بعد أن تجاوزنا مدينة حيس، قادمين من منطقة كيلو 16 بمحافظة الحديدة، في طريقنا إلى محافظة تعز، واجهتنا نقطة تفتيش على بُعد 30 كيلومتراً تقريباً، لم نستطع رؤيتها بوضوح بفعل كثافة الغبار المنتشر حولنا، لمحنا فقط من بعيد أحد الأشخاص يرتدي بزة عسكرية وبندقيته على كتفه، يلوح لنا بيده لنتوقف.
أوقفنا سيارتنا بجانبه تماماً، وألقى تحيته علينا مردفاً إياها بسؤال مفاده من أين أنتم قادمون؟ وإلى أين تتجهون؟ أشبعنا فضول واجبه بإجابة عرف من خلالها أننا لسنا ضمن صفوف المرتزقة والعملاء، بينما كان زملاؤه ينظرون إلينا مبتسمين من حفرة مائلة تشبه الجرف، بدت كأنها مسكنهم الوحيد.
أدركنا حينها أن هؤلاء من أفراد الجيش المواجهين للعدوان والمدعومين من اللجان الشعبية, لم يطلب منا الجندي الذي أوقفنا للتفتيش نقوداً أو أي شيء آخر، كما كانت العادة سابقاً في مثل هذه النقاط، حيث كان البعض يطلب المال من المسافرين دون وجه حق، لتسهيل مرورهم منها, لكن بطل هذه القصة كسر كل تلك القواعد المعروفة، مفصحاً عن أمنيته وأعلى سقف لمطامعه هو وبقية الأفراد الجالسين في تلك الحفرة، وهي الحصول على جهاز (إم بي ثري) يمكنهم من الاستماع إلى جديد زوامل عيسى الليث المناهضة للعدوان، لأن جهازهم الذي كان يحمله في يده تعطل بفعل ذرات الرمل التي تغطي المكان.
صعقتنا هذه الأمنية، وتمنينا لو كنا نملك ذلك الجهاز حتى نمنحه هؤلاء الأبطال، ونلبي طلبهم. كانت الحرارة الشديدة المصحوبة بذرات رمل الساحل الغربي التي واجهناها في الطريق، تلفح جلودنا لتشعرنا كأننا نسير في طريق شُقت بداخل (شواية), تتحول برداً وسلاماً بمجرد اقترابها من أولئك الأبطال المرابطين في حفرة لا يوجد فيها مكيفات أو مراوح تبريد، من أجل أن ننعم بالأمن والاستقرار, خصوصاً وأن أثر قصف طائرات تحالف العدوان منظور على طول الطريق، ويوحي بأن الخطر يحلق باحثاً عن هؤلاء الجنود بعد أن نجوا من استهدافه لمقر نقطتهم السابقة وتدميره كاملاً.
مشاهد الدمار يراها المسافر في كل مديرية من مديريات الحديدة الواقعة على الطريق في حال مر منها, ابتداءً من المنصورية، مروراً بالحسينية وبيت الفقيه وزبيد والجراحي، وانتهاءً بحيس, وأصبحت تلك الآثار التي خلفها قصف العدوان في هذه المديريات وعموم مناطق الجمهورية، بمثابة نُصُب تذكارية ستذكر اليمنيين على الدوام بمدى قبح التحالف الأمريكي السعودي وجرائمه في حق اليمن وشعبها.
أية صورة وطنية يمكن رسمها بقلم غير الذي يملكه أبطال الجيش واللجان الشعبية؟
حتى في محافظة تعز التي يحتل مرتزقة العدوان بعض مناطقها, فإن الأمن والاستقرار يسود المناطق التي لم تطأها أقدام الغزاة ومرتزقتهم، على عكس سابقتها, وما يعبر عن ذلك هو العدد الكبير للسكان الذين نزحوا إلى مناطق الجيش واللجان، بعد أن غادر الأمن مناطقهم بمجرد سيطرة الجماعات الإرهابية التابعة لتحالف العدوان عليها.
ومنطقة الحوبان برهان كافٍ على هذا, فالازدحام السكاني فيها كبير وكثيف، فيما المناطق المجاورة لها والواقعة تحت سيطرة المرتزقة تكاد تكون خاوية على عروشها، بل إن أفراد العصابات يقومون بنقل عائلاتهم إلى الأماكن الواقعة تحت سيطرة القوى الوطنية، لثقتهم الكبيرة باستتباب الأمن والاستقرار فيها.
ومن تعز إلى إب الخضراء التي تنعم بأمن ليس له مثيل، حسب شهادة أبناء مدينتها.
وعلى طول الطريق المؤدي من إب إلى ذمار, المحافظة التي لم يستطع قصف العدوان لها إخفاء المساحات الزراعية الشاسعة التي تنتظر بلهفة هطول الأمطار لتتشح هي الأخرى بالأخضر، فإنها أيضاً تشترك مع سابقاتها بالأمن والاستقرار الذي يوفره أبطال الجيش واللجان الشعبية وتعاون المواطنين الشرفاء فيها.
لا يدرك معظم قاطني مناطق سيطرة القوى الوطنية أن الأمن الذي ينعمون به هو نتاج عمل وجهد كبيرين لأجهزة الجيش واللجان الشعبية, ويستمر أفرادها في بذل جهود جبارة بكل أمانة وإخلاص, يواجهون فيها صعوبات وتحديات جمّة ليضمنوا استمرار نعمة الأمن والاستقرار التي تعد أول حق على الدولة لمواطنيها.
إن هؤلاء الرجال لا هم لهم سوى الحفاظ على أمن وسلامة الوطن, ولأيلول الشعب والأنصار علاقة بهذا الأمر، كون الحس والوعي الوطني تكوَّن بنسبة كبيرة في عقول معظم أبناء الوطن بعد قيام الثورة في 2014م، وبالتالي في جنوده أيضاً.
لقد غاب المشهد الذي يظهر فيه حرص منتسبي الجيش والأمن على أداء واجبهم بوطنية وإخلاص، لفترة طويلة، خصوصاً بعد أن سيطرت أيدي العمالة والوصاية على أركان الدولة إبان أحداث فبراير 2011م، ولا ينكر هذا إلا جاحد, وقد تعمدت تلك الأيادي المرتهنة للخارج تفكيك المؤسسات العسكرية والأمنية لإضعافها, باذلة كل جهدها بشتى الوسائل الممكنة لتنتزع الوطنية من منتسبي تلك المؤسسات الذين يمثلون صمام أمان البلد، وتضعف بل تعدم ثقة المواطن بهم, حتى تتمكن من تنفيذ مشروعها القذر في اليمن بسهولة ويسر, ولكن ثورة الشعب التي اندلعت في الـ21 من أيلول، بقيادة أنصار الله، أوقفت ذلك المشروع القذر، وقطعت يد الوصاية الخارجية, وعملت على إعادة الاعتبار لأفراد الجيش والأمن، وتعزيز ثقة المواطنين بهم، بنزعها أقنعة الكثير من الوجوه التي كانت تعمل على تدمير الوطن بادعاء حبه والاهتمام لشأنه, وهذا دفع قوى الظلم والاستكبار العالمي لشن عدوان سافر وظالم على اليمن, وهو ما جعل اليمنيين يدركون عدوهم الحقيقي، وجعلهم بمختلف أطيافهم ومكوناتهم يتمسكون بقضيتهم، وينتصرون لها بأي ثمن، والشواهد كثيرة, وما ذُكر آنفاً ليس إلا قطرة من بحر.
ولهذا يجب على الجميع معرفة أن هناك أبطالاً صامدين في مناطق تشتهر بأقسى الظروف المناخية، ويبذلون الغالي والنفيس ليلاً ونهاراً من أجل الوطن وحياة أبنائه والحفاظ على أمنهم وسلامتهم.