التي سطرها الأبطال الفيتناميون. في السبعينيات خططت الجبهة للهجوم الكبير الشامل الذي استهدف اجتياح كافة المحافظات والمناطق الريفية، لتطويق العاصمة الجنوبية (سايغون)، مما دفع القوات الأمريكية إلى الفرار، حينها تناقلت وسائل الإعلام الأوروبية صوراً كان لها الأثر البليغ لاحقاً في النفوس الأمريكية خاصة، لقد نقلت صوراً للجنود الأمريكيين وأتباعهم وهم يحاولون التعلق بأجنحة الطائرات، ويتزاحمون فيها بهلع مزرٍ.
انتصرت الثورة الفيتنامية، ووقعت أمريكا اتفاقات التسليم وتحمل مسؤولية الحرب والتعويض مقابل خروج قواتها سليمة، بإشراف وضمانات مجلس الأمن الدولي، وتم توحيد فيتنام وإعادة بنائها بشكل أجمل مما كان.
توفي الزعيم (هوشي منه) عام 1969م، ولم يشهد نتائج المعركة التي كان واثقاً من كسب الشعب الفيتنامي لها، وواصلت قيادة الحزب والجيش خطى (هوشي منه) برئاسة ليذوان والجنرال جياب، وحظيت بالدعم الشامل من كل القوى المحبة للسلام والحرية والعالم (وفي مقدمتها بلاد السوفييت والصين).

القيادة العراقية تدير الصراع..
• لماذا كسب صراع هوشي منه ورفاقه، بينما خسر العراق وصدام حسين في العام 1990؟ إن تحليل هذه القضايا مفيد لتكوين النظرية الوطنية الثورية.
• هل كانت خسارة صدام للصراع ضد الامبريالية الأمريكية محتمة ولا بد منها، أم أنها ناتجة عن اختيارات القيادة والتكتيك الذاتي وأخطائه في الإدارة الاستراتيجية؟ 
• ألم يكن ممكناً تحقيق حلول أو مساومات تمنع حدوث الكارثة؟
• ألم يكن ممكناً الحفاظ على القدرات الدفاعية العراقية؟ لا سيما أن هناك سبلاً عديدة كان يمكن اتباعها –أساليب جديدة يمكن للقادة الاختصاصيين أن يبتدعوها– توظيفاً ملائماً للإمكانات العراقية المتوفرة، والتي كانت كبيرة جداً– تمكن أية قوة وأي شعب من الصمود؟
• أين تكمن المشكلة الذاتية التي أوصلت إلى هذه النهاية؟ هل هي في شخص القائد أم في النظام السياسي والفكر الاستراتيجي والخلفية الثقافية والرؤى؟ أم أنها ناتجة عن كل هذه العوامل مجتمعة؟ علماً أن توازنات القوى المادية مختلفة, إذ امتلك صدام ثالث أكبر ترسانة عسكرية في العالم (عشرة آلاف دبابة ومدرعة وألف طائرة حربية ومتنوعة وألف مدفع ومليون جندي)، وخبرة عسكرية في حروب طويلة كانت آخرها الحرب مع إيران.

طبيعة الصراع
أولاً: لم يدرك صدام وقيادة العراق الطبيعة الحقيقية للصراع الموجه ضد وطنهم، فاعتقدوا وفقاً لما هو ظاهر في الصورة، أن المشكلة هي قضية حدود مع الإمارة الكويتية المجاورة، وأن أمريكا ليست طرفاً فيه، وإنما داعمة فقط. هذا الفهم للصراع جعل صورة الصراع في الفهم القيادي على غير حقيقته الجوهرية، الأمر الذي أوقع المنظومة الاستراتيجية والخططية كلها في الخطأ، لأنها عالجت أو تصدت لصورة صراع ليست هي صورته الحقيقية المختفية خلف الأشكال الظاهرية والبادية على السطح. وهذه هي الثغرة الأولى في منظومة البناء الاستراتيجي الخاطئ للرئيس صدام في المواجهة.
لقد سبق لجميع منظري الحرب والصراعات في العالم من كلاوفيتش إلى ليدل هارت، وصولاً للجنرال بوفر، وأغلب الاستراتيجيين، أن حذروا القادة ورجال الدولة من الوقوع في الفهم الخاطئ لطبيعة الصراع أو الحرب التي يخوضونها، لأن الفهم الخاطئ لطبيعة الحرب يؤدي إلى اتباع سياسات واستراتيجيات خاطئة لا تتطابق مع التحديات الحقيقية الكامنة على الأرض، فيحدث أن تضطرب القيادة بالمفاجآت وظهور تحديات (الحقيقة) غير مستوعبة في الاستراتيجية والخطط النظرية، مما يؤدي إلى صعق واندحار القوى، أو الاستجابة لها بشكل فوضوي أو مضطرب يتسبب بفتح الباب أمام الخسائر المتوالية.
إن فهم الحرب وتحديد طبيعتها يسمح للقائد بالاختيار السليم بين خوض الحرب وبين التراجع عنها، ويستطيع تحديد الأسلوب مسبقاً: إما أسلوب الدفاع أو الهجوم، أو أسلوب المفاوضات، أو الدمج بين الأساليب السياسية والدبلوماسية والميدانية.
ففهم طبيعة الحرب يعني الفهم الواقعي لطبيعة العدو الرئيسي، وعدم الخلط بين الوكلاء الإقليميين وبين العدو ذاته على الأرض. وعدم الفهم لطبيعة الحرب يجعله غير قادر على التمييز بين العدو الحقيقي الذي سيكون على الأرض، والعدو الوهمي أو الصوري (الاستفزازي) المؤقت.
كما أن عدم إدراك الطبيعة الحقيقية للحرب، يجعلها على غير حقيقتها سلباً أو إيجاباً في رأس القادة، ويجري النظر إليها دون المستوى الواقعي لها، مما يسحق طاقته في الميدان الواقعي.. (راجع تحذيرات كلاوفيتش: الوجيز في الحرب).
ثانياً: إن عدم فهم طبيعة الحرب يؤدي إلى عدم فهم التحالفات الضرورية لخوضها، وأيضاً عدم استيعاب الأطراف الاستراتيجية في الحرب (ذوي المصلحة أو الأضرار)، فينتج أن يتم إسقاطهم من الرؤية الاستراتيجية للحرب. وطبيعة الحرب الحديثة في عهد الإمبريالية، هي عكس ما كانت عليه في الماضي، بعد أن أصبح العالم كله مقسماً بين القطبين الكبيرين، حيث يحكم العالم حلفان عسكريان سياسيان وأيديولوجيان وطبقيان واجتماعيان واستراتيجيان، ولم يعد في الواقع وجود دول منفردة، ولم يعد باستطاعة أية دولة منفردة أن تحافظ على استقلالها بعيداً عن أطماع وتأثير ونفوذ كلا المعسكرين المتواجهين والمتنافسين. 
وفي مواجهة الامبريالية أو أية دولة من معسكرها، تبرز إلى الوجود هذه الإمبريالية كلها كحلف، فكل مواجهة مع إحدى دولها تعتبر استهدافاً للحلف بأكمله، وتستثير تدخله، ومن ثم يستتبع ذلك بالضرورة حلف دولي يقوم في مقابل هذا التكوين التحالفي، كما أن الدويلات الصغرى في المنطقة هي ليست دولاً حقيقية مستقلة، وإنما هي عبارة عن أغطية محلية لشرعنة وجود الإمبريالية العسكرية وسيطرتها، ومن ثم، فهي مجرد وكيلة أو أجهزة وظيفية، وكل استهداف لأي منها يقابل بحلف إمبريالي دولي كامل.
ثالثاً: إن عدم استيعاب الدور الإمبريالي للصهيونية في المنطقة باعتبارها قاعدة استعمارية تمثل أطماع الامبريالية كلها، وهي المسؤولة عن أمن المصالح الاستعمارية في البلاد العربية، ولا يمكن لحكومة عربية أن تكون صديقة للإمبريالية ومعادية للصهيونية أو في مواجهة معها، فكل عداء للصهيونية أو مواجهة لها هو عداء للاستعمار والامبريالية لا يمكن قبوله.
رابعا: إن المواجهة مع الاستعمار والصهيونية في أي بلد عربي، تصبح مستحيلة، وتقود إلى الفشل إذا لم يسبقها ويصاحبها إسقاط للطبقة الكولونيالية البيروقراطية الكمبرادورية والرأسمالية الطفيلية والإقطاع والاستبداد والفساد، والتي تشكل قاعدة امتدادية محلية للرأسمال الإمبريالي الأجنبي، مما يوجه طعنات من الخلف ومن القلب لكل تحرك وطني في الداخل لمواجهة الصهيونية والإمبريالية الأمريكية الغربية بشكل موضوعي، والسبب هو تداخل المصالح الاقتصادية والأرباح الطفيلية التي تنميها الأوضاع البيروقراطية في الداخل، وهذا ما حدث في الكثير من الثورات العربية التي أخفقت في مواجهة الامبريالية الغربية، ففي مصر جرى الانقلاب على الثورة بزعامة السادات، وفي ليبيا حصل تراخٍ وتراجع عن القضية القومية والاجتماعية الثورية السابقة، وفي السودان حصل أيضاً ارتداد عن البعد القومي، وتحول خليفة الدين إلى ميسر لنقل يهود الفلاشا (يهود الحبشة) إلى فلسطين، وفي العراق أيضاً نفس الشيء.
لقد كانت هذه الطبقة هي التي دفعت إلى التعاون مع الإمبريالية الأمريكية ضد إيران أولاً في حرب استمرت ثماني سنوات، أنهك خلالها العراق اقتصادياً لصالح أمريكا وأمراء النفط وإسرائيل التي كانت ترتعد من الثورة الإيرانية والعراقية معاً، فحرضت أمريكا العراق على شن الحرب على إيران، وأدى ذلك لتراكم ديون عراقية تساوي 130 مليار دولار، من دون الخسائر البشرية والخسائر الكبيرة في البنية التحتية وغيرها، وأدى ذلك بالعراق بعد الحرب إلى مستوى اقتصادي متدنٍّ جداً، بينما حققت الأقلية المالية الكثير من الأرباح الخيالية، الأمر الذي أنتج حالة إفقار للشعب العراقي، وتدني العملة والمداخيل الحقيقية للشعب، وأصبح الشعب على شفا ثورة. عندما رأت الأقلية البيروقراطية المالية أن الأزمة الاجتماعية تقود إلى تغيير النظام، وأنه قد استنفد طاقاته, عملت على حبك المؤامرات والدسائس، ودفع الحكم إلى التوسع على حساب جيرانه، وافتعال صراع وحرب إقليمية، وهذا بالضبط ما تم التخطيط مسبقاً له من قبل الإدارة الأمريكية والإسرائيلية، وهو أن يتم استفزاز العراق وإذلاله وإفقاره بغرض دفعه للقيام بمغامرات متهورة تشكل خطراً على جيرانه الخليجيين الصغار، مما يخلق ذرائع دولية لتدخل الغرب واحتلال المنطقة ومحاصرة العراق حصاراً شاملاً وتدميره بالقاذفات الضخمة واستنزافه تمهيداً لاحتلاله وإعادة تقسيمه وتفكيك بنيته العسكرية والاقتصادية وتدميرها بشكل كامل. وهذا ما جرى لاحقاً. وما ساعد على نجاح هذا المخطط هو سيكولوجية الرأس الحاكم ونزعاته التي مكنت العدو من تمرير خدعه وفخاخه بمرونة عالية.
كانت القيادة العراقية (وصدام) تدير صراعاً كأنها لا تعرف أبعاده ولا مضامينه ولا طرفه الآخر، كما أنها وقعت في عدد من الأوهام السياسية والأيديولوجية، وهي:
اعتقادها بأن الطرف الرئيسي في الصراع هم أمراء الكويت والإمارات، وواقعياً لم يكن هؤلاء سوى مخالب القط فقط أو حراس النفط، أما المدبر الحقيقي في الحرب هي أمريكا وإسرائيل بدرجة رئيسية (والرعب الإسرائيلي من العشرة آلاف دبابة والألف طائرة والمليون جندي). وبذلك أقدم صدام حسين على احتلال الكويت، متوهماً أن الغرب لن يقوم بالتدخل نتيجةً لتحالفاته مع أمريكا، والغرب ضد إيران، متوهماً أنه صار حارس أمن الخليج بدلاً عن الشاه الذي كان يعتبر حارس وعصا أمريكا وإسرائيل في الخليج والجزيرة، وأن أمريكا ودول الغرب ستعتمده كشرطي للمنطقة، وتلحق به الدويلات الصغيرة.
كان هذا الوهم يتم الإيحاء به من قبل الدبلوماسيين ورجال المخابرات الأمريكية والرُّسل الخصوصيين، كما تدفع إلى تصديق هذا الوهم والترويج له الكمبرادورية في الداخل، ولتعزيز هذا الوهم والتناغم معه، راح صدام يضرب الاتجاهات اليسارية والديموقراطية في الداخل، وأبرزها حملة تطهير قام بها عام 1978م، وما تلاها من إعدامات وتصفيات لقيادات كبيرة جداً من حزب البعث القومي الذي كان يعارض التقارب مع الغرب على حساب القضايا القومية، وعلى حساب سوريا وإيران وفلسطين، كما راح صدام يضعف علاقاته بالمعسكر الاشتراكي، ويسيء إلى مواقفهم، ويتجه نحو البلاد الغربية للحصول على السلاح والبضائع، وفعلياً أصبح العراق أكبر سوق استهلاكية في المنطقة للبضائع الأجنبية الغربية المدنية والعسكرية. كل هذا كان ضمن وهم التقارب والصداقة مع الأمريكيين والغرب. كل هذه الأوهام تمت الإطاحة بها بعد دخوله الكويت، فتجمدت حركته، وانحصرت في مسألة المطالبة بالمبالغ المالية (10 مليارات يطالب بها نقداً و30 ملياراً يطالب بإسقاطها من الديون)، والمطالبة ببعض الأراضي الحدودية. أي أن الهدف من الحرب على الكويت أصبح هدفاً توسعياً ومغامرة.



الحلقة الثالثة
لماذا وقع صدام في هذه الأوهام؟
الخلفية الاجتماعية للحرب والأزمة والنظام.. استبداد، دكتاتورية بوليسية، نزعات شوفينية، عصبويات فاشستية وطبقة كولونيالية.
إن التناقضات المستعصية على الفهم التي وقع فيها المهيب صدام حسين، يصعب على المنطق الفكري استيعابها أو قبولها، فمن الوضوح والبداهة هي لا تحتمل الأوهام، ولكن تفسير الأمر يتضح من خلال العودة إلى الخلفية الاجتماعية للنظام.
إن الشرائح الاجتماعية الطفيلية المنحدرة من البيروقراطية العسكرية الإدارية والسياسية التي سيطرت في ظل حكم مركزي بوليسي شديد بالاستبداد والفردية المرتبط بتأليه الأشخاص والزعماء والقادة وإصباغ القداسة عليهم، كان قد تحول خلال عقود من السيطرة المالية على الدخل القومي العراقي والاستحواذ عليه من قبل شريحة نافذة في السلطة وفي الاقتصاد التجاري نمت على هامش القوى البيروقراطية النافذة حولها وفي صلبها وتداخلت معها وشكلتا معاً طبقة جديدة هي البيروقراطية الكمبرادورية: وهي شريحة رأسمالية طفيلية كولونيالية مرتبطة بالمؤسسات التجارية الأجنبية والشركات، وكانت هذه الشريحة أو الطبقة قد عملت طوال العقود السابقة على زحزحة التيار البرجوازي الصغير والوسطي وبقايا البرجوازية الوطنية (الحرفية والزراعية) لصالح الشرائح البيروقراطية الجديدة التي يتزعمها آل مجيد وطلفاح, والتي يعود إليها الباعث الأساسي لنمو الاتجاهات الفاشية المتعصبة وروح التعصب القومي وكراهية القوى الوطنية الشعبية التحررية، والناقمة والرافضة لمشروعات الوحدة الوطنية في الداخل، والمقوضة للجبهة الوطنية المتحدة التي كانت تضم الاتجاهات الوطنية اليسارية والقومية والشعبية لثورة تموز العراقية الكبرى، وتصفية هذه الجبهة واعتقال قادتها ومطاردتهم وذبح عشرات من كوادرهم في الجيش وفي الإدارة وفي المجتمع، وتصفية الاتجاهات التقدمية داخل قيادة البعث العليا أمثال البكر... الخ، والذين كانوا متبنين للجبهة الوطنية والقومية ومشروع توحيد الجبهة الشرقية لمواجهة إسرائيل، ويرون بأن الأولوية في الصراع هو ضد إسرائيل.
كانت هذه الشريحة البيروقراطية التي راحت تنمو مستغلة زعامة صدام حسين ونزعاته الفردية الدكتاتورية (أسطورة نبخذنصر)، قد راهنت عليه في السيطرة على العراق وإجراء سلسلة من التراجعات الاجتماعية والاقتصادية لصالح الطبقات التي تضررت من الثورة، وفتح الباب واسعاً أمام الرأسمال الغربي الأمريكي، والعمل على إعادة دمج الرأسمالية الطفيلية المنحدرة من الإقطاعيين وكبار التجار والموظفين الكبار، والمسيطرة على جهاز الدولة، ودمجها أكثر فأكثر في نطاق الرأسمالية العالمية. وهذا كان يقتضي منها إحداث نقلات كبيرة في علاقة النظام بحلفائه القدامى (اليساريين والمعسكر الاشتراكي)، وكانت المذابح المستمرة التي يجريها نظام صدام (وتشمل الفئات اليسارية التقدمية والمعارضة الوطنية الشيعية والكردية) بشكل دوري، بمثابة رسائل اعتماد للغرب والتقرب منه واختلاق الأسباب والمناسبات لافتعال الصراع مع الأصدقاء والحلفاء وإثارة الضغائن والعصبيات العرقية والمذهبية والإثنية، بهدف تشتيت توجهات الشعب والمجتمع، ومنع وحدته، أو الالتفات إلى القضايا الحقيقية التي تواجهه، وخاصة بعد الحرب، إذ تأزمت الأوضاع الاقتصادية للشعب حين أكلت الحرب مليونين من أبنائه, وتعرض الاقتصاد للديون الهائلة وعجز الموازنات والارتفاع الهائل لخدمة الدين، والذي بلغ 130 ملياراً، يتضاعف نتيجة زيادة خدمات الديون المتأخرة. وكانت البطالة تشتد، والفقر يزداد، وأصبح الشعب العراقي يتململ وينذر بتحركات شعبية واجتماعية تعيد تصحيح الأوضاع الاقتصادية المختلة، وإعادة توزيع الثروة، فقد ظهرت طبقة صغيرة فائقة الثراء في مواجهة ملايين الفقراء من الجنود والموظفين والمزارعين الصغار (الذين تدمر اقتصادهم نتيجة استيراد البضائع الأجنبية بالدرجة الأولى ثم الحرب) والجماهير الشغيلة بشكل عام من كل القوميات العراقية (العرب والأكراد... الخ). وأصبحت موضوعياً على شفا انتفاضة شعبية، ولذا توجب على قيادة النظام أن يختار مواقفه بحسم، فكان هناك خياران أمام صدام حسين: إما الاتجاه يساراً وإنجاز تحول اجتماعي وتغييرات اقتصادية سياسية وإصلاحات مجتمعية تعيد توزيع الثروة (أي إنجاز ثورة من أعلى بواسطة الحاكم نفسه), وفي هذا كان سيتم إعادة استقرار النظام واستعادة علاقاته الدولية والإقليمية السليمة المطابقة لمصالحه العليا, أو الخضوع للاتجاهات اليمينية في النظام المجسدة للكمبرادور والبيروقراطية, التي تريد تحميل الشعب تكاليف الحرب والمغامرة، فضغطت لطرح وإملاء السياسة الجديدة، ولقطع الطريق، وخلط الأوراق في الداخل دفعت باتجاه تصدير الحرب إلى الخارج في عملية تواطئية جرت وفق تفاهمات مع الشرائح العليا للإمبريالية. وهكذا كانت الدوائر العليا للإمبريالية تخطط لتصفية القوى العراقية عن طريق دفع وتحريض النظام إلى القيام بغزوة حربية تهدد الإمارات الخليجية الصغيرة، وتخلق المبررات والحجج التي كانت تبحث عنها الولايات المتحدة وإسرائيل لاستخدام القوة المركزية وإعادة احتلالها للمنطقة. 
هكذا جرى استدراج صدام حسين إلى الفخ الذي نُصب بعناية من الداخل والخارج، بغرض تحطيم القوة العراقية واحتلال المنطقة والسيطرة على النفط وحماية إسرائيل. ولأجل ذلك خلقت هذه الطبقة الحاكمة الأوهام بشكل متعمد لتبرير هذه المغامرات وتحقيق أهدافها، وكانت هذه الشريحة هي بدورها تريد التخلص من النظام مقابل مساعدتها من الغرب. وكانت ترى بأن هزائمه العسكرية في الخليج ستجعله ضعيفاً ليمكنها من السيطرة على الداخل وتفكيك النظام. وهذا ما كشفته لاحقاً الوثائق والاتصالات التي كانت تجري مع الدوائر الأوروبية في سياق نشاط المعارضة الليبرالية. هذه هي الخلفية الموضوعية أو الاجتماعية التي خلقت الأوهام في رأس صدام حسين وقادته.
يتضح هذا في الميدان بمجموعة من المظاهر:
1- التظاهر بتصعيد الأزمة مع الكويت والإمارات كنتيجة للنزاع حول أسعار النفط، وتحريك القوات إلى الحدود، وتحديد المطالب (الـ10 مليارات + الـ30 ملياراً من الديون+ الرميلة وأبو بيان... الخ). وهنا تدخلت السفيرة الأمريكية أبريل جلاسبي، لتقول لصدام في لقاءاتها الأخيرة معه بأن أمريكا لا يعنيها النزاع مع الكويت، وبأن هذا أمرٌ عربيٌ، وأن القوات العراقية المحتشدة على حدود الكويت هي أمر لا يعنيها وفق ما أتاها من قيادتها (فكان هذا بمثابة ضوء أخضر أغرت به صدام لاحتلال الكويت مكافأة له في مواجهة إيران وحماية الخليج ومناطق النفط من خطر التمدد الإيراني، حد توهمه). هكذا فهم صدام، وهكذا أرادوا له أن يفهم.
2- كانت أمريكا في هذا الوقت تحيك له فخاً، وسعت إلى توتير عمليات الصلح بينه وبين الخليجيين الذين كانوا قد أبدوا الموافقة على الشروط خوفاً من القوى على الحدود. لكنه وقع في فخ الإغواء الأمريكي، فقد كان بإمكانه أن يكتفي بهذا التهديد، وبأن يستلم ما يريد، ولن يكون بهذا لدى أمريكا أية حجة للتدخل. ولهذا راحت أمريكا تحرض على جبهتين متناقضتين، فمن جهة تحرض الخليجيين على عدم التنازل وإبداء التحدي والاستخفاف، وتقنعهم بأن صدام غير جاد في الحرب، ومن جهة أخرى كانت تقول لصدام وتؤكد له أن الصراع لا يعنيها، وأن أمريكا لا شأن لها بهذه النزاعات، فتغريه بذلك لدخول الكويت وعدم الاقتناع بعروضهم والمساومات طالما أنه سيحل مشاكل العراق الاقتصادية بضم الكويت للعراق. ونجحت أمريكا بتعطيل مساعي التسوية التي تم التوصل إليها في القمة العربية.
3- بعد أن احتل الكويت بدا أن صدام قد تفاجـأ بالموقف الرسمي الأمريكي، وحينما بدأت القوات الأمريكية تصل براً وبحراً إلى الأراضي السعودية، وتؤلب العالم كله ضده، أصبح الموقف مختلفاً، وينطوي على خيار واحد، وهو أن يبقى في الكويت مصمماً على البقاء، فيعرض جيشه وقواته لهذا التحالف الدولي العملاق، فكل أصدقائه أعلنوا التخلي عنه، ونصحوه بالانسحاب بغير شروط (آخر رسول كان السفير السوفييتي بريماكوف الذي أتى خصيصاً لإقناع صدام بالانسحاب من الكويت قبل صدور القرار الدولي بشرعنة الحرب ضده، وانتهت محاولته بالرفض). وهنا فوت صدام الفرصة الأخيرة للمناورة وإدارة الصراع بشكل ناجح.

لماذا فوت هذه الفرصة؟
لأنه لم يدرك أن فارق ميزان القوى في غير صالحه، بعكس ما كان عليه قبل الاجتياح. هنا صار عاجزاً عن إملاء شروطه. لذلك لم يكن أمامه سوى الانسحاب، وتجنيب الجيش العراقي التدمير. لكنه تشبث وحاول التمسك بالشروط القديمة والمطالب التي تنصلوا عنها بعد اجتياح الكويت، وصاروا يطالبونه بأغرام وتكاليف الحرب والاجتياح. وبتشبثه بهذا الموقف، واختياره المبارزة البرية، تعرض لتدمير جزء كبير من قواته، فاضطر نتيجة للحصار للتراجع غير المنظم، فقد خلاله معظم قواته الجوية وجزءاً كبيراً من معداته، وآلاف الرجال الذين دفنوا في الخنادق أمام قذائف الـ بي 52 العملاقة. كانت هذه بداية تدمير القوى العراقية. كما كانت الانتفاضة في الجنوب انتفاضة قوية اضطر أن يقمعها بطائرات الهليكوبتر. وأفضت النتيجة إلى انحصار النظام في بغداد عاصمته، مع تواصل القصف الجوي والحصار وصولاً للاجتياح المباشر. خضع العراق خلالها (وبالحصار الاقتصادي) لكل قرارات الأمم المتحدة، بما فيها التفتيش وتدمير الأسلحة الأساسية كلها وتنفيذ سياسة (النفط مقابل الغذاء).
لقد خسر صدام إدارة صراع استراتيجي كان بإمكانه كسبه ولو في حدوده الدنيا، مع الحفاظ على القوة العراقية والدولة. لكن لطبيعته الخاصة وتعنته ولعدم إدراكه الأشياء والخلط بينها، والتحليل الخاطئ للمواقف والسياسات، جعل منه ذلك قابلاً للخداع الاستراتيجي. ورغم ذلك فقد كان عاجزاً عن التعلم من الدروس السابقة، والتعلم من الأخطاء.

لماذا نجح هوشي منه وخسر صدام؟ 
هناك عدة محاور رئيسية:
المحور الأول الاجتماعي لدى هوشي منه كان منسجماً، قام بتصفية الطبقة البرجوازية ما إن استلم السلطة، وعبأ الشعب بكل طبقاته السابقة في منظومة اشتراكية واحدة، وجعل مركز الثروة كلها بجمعها وإعادة توزيعها بعدالة على جميع الشعب، وأزال الاحتكار الرأسمالي والسيطرة الرأسمالية، وإشراك جميع الفئات الوطنية في طبقة واحدة. وهذا ما عجز عنه صدام ونظامه الذي كان يعيش حالة انشقاق داخلية.
كما أن الوضوح الاجتماعي لدى هوشي منه حصنه من الأوهام، فلم يتخيل هوشي منه ورفاقه أنه يمكن مصادقة الإمبريالية الأمريكية والتخلي عن التحالف مع الدول الاشتراكية وقوى التحرر العالمي والمناضلة ضد الاستعمار، أو اتخاذ موقف وسطي انتهازي للاستفادة مصلحياً من القوتين (كما هو مع صدام في محاولته اليائسة).
أما المحور الثاني هو حفاظ هوشي منه على نمط عيش بسيط متقشف حربي ودفاعي، وحول الاقتصاد وتنظيمه الى اقتصاد حرب يخدم حرب تحرير الوطن من جهة والدفاع عما تم تحريره في عهد الفرنسيين (شمال فيتنام) ومواصلة حرب التحرير الوطني، رافضاً اللجوء الى الديون (التي أثقلت صدام).
المحور الثالث شخصية القادة الذين يديرون الصراع. كان هوشي منه شديد التواضع رغم عظمته وعظمة إنجازاته كقائد، كان يرفض التمجيد له أو لقادته، وكان دائماً يمجد شعبه وجيشه البسيط، ويرفض المظاهر الفخمة أو العيش في قصور. وقد عاش فترة يقود فيها الصراع ضد الامبريالية في كهوف الجبال. وكان صبوراً واسع الحيلة يتعلم باستمرار ويدرس باستمرار التجربة الوطنية والتجربة العالمية، ويتقبل النقد. وكان على رأس حزب وتنظيم ثوري كبير وطبقي بروليتاري شعبي يتعلم من جماهيره باستمرار وبدون غرور، ويحظى بحب الجماهير واحترامهم، ويعيش بحالة وئام مع شعبه، ولم تشهد فيتنام قمعاً أو نظاماً بوليسياً.
وفي بالمقابل، عاش صدام في أجواء مرفهة فخمة على رأس شريحة برجوازية راحت تكبر وتتضخم وتسيطر على أغلبية الدخل القومي للعراق. وكان شديد الغرور لا يتعلم كثيراً من الأخطاء، ولا يجرؤ على الاعتراف بها، قمعياً يخاف الكثير من رفاقه ومن الناس مصارحته فكانوا يلجؤون دوماً للمداهنة والنفاق والتزلف. كما تفشت روح العشيرة والأسرة والمنطقة والمحافظة (تكريت). كان حزب البعث (الحقيقي) قد ضرب وسحقت قياداته لصالح الاتجاه البيروقراطي الأمني العسكري القمعي، ولصالح العشيرة والمنطقة، وراح يتمركز بسلطاته في نطاق ضيق من المجتمع العراقي، حيث حصرت وظائف الدولة العليا في نطاق جغرافي ضيق، وانحصرت داخل محافظة تكريت في العشيرة ثم في عائلة المجيد وطلفاح، ثم ضاقت إلى الأسرة لتصبح أسرة وحدها تحتل أعلى المناصب (صدام وأبناء عمومته الأقربون ثم أولاده). وهذا أحد أسباب عزلة النظام عن شعبه. ورغم ادعائه الاشتراكية وبنائها في العراق، والتحدث عنها كثيراً، وعن القومية العربية، إلا أن هذا قد اتضح بكونه هراء يخفي التوجه البرجوازي الحقيقي، وأقرب إلى الديماغوجية الاجتماعية، من خلال الحديث والخطب الرنانة في الصحف والإعلام الممتلئة بالخطب والمحاضرات الصدامية عن الاشتراكية، فيما تمتلئ السجون العراقية باليساريين من كل الاتجاهات (اشتراكيين وبعثيين وشيوعيين وناصريين). كان الحديث عن الاشتراكية يكثر كستار الدخان ليغطي نشوء المزيد من شرائح الطبقة الطفيلية وإفقار المزيد من ملايين الطبقات الكادحة، تم تجريد الطبقات العاملة والفلاحية والكادحين من كل ما حققوه من مكاسب خلال نضالاتهم الطويلة، سواء تلك المتصلة بالنقابات أو بالإصلاح الزراعي الذي أنجزته ثورة تموز العراقية، أو التعاونيات أو الاتحادات الفلاحية وسيطرة البيروقراطية الإدارية عليها.
هذه كانت إحدى أهم مشكلات صدام ونظامه، ومصدر تناقض رهيب بين الأقوال والأفعال (المبادئ المعلنة والسياسات الجارية والفعلية)، كما هي أحد أسباب ودوافع الانهيار والفشل، لأن الطبقة التي تقود المواجهة مع الاستعمار في حقيقتها الاقتصادية صديقة للعدو ومرتبطة به وبمصالحه، ومدافعة عن نفوذه الفكري والاقتصادي، وتبطش بخصومه وبأعدائه بشكل دائم وعلى مدار الساعة، وتدفع الى مواقع السيطرة أكثر العناصر يمينية وتعصباً وقسوة. تلك العناصر التي لم تتردد في استخدام أبشع الأسلحة الكيماوية ضد تحركات واحتجاجات قومية تنطلق في أساسها من مظلوميات حقيقية عن التاريخ الاستبدادي والاستعماري. وتضخم الشعور القومي عند العرب بشكل زائف، وتحريضهم ضد إخوتهم في الطبقة والمعاناة من القوميات العراقية الأخرى، وتشكك في ولائهم ووطنيتهم وهويتهم العراقية وانتمائهم لأمتهم، وتثير الكراهية والتعصب القومي بين القوميات، كما تثير الأحقاد الطائفية بين العرب أنفسهم، كاشفاً في نهاية المطاف عن الطبيعة الكولونيالية (الإمبريالية التبعية المحلية)، التي نشأت على هامش اقتصاد الريع النفطي والبيروقراطية الحكومية وبقايا الملاك الإقطاعيين القدامى والمستوردين الكبار من بقايا المنظومة التي عاشت في ظل الاستعمار الأجنبي (الأوروبي)، والناشئة بعد تدميره للطبقة البرجوازية الوطنية المنتجة (الصناعية والحرفية والزراعية) والقضاء على فرصة نموها واستمرارها.
إذن:
1- كانت القيادة العراقية مخترقة ذاتياً واقتصادياً من قبل نفس العدو الذي تواجهه، مرتبطة معه بمنظومات تجارية طفيلية تتبع اقتصاده مباشرة، تقاسم معها العوائد والفوائد، ومكنها من السيطرة الكاملة على الاقتصاد والسياسة، وأصبحت مع الزمن تتبنى مواقفه وتدافع عنه بوعي وبدون وعي، وهذا حكم عليها بالإخصاء الوطني والعقم الثوري في مواجهة العدو الاستعماري، كما حكم عليها بظاهرة تناقضية دائمة بات مستحيلاً تجاوزها أو تجاهلها، لأنها تضرب دوماً في الصميم، وتنتج قادة مشطوري المشاعر والأهواء، ممزقين بين الواجب الوطني والمصالح الخاصة التي أغرقتهم، وأوهامها التي لا فكاك منها، وتدفعها بعنف نحو المساومات والتصالح مع العدو بدلاً من منازلته وطرده والتخلص من سيطرته وتحكمه. إن النتيجة المحتمة لبقاء هذه العلاقة واستمرار سيطرة هذه النوعية الاجتماعية من القادة، كانت ولازالت استحالة التحرر الوطني والاستقلال والبناء الإنتاجي والتطور الصناعي والعلمي، والبقاء في الدائرة التي يحددها المستعمر، والأمثلة أمامنا كثيرة -البرجوازية التجارية مهما كان حجمها قد غدت عاجزة عن قيادة المعركة الوطنية مع العدو الأجنبي الذي هو شريكها التجاري في الواقع. إن نجاح الأمم الأخرى تحقق فقط حين قادت المواجهة مع العدو قيادات لا تنتمي لأية مصالح مشتركة مع العدو كفيتنام والصين وروسيا ولاوس وكمبوديا وإيران وفنزويلا...، إذ الانسجام قائم بين مصالحها ومصالح شعبها وأمتها، وحيث تجد مصالحها في مواجهة العدو وحسم العلاقات القائمة معه دون تردد.
2- إن القيادات التي تصدت للعملية الوطنية كانت تحمل أفكاراً مشوشة وخيالية، وتفتقر للإعداد العلمي والاستراتيجي والنظري، بل كان الكثير منها قد نال المعرفة في مدارس العدو وجامعاته، وتشرب ثقافته، وتعرض للانسياق الفكري والنفسي والذهني لها، كما حمل الكثير منهم أيديولوجيات ملتبسة أعاقت الرؤية الواقعية بتشويشها ومبالغاتها وخرافاتها.




الحلقة الرابعة
الاختلاف في استراتيجيتي إدارة الصراع (الحرب والمعركة) والاختيار الصحيح للتكتيك
كان هوشي منه والثورة الفيتنامية منسجمة مع ذاتها وصادقة في توجهاتها في شن الحرب ضد الإمبريالية المحتلة، واتبعت بذلك مجموعة من المبادئ الأساسية والثابتة، ومنها:
1- الإقرار الواقعي بالتفوق النوعي والتقني للعدو الإمبريالي وبقوته الاقتصادية والعلمية.
2- اعتبرت أن هذه المواجهة مع العدو العالمي هي مواجهة عالمية بين معسكرين، وبوجوب انضمام الفيتنام للمعسكر المواجه للإمبريالية، بهدف حشد كافة قوته وإمكانياته في ميزان التحرر الوطني والفيتنامي والمواجهة بغرض تصحيح الخلل في التوازنات (بين بلد ضعيف وفقير مثل فيتنام في مواجهة دولة عظمى إمبريالية مسيطرة على الاقتصاد العالمي). فكانت هذه المسألة أولوية قصوى في تصحيح خلل التوازن الاستراتيجي بين الطرفين. وهو ما لم يعلمه صدام ونظامه، مخلاً بهذا التوازن بشكل متعمد لغير صالح العراق، ولصالح العدو من خلال تفجير معارك جانبية مع هذا المعسكر المفترض التحالف معه والحصول على دعمه وإشراكه في المواجهة الاستراتيجية مع الغرب، وتجنب جعل المواجهة منفردة، حيث كان العدو أذكى وأكثر فهماً لمصالحه وتكتيكاته، حيث قام بحشد أغلبية عالمية ضد بلد صغير (العراق)، بمن فيهم أصدقاء العراق الذين لم يُجد صدام الحفاظ على علاقته بهم وتحالفه.
3- اختيار الطريقة في المواجهة الصحيحة: اعتمد هوشي منه المبدأ الصحيح في المواجهة، والذي يقوم على اختيار ميادين المعركة في عمق الأرض الوطنية المطلوب تحريرها، وإغراق العدو في مستنقعاتها وغاباتها، وباتباع حرب العصابات الشعبية الوطنية بدلاً من استخدام الجيوش النظامية التي كانت أضعف بما لا يقاس قياساً للجيوش الامبريالية، وتحييد التفوق الأمريكي الجوي الهائل والبحري ومخزونات الأسلحة الهائلة والمتنوعة، وتحييد القوى العسكرية النظامية الأجنبية، التي ظلت تواجه الأشباح في الغابات نتيجة لفرض أسلوب نمط حرب العصابات الشعبية الوطنية والطويلة الأمد. وفرض بذلك على العدو حرباً استنزافية طويلة تكلفه كثيراً، وتحرمه من مجال تطبيق استراتيجية الحرب الخاطفة التي تقوم عليها عقيدته العسكرية. 
4- توحيد كل الشعب الفيتنامي في المواجهة، وإطلاق طاقته في العمل الثوري الوطني والثقة والتضامن الوطني، واحتضان كل الاتجاهات والفئات بحيث أعاق استراتيجية الفتنمة (جعل الحرب فيتنامية-فيتنامية)، ومنعها من النجاح، لأن نجاحها يعتمد على التمزق الوطني في الداخل والاختلاف، فقد استطاع هوشي منه توحيد مصالح كل الطبقات الفيتنامية، بما فيها البرجوازية الوطنية والإقطاعيين الوطنيين، وكل من يحب الوطن ويكره الدخيل والمحتل. وهذا لم يحصل للأسف في العراق. 

 تكتيكات صدام الخاطئة
تكتيك صدام بعد أن قرر المواجهة تكتيك خاطئ، عسكرياً وسياسياً. خاطئ من الناحية الاستراتيجية، يقوم على فرضيات المواجهة بالجيوش النظامية والمدرعة الكبيرة لديه في مواجهة القوات الأمريكية التي كانت تعتمد على مدرعات الجو، وليس على مدرعات الصحراء. وكان هذا يعكس عدم فهمه لتطورات تكتيكات الحرب الحديثة والتقنيات التي تمتلكها الامبريالية، والتي تقوم بدرجة أساسية على استخدام الصواريخ الحرارية المطاردة للدبابات والمدرعات من مسافات عالية جداً خارج مدى الصواريخ الدفاعية.
كما أن اختيار موقع المواجهة كان كارثة، حيث حدده بالتموضع على الحدود المشتركة في الصحراء مع السعودية والكويت، بحيث ظلت قواته مكشوفة وبدون حماية جوية. ولذلك لم تتحمل الفيالق العراقية الضربات الجوية، حيث أنزلت بها آلاف الضحايا من مسافات عالية بقاذفات بي 52 العملاقة وغيرها. دفعته بذلك الى ما يشبه الهروب في الأخير بعد خسارة المواجهة الأولى، وتواصلت الضربات بتصفية القوات الجوية والدفاعات الجوية بكاملها. وأصبحت القوات العراقية مكشوفة أمام الطيران الأمريكي بعد ذلك طوال 13 سنة. وفي هذه المرحلة لم يستطع الاستفادة من بقايا القوة التي تبقت، وخاصة القوات البرية والمدرعة التي سلمت من الضربة الأولى. لم يستطع أن يعيد تنظيمها على الطريقة الشعبية الجماهيرية، وتحويلها إلى حرب العصابات والمجموعات الصغيرة تنشتر وتغطي كل الوطن العراقي، وخاصة محاور التدخل (الحدود)، وتشل فعالية العدو في الداخل. على الرغم من الأعداد الكبيرة التي يتشكل منها الجيش البري (ما بين مليون ونصف المليون جندي وحدود 3 ملايين احتياط مدربين)، وكانت ترتكز على مخازن هائلة قدرت بـ10 آلاف مخزن موزعة بشبكة في مناطق عديدة. فالقوات الأمريكية اكتفت بضربه في الكويت، والتخوف من المطاردة والدخول إلى العاصمة خشية أن تجد نفسها تواجه حرب عصابات طويلة يشنها الشعب كله ضد الأجنبي. ولذلك سارعت باستباق صدام الذي لم يستفد من طاقات الشعب العراقي والقدرات الهائلة المكدسة. إلا أنه ونتيجة للطابع الطبقي المزدوج، لم يقبل فكرة حرب الشعب الطويلة الأمد كخيار وحيد أخير بعد هزيمته في الكويت، لعدم ثقته بهذا الشعب من جهة، ولأن الطبقة الحاكمة رافضة، ولا تريد للشعب العراقي أن يكسب الحرب، وكانت تحلم بالمساومات. ولذلك كان لها تكتيكها واستراتيجيتها الخاصة القائمة على المساومة مع الإمبريالية والحلول الوسط، وعدم المواجهة العنيفة والحاسمة معها، والاستعداد للتنازل وتخريب الجهد العسكري والأمني في العراق (في الباطن). حيث تجلى هذا بوضوح خلال السنوات الـ13 التالية، من خلال نقل المعلومات وشراء المخابرات الأمريكية للمرشدين والعملاء من أوساط هذه النخبة الحاكمة المالية، والتي بدأت تستعد في تفكيك نظام صدام والتكيف مع نظام جديد (تقره أميركا)، مقابل تفكيك الجيش العراقي والدولة العراقية، وتفكيك كافة المشاريع القومية والوطنية أو الصناعية أو الاستراتيجية العسكرية والتبليغات المفصلة عن مخازن الأسلحة والوثائق المرتبطة بها وأسرار الأموال ومواقعها المخزنة..وهذا كله كان يضعف النظام ويكشفه ويعري قدراته الوطنية المحتملة، ويقدم للأمريكان والفرق التفتيشية كل شيء بوضوح ودقة. حتى أصبح العراق كله مكشوفاً أمام المخابرات الأمريكية والاستطلاع الجوي، ثم تجلت الخيانات في 2003م التي ارتكبها القادة من حول الرئيس صدام، في دفع بقايا الجيش للاستسلام ووقف المقاومة وتعطيل وتخريب كل خطط المقاومة التي كان يحاول إعدادها صدام ونخبته. ثم بعد ذلك تجلت أكثر فأكثر في وصول القوات الأمريكية إلى العاصمة دون مقاومة. ووجد صدام نفسه مطارداً وملاحقاً من قبل القوات الأمريكية ورجالها من الداخل، حيث تمكن رجالها من الداخل من نفس أوساط صدام وطبقته، من إفشال كل شيء يفكر فيه الوطنيون للمقاومة، في عملية متتابعة كانت تشبه الأفلام الأمريكية، وكأننا أمام إخراج أفلام هوليوودية من أفلام رامبو العسكرية، وليس أمام غزو إمبريالي أجنبي لبلد عربي له ملايينه المسلحة وجيوشه وطاقته وقدرته على البقاء والصمود، مقابل تضحيات بسيطة لابد منها بالتخلي عن المصالح التجارية والأنانية للشريحة الطفيلية، التي سلمت حتى صدام نفسه وأولاده وإخوته ككباش فداء لبقاء الطبقة الطفيلية التي أعادت تموضعها عبر التعاون مع (برايمر) والعملية السياسية التي أنتجها الاحتلال.. وعندما أراد الشعب العراقي أن يعيد نهوضه، وبدأ يطلق مقاومته الوطنية، أغرقته هذه الشريحة ذاتها بالصراع المذهبي والطائفي والتبعية للأجهزة السعودية والأمريكية، وأغرقت الواقع بصراع طائفي لا علاقة له بالاحتلال، قطعت الطريق أمام الوحدة الوطنية لمواجهة الاحتلال، والسماح للمشروع الأمريكي بالنفاذ القائم على تقسيم إثني وعرقي ومذهبي وضحت ملامحه بتسليح الجماعات خارج علم الحكومة العراقية، كالجماعات الكردية.

استراتيجية الامبريالية الأمريكية وتكتيكاتها في إدارة الصراع مع العراق
1- كانت رؤية أمريكا (الامبريالية) تقوم على رؤية واقعية شديدة لا تعرف الأوهام ولا الخيال، حيث رأت في العراق بعد وقبل الحرب مع إيران خطراً مباشراً على إسرائيل، وأن العراق بات قوة مع سوريا ترجح الميزان الاستراتيجي في الحرب مع إسرائيل. ومنذ عام 1988م أصبح هم المركز الصهيوني الأمريكي الامبريالي هو كيفية تفكيك وتحطيم وتقسيم القوة العراقية، ومنعها من الالتحام بالجيش السوري أو الوحدة معه. وقد تمكن في الماضي من تحريضه ضد الحليف الإيراني للقضية العربية، وجره الى حرب معه لتحطيم الطرفين، خوفاً على إسرائيل. وبعد 1988م خرج العراق قوياً، فشنت الامبريالية عليه حروباً عديدة، أبرزها التخريب الاقتصادي عن طريق إغراق أسواق النفط عبر الكويت والإمارات، وتخفيض مدخوله السنوي (كل دولار يتم تخفيضه من سعر النفط يؤدي إلى خسارة سبعة مليارات دولار في العراق سنوياً)، وتولت هذه المهمة الكيانات المجاورة (الكويت والإمارات والسعودية) بتخفيض السعر إلى الخمسة دولارات. وكان معنى هذا تكبد العراق خسائر كبيرة وعجزاً شديداً في الموازنة، وتكبده مزيداً من الديون الأجنبية، إذ أصبح يسير في طريق التبعية. وكذلك اتبعت أسلوب الزعزعة السياسية والتقويض السياسي من الداخل، مستغلة الأزمات الاقتصادية التي تثيرها، ومستفيدة من الانقسام الطائفي والاجتماعي والقومي، ومن غياب الديموقراطية وفرض النظام البوليسي على الشعب على القوى السياسية والدينية. حيث بدأت الوكالات الأمريكية، منذ وقت مبكر، بإقامة اتصالات منتظمة سرياً مع الأحزاب والقوى المعارضة للبعث العراقي وللنظام، وقدمت دعماً، وفتحت معسكرات لتدريب المعارضة المسلحة. كما حولت الشمال الى قاعدة صهيونية إسرائيلية للتدريب، مستغلة أحقاد القومية والعنف الفاشي الذي استخدمه صدام ضد الأكراد بتحريض أمريكي، وبتزويده بالأسلحة الكيماوية المحرمة، حيث أعدت تقارير عن حقوق الإنسان في العراق، وعن الجرائم ضد الإنسانية التي لحقت بالأكراد وبالشيعة، وعن الإعدامات التي تمت خارج القانون، وعن قمع المعارضين، وعن المظلوميات الطائفية والمذهبية والقومية والإثنية. وهكذا فتحت المخابرات المركزية معسكرات ضخمة سرية لتدريب المعارضين وحركات التخريب الذي مهد لاحقاً على الاتفاق لاجتياح العراق بمبادرة هذه القوى التي عقدت مؤتمراً كبيراً في شمال العراق الكردستاني بحماية أمريكية إسرائيلية، بصمت بموجبه على دعوة الغرب والناتو وإنقاذ بلادها من شرور صدام حسين، ومهدت لاجتياح العراق، وصممت عملية سياسية ليبرالية برلمانية لتغطية طبيعة الاحتلال والسيطرة على العراق.





الحلقة الأخيرة
مجموعة الحيل الاستراتيجية
لتحقيق أهداف أمريكا وإسرائيل منذ الثمانينيات، بعد أن أصبح العراق قوة، قامت برسم مجموعة من الاستراتيجيات والخطط للإيقاع بالعراق وتدميره، كانت الأولى بعد عام 1980 (بعد نجاح الثورة الإيرانية)، حيث رأت صمود الثورة الإيرانية، ورأت فيها خطراً ماحقاً على إسرائيل، وعلى النفوذ الإمبريالي في المنطقة. لذلك عملت على خطة مخادعة (مخادعة للعراق)، فهي تقوم على إظهار الصداقة للعراق والتعاطف مع مطالبه، وتحريض قواه على ضرب القوى الإيرانية، وتكوين معسكر عربي داعم ودولي لحرب العراق ضد إيران. وكانت هذه الخطوة بنتائجها أن خرج العراق في حالة من التناقض (في منتهى القوة العسكرية يقابله منتهى الضعف الاقتصادي). وأصبحت البلاد متهيئة لانفجار اقتصادي اجتماعي نتيجة للديون والإفلاس والمعاناة بعد ثماني سنوات من الحرب.
كانت الخطوة التالية هي العمل على استدراج العراق خارج حدوده، ودفعه الى مغامرات عسكرية تظهره بمظهر القوة الامبريالية العدوانية، وتأييد الصراعات ضده، وشد الضغوط عليه، وتأجيج الحرب الاقتصادية والبترولية (من قبل دول الخليج)، وبذلك إفلاسه. وفي الوقت نفسه القيام بتأجيج مطامعه وإغرائه وإعطائه المزيد من الأضواء الخضراء، وتشجيعه على اقتحام الكويت. وقد تأكد الآن أن السفيرة الأمريكية المدعوة أبريل جلاسبي، وهي دبلوماسية متمرسة ذكية, كانت قد منحت صدام العديد من الإشارات الخضراء، والتي كان مؤداها دائماً الفكرة التي ظلت تتكرر دوماً في لقاءات عديدة، وهي أن (أمريكا لا تتدخل في الشؤون بين العراق والكويت), كما ظلت توحي لصدام من خلال الوفود الأمريكية والشخصيات، بأن أمريكا يجب أن تعتمد العراق بدلاً عن إيران في الدفاع عن أمن الخليج، وحماية الاستقرار، وضمان مصالح أوروبا النفطية, وبأن أمريكا لا تستطيع أن تضمن مصالحها في ظل إيران قوية ومهددة لجيرانها، ولها أطماع في المنطقة ونزعات تصدير الثورة. لا يمكن حماية المنطقة وأمنها من قبل الدويلات الضعيفة القبلية (بما فيها السعودية وبقية الإمارات)، وأن الغرب الآن بصدد التفكير في اعتماد نظام قوي في مواجهة المطامع الإيرانية وحماية أمن النفط والممرات الدولية. وكانت هذه الأفكار تردد دائماً، وتقرن بالقول إن العراق هو قوة اعتدال وتوازن مقبول عند الغرب، وأن الأمور تسير باتجاه بلورة فكرة الاعتماد عليها في إطار من التفاهمات تتجاوز نقاط الخلاف (وخاصة تلك التي تتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي، وموقف العراق منها، والذي لا يزال يحتاج الى الكثير من الدراسة والتعديل)، وهذه الأفكار ظلت تتردد باستمرار، وكانت الإيحاءات تقول بأن أمريكا تؤيد مطالب العراق، وتلمح الى أن الكويت يمكن أن تكون جائزة حرب العراق ضد إيران، ومكافأة على ما أنجزه، ومكافأة صغيرة لما حققه من انتصار وضمان أمن للمنطقة، وبأن العرب والغرب كلهم مدينون للعراق لتضحياته وما أنجزه. وبالتالي فمن الطبيعي جداً أن يتحمل الخليج كل أكلاف الحرب المادية، بما فيها ديون العراق كاملة. وأن من غير المعقول أن يترك العراق يسقط مفلساً أمام الأزمة الاقتصادية الخانقة، وسيكون من حق العراق التصرف بما هو ضروري. ولا يهم الأمريكيين التفاصيل، فالمهم هو النتيجة، أي أن تبقى المنطقة مؤمنة ضد التمدد الإيراني الخطر. وكانت هذه الإيحاءات وما تحمله من تشجيع، بمثابة دعوات صريحة ليقوم صدام بالخطوات المطلوبة.
كانت أمريكا منذ عام 1980م، تخطط لإقامة قوات سمتها (قوات التدخل السريع)، وجمعتها تحت قيادة تسمى القيادة المركزية، بقيادة الجنرال شوارزكوف. وتشمل هذه القيادة نطاقاً جغرافياً يمتد من ساحل أفريقيا الأطلسي الى الباكستان، وتشكل دول الخليج والجزيرة وإسرائيل والشام مركز ثقلها الرئيسي. وكانت مهمتها الرئيسية هي الاستعداد لاحتلال مناطق النفط في الخليج والجزيرة. وظلت هذه القوات تتدرب طوال السنوات الـ10 التي سبقت أحداث الخليج. كانت مشكلتها الرئيسية التي تواجهها هي البحث عن (الذريعة) التي تقنع بها الرأي العام الأمريكي والأوروبي والدولي، لاحتلال المنطقة. كما كان الرأي العام العربي المحيط بالجزيرة والخليج خلال الثمانينيات، قد تصاعد بعد (أيلول الأسود)، وبعد غزو بيروت وذبح الفلسطينيين وتصاعد المقاومة، وتصاعد الرأي العام العربي رفضاً للوجود الأمريكي العسكري في المنطقة، وشهدت السعودية انتفاضة عارمة جداً استمرت قرابة شهر، لم تخمدها إلا القوات الأجنبية الأردنية. وقد زاد هذا من درجة الشحن الجماهيري والغضب الموجه ضد الأمريكيين والغربيين. وأدركت حكومة المملكة والإمارات والكويت... الخ أن الوجود الأمريكي المباشر والعسكري صار مكلفاً، وينعكس الآن على وجود النظام نفسه، لاسيما وأن انتفاضة الحرم صاحبتها انتفاضات في القطيف والدمام والظهران والهفوف وحائل، وهي مناطق متاخمة للقواعد الأمريكية ولشركة أرامكو النفطية العملاقة. فعمدت السعودية لإقناع حماتها الأمريكيين بضرورة تخفيف المظاهر العسكرية في المنطقة، وتقليص واختزال عدد من القواعد، ونقل بعضها. وكان هذا يتصادم مع الرغبة الأمريكية العارمة للتسابق نحو إعادة السيطرة العسكرية للمنطقة، إذ كانت المشاعر القومية لدى العراقيين والعرب ترتفع بعدائها لإسرائيل، وتكونت معادلة استراتيجية جديدة هي أن العرب في إطار الجبهة الشرقية المكونة من سوريا والعراق، تمتلكان القدرة على التفوق الاستراتيجي في أية مواجهة قادمة مع إسرائيل. كان الرئيس حافظ الأسد يبشر بها منذ اتفاقية كامب ديفيد، ويعمل لأجلها (تحقيق التوازن الاستراتيجي مع إسرائيل). ها هو العراق -بالعشرة آلاف دبابة والألف طائرة وآلاف المدافع والمليون جندي المدربين- يحقق هذا التوازن، ويحطمه لصالح العرب. وأصبحت إسرائيل في خطر. ولذلك أمام الدوائر الأمريكية الاستراتيجية العليا ارتسم دوماً هذا الخطر العربي العراقي، والذي ترتفع في سمائه حمى الغضب القومي والحماس العربي وكراهية إسرائيل والدعوة لسحقها وتحرير فلسطين. وفي منطقة كالشرق الأوسط، المعبأة لطوال عقود بالغضب والكراهية والأحقاد القومية والمظالم المتأججة وبقدرات عسكرية تنتظم، لا يمكن فيها السيطرة على الوضع والحول دون انفجاره في أية لحظة. مما يعني أن مصالح ومصير الاستعمار الغربي في خطر. فكان لابد أمام الاستعمار الأمريكي ضرورة سرعة كسر التوازن العربي. وهذا لن يتم مادامت القوات الأمريكية بعيدة عن ميدان العمليات والصراع. ولذلك سعت الولايات المتحدة وقادتها الى استثمار جنون العظمة لدى القيادة العراقية، والتي كانت مهيأة ذاتياً للتجاوب مع هذه الأهداف. وكانت أمريكا تجد بالتخويف من البعبع العراقي وسيلة ضغط شديدة لإحماء الإرادة السعودية وإضعافها، وإحناء الخليج الذين يخافون من شعوبهم ببروز المظاهر العسكرية الأمريكية، وكان لابد من الظهور لهم وإقناعهم بمجيء القوة الأمريكية واحتلالها بلدانهم. وكان هذا الفصل يمكن تسميته (الخداع الاستراتيجي) الموجه لعقل الخصم وقواه النفسية، ولشل يقظته وتخريب ذاكرته واتجاهات مناعته الذاتية، وتعطيل حدسه الطبيعي ضد الخطر المحيط..كانت هذه المرحلة هي المرحلة التي هيأت مرحلة الاجتياح الاستراتيجي التي ذكرناها، والتي ظلت مشروطة واقعياً باجتياح الكويت فعلياً. وهذا ما جرى من قبل صدام.
لم يفق صدام، بعد اجتياحه الكويت، من الصدمة التي أثارها الهدف، وكأنه كان مهيأ لئلا يتوقع مثل هذه الضجة أو النتيجة، إنه يواجه العالم كله. ثم انتقلت الاستراتيجية الأمريكية لإقناع الحلفاء والإنزال المباشر للقوات جوياً وبحرياً على الأراضي السعودية. وبدأ الاستعداد لتدمير القوة العراقية.
حتى آخر لحظة، كان صدام لا يزال يتصرف كأنه واحد من معدي المسرحية الجارية التي كانت تخرجها الولايات المتحدة وممثلوها بالتعاون مع حلفائها. وحتى آخر لحظة كان يتوهم كما أوحي إليه بأن هذا هو مجرد عرض للقوة الأمريكية للضغط على حلفائها وعملائها لإقناعهم بقبول عودتها واحتلالها. وكأنه لم يكن هو المقصود بدرجة أساسية. فقد راح يطلق التصريحات والخطابات وسيل الدعايات القومية والعرقية التي كانت تصب في طاحونة جورج بوش، حيث كان يستخدمها لتيسير تمرير قراراته الاستراتيجية أمام الدوائر المتشددة في الكونغرس والإدارة الأمريكية. وكان ذلك يدل على جهل بالديناميكية السياسية لإدارة الخصم وآلياته، ويبرز أيضاً قلة معرفته للأساليب والعقليات التي تتحكم به. ولم يفق صدام إلا أمام الضربات الجوية.

سوء التقدير الاستراتيجي
وقع صدام والقيادة العراقية، وخاصة بعد وصول القوات الأمريكية بتلك الكثافة والقوة، طوال أشهر من النقل الجوي والتدريب الى السعودية، في شر سوء التقدير للموقف الاستراتيجي للخصم (ماذا يريد الخصم؟ وما هو شكل الحرب في حالة الهجوم؟).
بداية جرى إيهامه من قبل الدوائر الغربية أن هدف القوات المتجمعة في السعودية هو الدفاع عن الحدود السعودية. فراح يتوهم بأنه لن يتم مسه إذا لم يتجاوز الحدود الكويتية. وبعد أن وصلت هذه القوات وأخذت مواقعها وأصبحت في موقع قوي، قلبت الدعاية الأمريكية ظهر المجن، وأبرزت بقوة في أولويتها أن مهمة هذه القوة هي إخراج قوات الجيش العراقي من الكويت وإعادة الشرعية الأميرية، ومعاقبة العراق على جرائمه. وطولب بالخروج بدون أي قيد أو شرط أو مطالب، حيث تنكروا لجميع المطالب السابقة التي أغروه بها لاستدراجه.
كما برز سوء تقديره التكتيكي في أسلوب المعركة القادمة مع الخصم، حيث توقع خطأ، وبنى على هذا التوقع الخاطئ، بأن المعركة الحاسمة ستكون معركة الصحراء (معركة الدبابات)، حيث إن الدبابات هي نقطة الضعف الأمريكية من حيث العدد، وكذلك القوات البرية التي هي أقل بخمسة الى عشرة أضعاف من تلك التي يمتلكها العراق من الناحية العددية. عقلية متقادمة (تعيش على نتائج ونظريات قديمة كانت صالحة حتى الحرب العالمية الثانية والخمسينيات والستينيات، حيث كانت النظرية السائدة هي أن المعركة تحسمها معارك الدبابات الكثيفة).
ولأن التكتيك يرتبط بالتكنيك، فلم يفهم صدام، ولم يتابع تطور التقنية التي نشأت في العقود الأخيرة (السبعينيات والثمانينيات)، وأدت الى انقلاب التكتيك العسكري القديم، بحيث أصبحت السيادة ضد الدبابات للصواريخ الحرارية المحمولة على الطائرات والمروحيات (صواريخ سبارو وتاو وصواريخ أخرى متطورة مذيبة للحديد)، وهذا فتح عصراً استراتيجياً جديداً، هو عصر الصواريخ، حيث ظل صدام يتخيل (وقادته العسكريون) مواجهة من النمط العراقي-الإيراني أو المصري-الإسرائيلي في معارك الصحراء. تواجهت آلاف الدبابات التي تشتبك معاً من مسرح قريب بعد إخراج أو تحييد القوات الجوية. لم يفق إلا بعد أن دفنت الطائرات الاستراتيجية وحاملات الصواريخ العملاقة (بي 52) المواقع والقوات العراقية بأتربة الصحراء من هول ضخامة ما تفجره وما تثيره من رمال وغبار الصحراء ومن حمم النار ولهب الغازات الصاروخية والقنابل. وكانت، في نفس الوقت، قد أغارت الطائرات على مواقع الطيران العراقي وحظائره، حيث تمت تصفية أغلب الطائرات في بداية الهجوم، وما نجا من الطائرات (حوالي 300 طائرة) تم إرسالها الى إيران لتهريبها وتجنيبها القصف (استخدمت قذائف تخترق التحصينات التي تتجاوز اختراقها لـ30 متراً، فلم تسلم الطائرات في مواقعها المحصنة). هذا يكشف العلاقة ما بين التكتيك وتطور التكنيك (هذه فكرة إنجلز في مؤلفه دور العنف في التاريخ) استراتيجياً في فكر صدام وقيادته العسكرية. فلو أن قيادة صدام وعت بالتطور التقني الذي وصلت له الصناعة العسكرية والعلم العسكري (وكان هناك دراسات وكتب أصدرت في الأعوام التي سبقت في كثير من الدوائر العسكرية، توضح الفكر النظري والاستراتيجيات للحرب الكلاسيكية)، ولو أن الفكر العسكري العراقي ارتبط علمياً بالمعاهد ومراكز البحث العلمي العسكري في المنظومتين الشرقية والغربية، واطلع بشكل جيد في الحرب المصرية (أكتوبر 1973م)، لكان أدرك محدودية التكتيكات التقليدية القديمة في مواجهة القوات المدرعة، إلا أن الغرور منعه عن ذلك. ويعود سبب ذلك أيضاً إلى الخلل الأيديولوجي الذي منعه من رؤية إمكانية الصدام مع أمريكا مباشرة، لعدم معرفته بدقة بديناميكيات الجيش الأمريكي والقوة الأمريكية بوصفها قوة منظمة بحرياً وجوياً، وليست قوة برية قارية كما الشرقيين الذين يعتمدون على قوات البر بشكل أكبر، لعدم وجود بحار ومحيطات تفصل مسارح القتال عن بعضهم على العكس من الأمريكيين الذين يعتمدون على الغزو البحري والهجوم البري (أي أن أمريكا في تخطيطها لا تعتمد على كثافة المدرعات، وإنما تعوض عنها بكثافة الصواريخ المضادة للدروع) التي تحملها الطائرات والحوامات الحديثة.
كان صدام يتكلم كأنه مازال في مطلع الحرب الأولى بداية القرن، حين كان الفكر العسكري ما زال مفتوناً بقوة الدبابة الجديدة، وقد غفل عن التطورات التقنية التي زخرت بها الحروب التالية، وما أنتجته من تقنيات للتغلب على الدبابة بالذات. كان ثنائي الصاروخ/ الطائرة هو المركب السحري الجديد، كانت هذه هي التقنية المعتمدة في كل مراجع الحرب الدولية، ولم يكن سراً ذلك، ورغم ذاك راح صدام وجنرالاته يحرضون على الدعوة لمنازلة الدبابات المفتوحة، وكأنهم في عصر الفروسية، وانطوى ذلك على كشف المدرعات العراقية أمام الطيران الأمريكي في الصحراء، الذي كان قد سبق أن دمر الطيران العراقي وهو في مخابئه. كانت هذه الوقائع تعني مزيجاً من الانتحار والجنون والخيانة الذاتية، فالجهل كان قليلاً ببديهيات الحروب.
هكذا انتصرت فيتنام وخسر العراق.