ليسوا يمنيين لكن إنسانيتهم جعلتهم ينطقون بلسان يمني مبين
بريطانيون مع اليمن وضد بريطانيا


يرى المفكر وعالم الاقتصاد السياسي البريطاني تشارلز تيلي، أن الدولة الأوروبية الحديثة بصورتها الراهنة هي نتيجة غير مقصودة لسعي أولئك الذين يشار إليهم بأنهم (بناة الدول) الى تأمين مصالحهم عبر 4 أنشطة رئيسية هي صناعة الحرب وإيجاد الموارد واستخراجها وبناء أجهزة الحكم وتوفير الحماية للطبقات المتحالفة معهم.. وفي مقالة معمقة بعنوان (صناعة الحرب وبناء الدولة بوصفها جريمة منظمة) نشرتها دورية صادرة عن جامعة كامبريدج، يوضح تيلي (بناة الدول) الأوروبية بأن الوضع الذي قام على الانشطة الأربعة قد تطلب تقييد صلاحيات الحكام لصالح المحكومين نتيجة لضرورة فرضتها حاجة الحكام الى الموارد التي يوفرها المحكومون عبر الضرائب والديون، وليست نتيجة مبادئ أخلاقية أو قيمية لدى الحكام، ومع ظهور الحقبة الاستعمارية تمدد نموذج الدولة الأوروبية الى بقية أنحاء العالم، حيث نشأت دول تعتمد على آلة الحرب التي يوفرها الأوروبيون، لكن الفئة الحاكمة في هذه الدول لا تعتمد على شعوبها المحكومة مباشرة في توفير الموارد، وإنما تعتمد على مصادر الثروات الطبيعية أو امتيازات الموقع على خطوط التجارة العالمية، وبهذا فإنهم كنخبة حاكمة امتلكوا قوة استثنائية بسيطرتهم على زمام الأجهزة العسكرية، ولكن بصلاحيات غير مقيدة.
بإضاءة تشارلز تيلي يمكن فهم السياق الذي تخلقت فيه بيئة صناعة الحرب على الصعيد العالمي، وعلاقة ذلك بازدهار تجارة السلاح من مصدريها في أوروبا سابقاً، ثم الدول الأخرى التي التحقت بركب صناعته وبيعه.

بيئة وافرة الفرص
وجود آلة الحرب ومخازن زاخرة بأنواع السلاح المعد للبيع، وبالاقتران مع وجود زبائن قادرين على الشراء لتعزيز ترسانتهم العسكرية غير المقيدة الصلاحيات وغير الخاضعة للمساءلة، كل هذا أنشأ بيئة مثالية وافرة الفرص والمنافع على ضفتي البائعين والزبائن أيضاً، وتم إنماؤها وإكسابها طابعاً أكثر استدامة من خلال اتفاقيات التبادل التجاري وبناء المنشآت والقواعد العسكرية وتشكيل الأحلاف السياسية، وتتوسع عمليات التبادل والبيع والشراء كعلاقة زبائنية لتشمل كل المجالات تقريباً، مع احتفاظ تجارة السلاح بموضع حجر الزاوية في تلك العلاقة الزبائنية.

صدارة القوائم
في سوق السلاح العالمي يتصدر قائمة البائعين (المصدرين) كل من الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا وفرنسا، بينما تتصدر دول الخليج واليابان قائمة الزبائن، وبمطابقة القائمتين يمكن الإدراك أن الحرب العدوانية على اليمن هي إحدى نقاط التقاطع والتقاء المصالح التي تمثل تجارة الأسلحة والذخائر والمعدات العسكرية المدماك الأهم، في فضاء دولي تأسس وانتظم ونما في بيئة تعتبر الحرب أحد أهم الموارد الاقتصادية، وصناعة الحرب نشاطاً رئيسياً تضطلع به الدولة وتجير من أجله الموارد، فهي تعمل على بلورة أسباب الحرب، ومن ثم استثمار نتائجها وظروفها، فأصبحت اليوم سوق السلاح في المرتبة الثانية عالمياً بعد سوق الطاقة والنفط من حيث أكثر القطاعات التي تتبادل فيها دول العالم عمليات البيع والشراء.

بريطانيا في السوق
بريطانيا أكبر امبراطوريات الحقبة الاستعمارية تقدم المثال الأقدم في مضمار صناعة الحرب وفق نموذج تيلي عن نشأة الدولة الأوروبية، هذا المثال ما زال قيد العمل اليوم، وفي عدد من الملفات والصراعات الدولية، وفي كثير من الحروب، ومنها العدوان على اليمن.
بحسب بيان صادر عن حملة مناهضة تجارة السلاح، في 30 مارس 2017، فإن مبيعات السلاح البريطانية للسعودية بلغت 3.3 مليار جنيه استرليني (ما يعادل 4.1 مليار دولار) منذ بداية الحرب على اليمن في شهر مارس 2015، وبذلك تكون السعودية هي أكبر مشترٍ للسلاح البريطاني والأمريكي أيضاً.
مبيعات السلاح البريطانية للسعودية مضافاً إليها الدعم اللوجستي والمعلوماتي، جعل حكومة بريطانيا في عهد كاميرون وتيريزا ماي مشاركة فعلياً في قتل المدنيين اليمنيين وتدمير البنية التحتية للبلاد، وهي جريمة تستوفي شروط الإدانة وفق القانون البريطاني، حيث إن بريطانيا موقعة على اتفاقية دولية تجرم مبيعات السلاح للدول والأطراف التي يحتمل أن تستخدمه في ارتكاب جرائم ضد القانون الدولي الإنساني، وهو قانون أصبح ساري المفعول بموجب الاتفاقية قبل بدء العدوان على اليمن.

علاقة لا تلخصها مبيعات السلاح
مبيعات السلاح ليست العمود الوحيد الذي شيدت به بريطانيا علاقاتها المتشابكة والمتعددة المجالات والأدوار مع الأسرة الحاكمة في السعودية، ولا يمكن تلخيصها في رقم يتيم (4 مليارات دولار خلال عامين)، لكن هذا الرقم مثل نقطة ارتكاز وحجة قانونية أمام الناشطين البريطانيين المناهضين للعدوان على اليمن وتجويع سكانه، ودليلاً واضحاً يمكنهم الاعتماد عليه ليس فقط أمام الجهات القضائية البريطانية، ولكن أمام الرأي العام أيضاً، خاصة مع صور ومشاهد الفظائع والمجازر بحق الأبرياء اليمنيين التي تصل عبر شبكات التواصل الاجتماعي أو مشاهد التدمير التي تنشرها هناك على استحياء بعض وسائل الإعلام، فتأسس على هذه المفردات نوع من المناهضة للحرب على اليمن، وأصبح مجموعة من الفاعلين الاجتماعيين يخاطبون الجمهور والجهات الرسمية، بل وينظمون حملات تتهم حكومتهم صراحة بالتورط والتواطؤ في جرائم حرب بحق اليمنيين.

أوقفوا إسقاط القنابل البريطانية على اليمن
هذه الجملة التي لخصت هدف حملة أطلقتها منظمة أوكسفام البريطانية منذ شهور، تحت عنوان (اليمن خط أحمر) Red line for Yemen، وتسعى الحملة الى استصدار قرار رسمي بريطاني بوقف تزويد السعودية بالسلاح وفتح تحقيق حول جرائم الحرب التي نفذت بسلاح بريطاني ودعت المواطنين البريطانيين إلى التفاعل مع الحملة من خلال إرسال رسائل عبر البريد العادي الى ممثليهم داخل مجلس العموم (البرلمان البريطاني) ولوزراء الحكومة.
وفي آخر الأرقام التي أعلنتها الحملة المستمرة حتى الآن، فإن 300 ألف بريطاني تفاعلوا معها وأرسلوا رسائل بريدية الى ممثليهم في مجلس العموم وأعضاء الحكومة، ومن ضمن المستجيبين للدعوة شخصيات مشهورة أحدها الممثل البريطاني سيمون بيج الذي نشر مقطع فيديو كتغريدة مثبتة على حسابه في (تويتر) الذي يربو عدد متابعيه عن 6 ملايين، وأوضح في الفيديو رسالته الورقية التي سيرسلها الى ممثله البرلماني، داعياً الجميع الى فعل ذات الشيء.

مواطنون يعتقلون المجرمين
في خطوة ذكية من أجل لفت أنظار الإعلام والرأي العام في بريطانيا الى دور حكومتهم في قتل اليمنيين وارتكاب جرائم ضد الإنسانية، قام سام والتون، أحد أبرز المناهضين للحرب على اليمن في بريطانيا، مع مجموعة من رفاقه في 30 مارس 2017، بمحاولة اعتقال أحمد العسيري، الناطق باسم تحالف دول العدوان، باعتباره مجرماً، قبل أن تحول الشرطة بينهم وبين اعتقاله.
هذه الخطوة جاءت استناداً الى قانون بريطاني يسمح للمواطنين باعتقال الأشخاص المجرمين، وكانت تمهيداً مدروساً للخطوة التي تلتها، حيث أصدرت حملة مناهضة تجارة السلاح CAAT، في ذات اليوم، بياناً معززاً بالأرقام والأدلة عن الجرائم المنافية للقانون الدولي الإنساني التي ترتكبها الطائرات السعودية في اليمن، وبعدها بأيام قدمت الحملة طلباً لمحكمة بريطانية فحواه المطالبة بإصدار حكم قضائي يمنع تزويد السعوديين بالسلاح والذخائر، لأن الأسلحة المباعة من بريطانيا لحليفها السعودي من المحتمل أنها استخدمت في انتهاكات ضد القانون الدولي الإنساني، وأن حكومة تيريزا ماي لا يمكنها التأكد من حقيقة استخدامات تلك الأسلحة والذخائر، وأن 99 موقعاً من أصل 122 موقعاً من الواقع المستهدفة فحصتها الحملة، هي مواقع لا علاقة لها بالأهداف العسكرية.

اقتحام
وفي نهاية شهر فبراير يستمر مشهد الإصرار على تصدير قضية الحرب العدوانية على اليمن، حيث قام القس دانيال وودهاوس وسام والتون باقتحام مقر شركة BAE في مقاطعة لانكشاير، وحاولا منع طائرة محملة بالذخيرة متوجهة إلى الرياض من الإقلاع، إلا أن الشرطة اعتقلتهما ثم أفرجت عنهما بكفالة بعد أن حددت موعداً لمحاكمتهما، وصرح بعدها دانيال وسام للإعلام بأنهما فعلا ذلك لأن الحكومة تصر على تجاهل مطالبهما المتوافقة مع القانون، مطالبين بمحاكمة السعودية والحكومة البريطانية وشركة BAE على قتلهم للمدنيين اليمنيين.

الشرطة ترد
في بداية شهر أبريل قدم محامي حقوق الإنسان في بريطانيا دانيال ماكوفر، طلباً للشرطة يطالب بالتحقيق في ارتكاب جرائم حرب من قبل السعوديين في اليمن، وأبلغت وحدة مكافحة الإرهاب المحامي أنها بصدد تقييم إمكانية رفع دعوى قضائية بشأن (الحملة الجوية السعودية في اليمن)، مع الإشارة الى أنه لا يوجد تحقيق في الوقت الراهن.

مساحة صوت
قد لا تفضي هذه التحركات من قبل بعض المنظمات والحملات والفاعلين الاجتماعيين الى تغيير فعلي في سياسة الحكومة البريطانية المنخرطة في العدوان على اليمن عسكرياً وسياسياً، خاصة أن جرائم العدوان قد وردت في العشرات من التقارير الصادرة عن هيئات أممية أو منظمات دولية مستقلة، لكنها تشق مساحات إعلامية للتعبير ونقل الصورة الحقيقية عن الوضع في اليمن، وعن الفظائع والانتهاكات والمجازر المتواصلة بحق اليمنيين، والتخريب والتدمير الممنهج للبنى التحتية والمقدرات الاقتصادية، وكسر الطوق الإعلامي المفروض حول الوضع في اليمن، إضافة الى تشكيل أرضية يمكن البناء عليها في مسار معركة قانونية حتمية ولا بد أن تأتي يوماً.