رمان صعدة الحزين..
- تم النشر بواسطة بشرى الغيلي/ لا ميديا

مواعيــــد وعناقيــــد ثــــورات
رمان صعدة الحزين..
على جناحِ غيمةٍ بيضاء استوقفتني بساتينها الغنّاء، وأخذتني آلة الزمن إليها للحظاتٍ تسرّبت من دفترِ الذاكرة، قبل أن تدمرها مقاتلات التحالف الهمجية، وتأملتها من نافذةِ القلب، فاستضافتني (حيدان) بكأسِ بنٍّ فريدِ المذاق قل نظيره بمكانٍ آخر، وقدمت لي مدينتها القديمة طبق رمانٍ لذيذ الطعم، لا شبيه له في جزيرةِ العرب، والذي يطلق عليه تسمية (الخازمي) نظراً لجودته وسكّريته الحلوة.
ثم اتجهتُ قليلاً إلى مدينةِ (سحار) فأغرتني بطبقٍ من أغلى أنواع العنب والمشمش والخوخ، فكانت فواكه أنيقة الطعم كجمالِ بساتينها الرائعة، وعند مدينة (رازح) كان لجودةِ فاكهة الموز طعم لا يقاوم، والذي يعد من أغلى أنواع الموز.. إنها (صعدة) التي تُدهشك بكل تفاصليها، وتخذلك الحروف ماذا تسميها؟
هل تسميها (طبق فاكهة)؟ أم تسميها (مدينة السلام) والقباب، والصلوات، والروحانية التي تربتُ على صدركَ بوهجٍ من طمأنانيةٍ ساحرة.؟
إنها (صعدة) قبل أن تدخلها آلة الحرب المدمرة، والإبادات الجماعية التي طالت جميع سكانها دون تمييز، أحرقوا مزارعها بصواريخهم الهولاكية، التي لم تفرّق بين مكانٍ عسكري، ومزرعة تُنبتُ أجود أنواع الفاكهة على مستوى العالم.
(صعدة) التي ذرفت مآذنها دموع الكبرياء، وهي تُقصف على مرأىً ومسمع من العالم، دون أن يحرك ساكناً.
كانت هذه الجولة الخاطفة لـ(لا) عبر حروفٍ رصدت أهم تفاصيلها كمكانٍ وأحداث..
تسميتها
(صَعْدة) بالفتحِ ثم السكون يلفظ صعَـدْتُ صعدةً واحدة، والصعدةُ القناة المستوية نبتت كذلك لا تحتاج إلى تثقيف، وبناتُ صعدة حُمرُ الوحش وصعدة مخلاف باليمن، بينها وبين صنعاء ستون فرسخاً، وبينها وبين خيوان ستة عشر فرسخاً، وصعدة مدينة عامرة آهلة، يقصدها التجار من كل بلد، وهي كثيرة الخير، وعرفت مدينـة صعـدة فـي النقوش اليمنيـة القديمـة بهـذه التسمية فـي النقش الموسوم بـ(CH 31) باسم (ص ع د ت م)، كما عرفت بهذا الاسم في الفترة الإسلامية المبكرة، وقد تناولتها بعض المصادر التاريخية الإسلامية المبكرة، منها كتاب (صفة جزيرة العرب) للهمداني، بقوله: (مدينة صعدة، وكانت تسمى في الجاهلية (جماع)، وكان بها في قديم الدهر قصر مشيـد، فصدر رجل من أهل الحجاز من بعض ملوك البحر، فمر بذلك القصر، وهو تعب فاستلقى على ظهره، وتأمل سمكه فلما أعجبه قال: لقد صعّده، لقد صعّده! فسميت صعدة من يومئذ)، أما (منتخبات في أخبار اليمن) لنشوان بن سعيد الحميري، فيقول: (صعدة مدينة باليمن لخولان بن عمرو بن الحاف بن قضاعة، وسميت صعدة لأن ملكاً من ملوك حمير بنى له فيها بناء عالياً، فلما رآه الملك فقال لقد صعّده، فسميت بذلك صعدة).
بداية التأسيس
أما مدينة صعدة الحديثة فيرجع تأسيسها إلى (القرن الثالث الهجري ـ القرن التاسع الميلادي)، حيث اختطها الإمام (الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم)، إذ تقع على بعد 3 كم من موقع صعدة القديمة التي كانت قائمة عند سفح جبل (تلمص)، ولا زالت بقايا آثار أطلالها حتى اليوم. ومنذ تأسيس مدينة صعدة الحديثة، شهدت تطورات حضارية عبر مراحلها التاريخية أكسبتها ملامح المدينة العربية الإسلامية بتخطيطها المعماري الهندسي، وإبداعاتها الفنية، وتقسيم تكويناتها الرئيسية من حيث الأسواق والسماسر والحمامـات القديمة والمساجد والمدارس والأسوار والبوابات القديمة والحارات، وكل أثر تلمح فيه جمال الإبداع بحسب ما خصص من أجله، واحتفظت عبر القرون التاريخية بطابع أصالتها الإسلامية، لتشكل نموذجاً حياً يشهد على مدى تطور العمارة والفنون منذ بداية العصر الإسلامي، كما ازدهرت صعدة كمدينة علم ودين وثقافة وتجارة وصناعة وزراعة، بالإضافة إلى دورها الرئيسي في أحداث العصر الإسلامي الذي شهد صراعات وحروباً عنيفة متواصلة على الساحة العربية عامة واليمنية خاصة.
مواجعها مع الحروب
عاشت صعدة ردحاً من الزمن، تعاني ويلات الحروب الست، والتي أضافت إلى وجعها أوجاعاً أخرى.. فكلما انتهت من حرب، دخلت حرباً أخرى مما أثقل كاهلها بإرثٍ من حروبٍ تدار بأجندةٍ خارجية، وتنفذ بأيدٍ يمنية، يمضون إليها معصوبي الأعين، فمرة بدعوى الطائفية، وأخرى بدعوى المناطقية، وثالثة بدعوى الدين، ولا أحد يتجرع مرارتها غير سكان مدينة السلام، التي غادرها السلام حتى لحظة تحرير هذه المادة.
حدودها بجارةِ السوء
وكأن صعدة قدرها أن تدفع فاتورةً باهظةَ الثمن لمكانتها التاريخية، وموقعها الاستراتيجي الواقع على الخط الدولي المحاذي (للسعودية)، والتي أثبتت أنها جار سيئ لا يراعي حق الجوار، ولا يقدر حقه في العيش الكريم.
فعلى المديين البعيد والقريب تتعرض صعدة لمؤاذاة جارها السيئ (السعودية)، سواء بضلوعها في الحروب الست، وإشعالها بأيادٍ يمنية، وصولاً إلى حربها تحت ما سمي (عاصفة الحزم) التي عملت إبادات جماعية في صعدة، وأعلنتها منطقة عسكرية لكل ضرباتها الجوية، على إثرها أعلنتها المنظمات الحقوقية والإنسانية والعالمية، (مدينة منكوبة)، حيثُ أحرقت بصواريخهم كرومها، ومزارعها، وقراها، ومساكن أهلها، فصمدت في وجه آلةٍ بربريةٍ عصرية كررت التاريخ الأسود للحروبِ المعاصرة (جارة السوء) بما سمته التحالف العربي تحت قيادتها، بذرائع واهية، لم تصل حتى لهدفٍ من الأهداف التي تحدثت عنها.
مدينةُ السلام... بانتظار عودةِ السلام
صعدةُ فاكهةُ المدائن الجميلة.. تنتظرُ الآن بشغفٍ عودة السلام إلى ربوعها من خلال مفاوضات الكويت التي تجرى حالياً هناك، وتعلق عليها آمالها، شأنها شأن كل مدن اليمن الحبيب، لتبعث من جديدٍ كطائرِ العنقاء، وتنفض عنها غبار الوجع، وتضمد جراحها النازفة، لتعود لدورها الريادي في إشاعةِ السلام.
المصدر بشرى الغيلي/ لا ميديا