
ما إن يلامس أديمها قطرات السماء حتى تورق فيها الحياة زرعاً وغذاء، وفي حناياها يبني الإنسان مأواه ومسكنه الذي يقيه حر الصيف وزمهرير الشتاء، تلك هي سيرة الأرض في إب، تعطي بسخاء بحر لا ينضب، تاركة للبشر خيار الإساءة أو الإحسان، الاستغلال أو الإهدار، هي تمنح سبل الحياة، ونشاط الإنسان هو من يرسم مصب هباتها وأعطياتها.
مدينة إب، تجد في هوائها وجمال محيطها الطبيعي نفحة سعادة كأنها اقتطعت من الجنة لتوضع تحت مرآك، لكن إن كنت ممن يبحثون عن قطعة أرض للبناء، فاملأ حقيبتك بملايين الريالات لتحصل فقط على مساحة لا تتجاوز 40 متراً مربعاً، أما المساحات الأكبر فدونها عشرات وربما مئات الملايين.
ذلك هو الفصل الأكثر احتداماً ودرامية من سيرة الأرض في إب، هنا التراب يباع بوزنه ذهباً، الأرض العقارية تصاعدت أسعارها باطراد خلال الـ15 عاماً الماضية، لتصل إلى أرقام قياسية، وتتصدر مدينة إب كل مدن الجمهورية من حيث غلاء أسعار الأرض، وتخطى سعر المتر مربع حاجز 500 ألف ريال يمني في منطقة الدائري غرب المدينة، وفي كل الأحوال لا يقل سعر المتر المربع عن 150 ألفاً حتى في الأحياء التي عقاراتها أقل سعراً، وهو سعر لا يقوى على دفعه سوى المغتربين والتجار أو ذوي الدخل المرتفع، أما محدودو الدخل والفقراء فاقتناء قطعة أرض أو شراؤها بات حلماً بعيد المنال منذ سنوات.. لا يمكننا المبالغة بالقول إن هذه الأسعار أصبحت محاذية لأعلى الأسعار العالمية التي تتراوح بين 16 و59 ألف دولار للمتر المربع الواحد، كما أنها دون أعلى الأسعار إقليمياً، حيث العاصمة اللبنانية بيروت على سبيل المثال يصل سعر المتر المربع في منطقتها المركزية إلى 10 آلاف دولار، بيد أن سعر المتر المربع في مدينة إب هو الأعلى يمنياً، حيث تجاوز أسعار الأرض العقارية في كل المدن اليمنية، بما فيها العاصمة صنعاء.
ارتفاع أسعار الأرض العقارية في إب لا يعزى إلى سبب واحد دون غيره، كما لا يمكن أن يعزى إلى زيادة عدد سكان المدينة بسبب موجات النزوح، مع أن موجات النزوح قد سببت فعلاً ارتفاع إيجارات المساكن، لكن هذا لم ينعكس بشكل كبير على سعر الأرض، كون الارتفاعات السعرية حدثت بشكل مطرد خلال 15 عاماً، ولأن النازحين نتيجة الأزمة الاقتصادية لم يشكلوا قوة شرائية كبيرة قادرة على التأثير على قيمة قطع الأرض بشكل مباشر، هذا المستوى السعري المرتفع جاء كحصيلة لعدد من العوامل المتضافرة خلال فترة زمنية تمتد لسنوات.
مدينة تسورها الجبال وملكيات محدودة
المدينة مطوقة بالجبال والمنحدرات، فجبل بعدان يحد توسع المدينة من الشمال الشرقي، ومنحدرات مشورة تحد توسعها غرباً، ومن الجنوب الغربي يحدها حوض وادي ميتم الذي يمنع البناء فيه رسمياً، وتبقى اتجاهات ضيقة للتوسع من الشمال الغربي باتجاه المنحدر الضيق المؤدي إلى وادي السحول، والجنوب الغربي باتجاه شبان ومن ثم منحدرات النجد الأحمر، وهي اتجاهات لا تتيح مساحات مفتوحة على المدى، إذ إنها تصطدم بالجبال أو المنحدرات بعد مسافة ليست بعيدة عن المدينة.
وفق هذه المعطيات الجغرافية ليس في وسع المدينة أن تلبي شراهة التوسع العمراني وفق السرعة والوتيرة اللتين يمضي بهما حالياً، والتي جعلت بقعة استثنائية مثل إب تحت طائلة الاستدعاء الملح لنمو وطفرة عمرانية مهولة تراوغ جغرافيا الجبال، وتأتي على ما انخفض من الوديان لتحيلها من لونها الجنائني الأخضر إلى عتمة إسمنتية. الجغرافيا المغلقة أسهمت بشكل كبير في ارتفاع أسعار الأرض من حيث قلة المساحات المستوية الصالحة للتوسع العمراني بشكله الحضري الذي لا يكون مجرد زيادة في أعداد المباني، ولكن أيضاً زيادة الطرق والشوارع الإسفلتية والبنية التحتية.
وفي نفس الاتجاه، فإن ملكية الأرض المحدودة داخل المدينة هي الأخرى كان لها إسهامها في إشعال لهيب الأسعار، فعائلات معدودة لا يتجاوز عددها أصابع اليدين تحوز نصيب الأسد من ملكيات الأراضي التي حازتها بالتوارث من اجيال سابقة من الآباء والجدود الذين سكنوا المنطقة قبل عهود حين كانت ما زالت مجرد ريف زراعي.
القطاع العقاري وجهة مفضلة لاستثمارات الأفراد
محافظة إب هي الأولى يمنياً من حيث عدد المغتربين من أبنائها، هؤلاء المغتربون يعملون في دول شتى أهمها دول الخليج والولايات المتحدة، وما يوفرونه من عائدات العمل والتجارة هناك يعودون به إلى أرض الوطن ليستثمروه، وقطاع العقارات هو المجال المفضل لديهم كأفراد، ولدى الكثير من اليمنيين أيضاً، فهو قطاع يمتاز بنسبة أمان عالية، ونظراً للثقافة التقليدية أيضاً التي تعطي أولوية لملكيات الأرض والبناء الأكثر ارتباطاً بوضع العائلة على غيرها من أشكال الملكيات، وهذا يؤثر على السلوك الاقتصادي للأفراد، فرب الأسرة يفضل توفير مصدر دخل لأسرته في الحاضر والمستقبل، القطاعات الأخرى التي يمكن للاستثمارات الفردية أن تتجه إليها مثل الصناعات الصغيرة والزراعة، لا تحظى عادة بإقبال المغترب في ظل غياب برامج رسمية موجهة لتحفيز مدخرات الأفراد للاستثمار فيها.
إقبال أبناء المحافظة المغتربين على الاستثمار العقاري في محافظتهم، وتحديداً في مدينة إب، أجج نار أسعار العقارات والأراضي، وهذا بدوره تخلق عنه عامل آخر كان له تأثيره، وهو المضاربة بالأسعار من قبل باعة الأرض أو المشترين أو سماسرة العقارات، فالمساحة التي يتنافس عليها أكثر من مشترٍ يرتفع سعرها جراء المنافسة حتى وإن لم يكن هناك أية زيادة في قيمتها الاقتصادية الفعلية، بل إن للمضاربات سوقها أيضاً، حيث يقوم من لديهم سيولة مالية بشراء قطع الأرض التي لم يصلها العمران بعد، تمهيداً لبيعها عندما يصل إليها البناء وفقاً لآلية التجميع والتصريف المعروفة في مضاربات ومداولات الأسهم في البورصات، فمقابل كل قطعة أرض يبيعها في المدينة يشتري أخرى في الضواحي، وهو يعول على أن الربح سيكون الفارق بين البيع والشراء، خاصة أن حركة البناء والتوسع تتم بسرعة، وليس مضطراً للانتظار سنوات طويلة ليصل العمران إلى عقاره الجديد.
من المنع إلى السماح بلا قيود
قبل مجيء الرئيس اليمني الأسبق عبدالرحمن الإرياني، كان استحداث البناء أو الشوارع في ضواحي المدينة غير مسموح به بهدف حماية المساحات الزراعية في المحافظة التي كانت سابقاً سلة الحبوب في اليمن، هذا المنع انتهى إبان الرئيس الإرياني، وسمح حينها باستحداث المباني والشوارع، وهو السماح الذي أصبح باباً مفتوحاً بلا قيود وبلا مراعاة لطبيعة المنطقة الزراعية وخصوبتها النادرة في تضاريس اليمن، فسرعان ما التهمت الكتل الإسمنتية والأسواق ملامح الطبيعة خلال العقود التالية، وهي مثال واضح على سوء إدارة الموارد، فمقابل تنمية موارد غير قابلة للتجدد إلا بنفقات إضافية، وهي الموارد العقارية، يتم القضاء على مورد مستديم وقابل للتجدد من تلقاء نفسه، وهو الطبيعة التي يمكن استثمارها كمصدر دخل للأفراد والحكومات على حد سواء، دون تدميره، أو كان بالإمكان السماح بالتوسع وفق شروط تبقي على البيئة المحيطة من خلال اقتطاع مساحات خضراء أو وديان ومصبات مياه، وكذلك من خلال التحكم بسرعة الاستحداث بضبطه بنسبة معينة سنوياً.. ما حدث كان بمثابة إطلاق لعنان رغبة مكبوتة للتخلص من الثراء البيئي والطبيعي، والأعوام التي أعقبت عام 2000م أتت على الضواحي الزراعية، واختفى لونها الأخضر في غمرة تزاحم البناء، خلال الأعوام 2011، 2012، 2013 مثلاً تربعت إب على رأس القائمة اليمنية في عدد تصريحات البناء وفقاً للأرقام الرسمية، وفي 2013 وحده بلغ عدد التراخيص في المحافظة 2,016 رخصة بناء، بنسبة 33% من إجمالي رخص البناء الصادرة في كل المحافظات، وتبلغ تكلفة البناء التقديرية بحسب تلك الرخص 12 ملياراً و946 مليون ريال، تلتها محافظة الحديدة التي بلغ عدد تراخيص البناء فيها خلال نفس العام 1,026 رخصة بناء، بنسبة 17% من إجمالي رخص البناء الصادرة في الجمهورية، أي أن إب تسبق أقرب محافظة لها بنسبة 100%.
وعند إلقاء نظرة على عدد المباني الموجودة فعلياً في كل محافظة، فمحافظة إب تأتي في المرتبة الثالثة بعد أمانة العاصمة ومحافظة تعز، وبحسب إحصائيات صادرة عن الجهاز المركزي للإحصاء عام 2013م، فإن عدد المباني في الأمانة 66,944 مبنى تتوزع ما بين المباني السكنية والتجارية والمنشآت الصناعية والخدمات والمرافق الحكومية، وفي المرتبة الثانية محافظة تعز بعدد 32,992 مبنى، وفي المرتبة الثالثة محافظة إب بعدد 22,887 مبنى، وهو رقم يتزايد كل عام، ومن المتوقع أن يتخطى محافظة تعز خلال الأعوام القليلة القادمة.
في معنى الحصاد
النشاط البشري له نتائجه، وعندما يتم توجيهه نحو أهداف محددة يقترب منها بمقدار التزامه بالمسارات المؤدية للهدف، لكن عندما يكون هذا النشاط رهن الصدفة والعشوائية وبدون حساب للنتائج، فإن الحصيلة لن تكون براقة وجميلة على الدوام، ما ورد ذكره من أسباب الارتفاع الجنوني لأسعار الأراضي في مدينة إب، يضعنا أمام سؤال النتائج.
أراضٍ عامة مشرعة للسطو ومدينة تختنق
على وقع لهيب سوق العقارات والأراضي نما وباء الاعتداء على الأراضي العامة والتجاوز بالبناء أو البيع إلى الشوارع، سواء من قبل متنفذين أو من قبل مواطنين عاديين، فأمتار قليلة يضيفها إلى أرضه من شارع عام، تعني ملايين يضيفها إلى أملاكه، لذلك فإن شوارع المدينة رغم حداثة تخطيطها وشقها ضيقة كأنها في مدينة قديمة تم تخطيطها وإنشاؤها في العصر المملوكي لا تتسع لحركة السيارات والمارة. تجول في كل شوارع المدينة أثناء الظهيرة لترى الاختناقات المرورية في ذروتها، بما فيها تلك التي تم شقها منذ بضع سنوات فقط، وتقع على مداخل المدينة، إنها نار العقارات معززة بسوء الإدارة والتخطيط وضعف الرقابة، تقضم حرية الناس في الحركة وقدرتهم على التنقل بين أعمالهم ومنازلهم.. هذه النار لم تبق للمدينة ساحات ولا حدائق عامة، حتى (صلبة السيدة) التي أوقفتها أروى الصليحي، ذات زمن، كمراعٍ للمواشي، يمنع فيها البناء والزراعة، أنشئت فوقها جامعة إب وبعض المنشآت الحكومية، ونسي الجميع أن مدينتهم بلا متنفسات أو حدائق، مدينة يسورها جمال الطبيعة الذي يتم طرده خارجها وحرمانها منه.
أرق خلافات الأراضي
خلافات الأراضي تتصاعد حرارتها على صفيح الأسعار، فأصوات الأعيرة النارية لا يكاد يخلو منها يوم من أيام المدينة، والتي يكون مصدرها اشتباك متنازعين على قطعة أرض هنا أو هناك، وأمام المحاكم بدرجاتها المختلفة والنيابات وجهات الضبط، تمثل نزاعات الأراضي النسبة العظمى من القضايا المنظورة والمحالة، والتي تبقى منظورة وفي إطار التداول لسنوات قبل البت فيها في الكثير من الأحيان، نظراً لتعقيداتها من ناحية، وتحولها إلى باب للإثراء غير المشروع لدى بعض المعنيين من خلال الرشاوى والأجر المتعددة من ناحية أخرى، وهي بيئة ساعد سعار الأراضي على خلقها ونموها.
حلم يغادر الفقراء وذوي الدخل المحدود
في سوق لا يتكلم إلا بلغة الـ6 أرقام كقيمة (لقصبة) أرض، فإن الفقراء ومحدودي الدخل يغيبون عن مقاعد الباعة والزبائن على حد سواء، فإمكاناتهم ومداخيلهم لا تفي بنصف قيمة أرض لبناء بيت صغير من 3 غرف. المغتربون والتجار والملاك هم وحدهم من يسعهم دخول السوق، وللفقراء وذوي المداخيل المحدودة حق التخلي عن حلم بناء أو امتلاك منزل صغير يكفيهم ثقل الإيجار الشهري، ويذود عنهم تقلبات إيجارات المساكن والبيوت.
الوديان والأحواض المائية في قائمة الضحايا
وادي السحول أحد أخصب الأودية في اليمن، والواقع في الشمال الغربي من مدينة إب، بات اليوم في مرمى هدف التوسع العمراني الذي بدأ فعلاً ينزاح باتجاه الوادي، ما يعني أن السحول الخصيب قد يغدو بعد عقد من الزمن جزءاً من الذاكرة، نقرأ عنه في التاريخ، ونراه في الصور فقط، أما وادي ميتم في الجنوب الشرقي من المدينة، والذي يحوي حوضاً مائياً، ويمنع البناء فيه رسمياً، فهو الآخر بدأت يد البناء والعمران تطال بعض أطرافه، وبعض تلك المباني المستحدثة فوق الحوض بنيت بتراخيص رسمية رغم المنع الرسمي والمعلن.
مدينة إب، تجد في هوائها وجمال محيطها الطبيعي نفحة سعادة كأنها اقتطعت من الجنة لتوضع تحت مرآك، لكن إن كنت ممن يبحثون عن قطعة أرض للبناء، فاملأ حقيبتك بملايين الريالات لتحصل فقط على مساحة لا تتجاوز 40 متراً مربعاً، أما المساحات الأكبر فدونها عشرات وربما مئات الملايين.
ذلك هو الفصل الأكثر احتداماً ودرامية من سيرة الأرض في إب، هنا التراب يباع بوزنه ذهباً، الأرض العقارية تصاعدت أسعارها باطراد خلال الـ15 عاماً الماضية، لتصل إلى أرقام قياسية، وتتصدر مدينة إب كل مدن الجمهورية من حيث غلاء أسعار الأرض، وتخطى سعر المتر مربع حاجز 500 ألف ريال يمني في منطقة الدائري غرب المدينة، وفي كل الأحوال لا يقل سعر المتر المربع عن 150 ألفاً حتى في الأحياء التي عقاراتها أقل سعراً، وهو سعر لا يقوى على دفعه سوى المغتربين والتجار أو ذوي الدخل المرتفع، أما محدودو الدخل والفقراء فاقتناء قطعة أرض أو شراؤها بات حلماً بعيد المنال منذ سنوات.. لا يمكننا المبالغة بالقول إن هذه الأسعار أصبحت محاذية لأعلى الأسعار العالمية التي تتراوح بين 16 و59 ألف دولار للمتر المربع الواحد، كما أنها دون أعلى الأسعار إقليمياً، حيث العاصمة اللبنانية بيروت على سبيل المثال يصل سعر المتر المربع في منطقتها المركزية إلى 10 آلاف دولار، بيد أن سعر المتر المربع في مدينة إب هو الأعلى يمنياً، حيث تجاوز أسعار الأرض العقارية في كل المدن اليمنية، بما فيها العاصمة صنعاء.
ارتفاع أسعار الأرض العقارية في إب لا يعزى إلى سبب واحد دون غيره، كما لا يمكن أن يعزى إلى زيادة عدد سكان المدينة بسبب موجات النزوح، مع أن موجات النزوح قد سببت فعلاً ارتفاع إيجارات المساكن، لكن هذا لم ينعكس بشكل كبير على سعر الأرض، كون الارتفاعات السعرية حدثت بشكل مطرد خلال 15 عاماً، ولأن النازحين نتيجة الأزمة الاقتصادية لم يشكلوا قوة شرائية كبيرة قادرة على التأثير على قيمة قطع الأرض بشكل مباشر، هذا المستوى السعري المرتفع جاء كحصيلة لعدد من العوامل المتضافرة خلال فترة زمنية تمتد لسنوات.
مدينة تسورها الجبال وملكيات محدودة
المدينة مطوقة بالجبال والمنحدرات، فجبل بعدان يحد توسع المدينة من الشمال الشرقي، ومنحدرات مشورة تحد توسعها غرباً، ومن الجنوب الغربي يحدها حوض وادي ميتم الذي يمنع البناء فيه رسمياً، وتبقى اتجاهات ضيقة للتوسع من الشمال الغربي باتجاه المنحدر الضيق المؤدي إلى وادي السحول، والجنوب الغربي باتجاه شبان ومن ثم منحدرات النجد الأحمر، وهي اتجاهات لا تتيح مساحات مفتوحة على المدى، إذ إنها تصطدم بالجبال أو المنحدرات بعد مسافة ليست بعيدة عن المدينة.
وفق هذه المعطيات الجغرافية ليس في وسع المدينة أن تلبي شراهة التوسع العمراني وفق السرعة والوتيرة اللتين يمضي بهما حالياً، والتي جعلت بقعة استثنائية مثل إب تحت طائلة الاستدعاء الملح لنمو وطفرة عمرانية مهولة تراوغ جغرافيا الجبال، وتأتي على ما انخفض من الوديان لتحيلها من لونها الجنائني الأخضر إلى عتمة إسمنتية. الجغرافيا المغلقة أسهمت بشكل كبير في ارتفاع أسعار الأرض من حيث قلة المساحات المستوية الصالحة للتوسع العمراني بشكله الحضري الذي لا يكون مجرد زيادة في أعداد المباني، ولكن أيضاً زيادة الطرق والشوارع الإسفلتية والبنية التحتية.
وفي نفس الاتجاه، فإن ملكية الأرض المحدودة داخل المدينة هي الأخرى كان لها إسهامها في إشعال لهيب الأسعار، فعائلات معدودة لا يتجاوز عددها أصابع اليدين تحوز نصيب الأسد من ملكيات الأراضي التي حازتها بالتوارث من اجيال سابقة من الآباء والجدود الذين سكنوا المنطقة قبل عهود حين كانت ما زالت مجرد ريف زراعي.
القطاع العقاري وجهة مفضلة لاستثمارات الأفراد
محافظة إب هي الأولى يمنياً من حيث عدد المغتربين من أبنائها، هؤلاء المغتربون يعملون في دول شتى أهمها دول الخليج والولايات المتحدة، وما يوفرونه من عائدات العمل والتجارة هناك يعودون به إلى أرض الوطن ليستثمروه، وقطاع العقارات هو المجال المفضل لديهم كأفراد، ولدى الكثير من اليمنيين أيضاً، فهو قطاع يمتاز بنسبة أمان عالية، ونظراً للثقافة التقليدية أيضاً التي تعطي أولوية لملكيات الأرض والبناء الأكثر ارتباطاً بوضع العائلة على غيرها من أشكال الملكيات، وهذا يؤثر على السلوك الاقتصادي للأفراد، فرب الأسرة يفضل توفير مصدر دخل لأسرته في الحاضر والمستقبل، القطاعات الأخرى التي يمكن للاستثمارات الفردية أن تتجه إليها مثل الصناعات الصغيرة والزراعة، لا تحظى عادة بإقبال المغترب في ظل غياب برامج رسمية موجهة لتحفيز مدخرات الأفراد للاستثمار فيها.
إقبال أبناء المحافظة المغتربين على الاستثمار العقاري في محافظتهم، وتحديداً في مدينة إب، أجج نار أسعار العقارات والأراضي، وهذا بدوره تخلق عنه عامل آخر كان له تأثيره، وهو المضاربة بالأسعار من قبل باعة الأرض أو المشترين أو سماسرة العقارات، فالمساحة التي يتنافس عليها أكثر من مشترٍ يرتفع سعرها جراء المنافسة حتى وإن لم يكن هناك أية زيادة في قيمتها الاقتصادية الفعلية، بل إن للمضاربات سوقها أيضاً، حيث يقوم من لديهم سيولة مالية بشراء قطع الأرض التي لم يصلها العمران بعد، تمهيداً لبيعها عندما يصل إليها البناء وفقاً لآلية التجميع والتصريف المعروفة في مضاربات ومداولات الأسهم في البورصات، فمقابل كل قطعة أرض يبيعها في المدينة يشتري أخرى في الضواحي، وهو يعول على أن الربح سيكون الفارق بين البيع والشراء، خاصة أن حركة البناء والتوسع تتم بسرعة، وليس مضطراً للانتظار سنوات طويلة ليصل العمران إلى عقاره الجديد.
من المنع إلى السماح بلا قيود
قبل مجيء الرئيس اليمني الأسبق عبدالرحمن الإرياني، كان استحداث البناء أو الشوارع في ضواحي المدينة غير مسموح به بهدف حماية المساحات الزراعية في المحافظة التي كانت سابقاً سلة الحبوب في اليمن، هذا المنع انتهى إبان الرئيس الإرياني، وسمح حينها باستحداث المباني والشوارع، وهو السماح الذي أصبح باباً مفتوحاً بلا قيود وبلا مراعاة لطبيعة المنطقة الزراعية وخصوبتها النادرة في تضاريس اليمن، فسرعان ما التهمت الكتل الإسمنتية والأسواق ملامح الطبيعة خلال العقود التالية، وهي مثال واضح على سوء إدارة الموارد، فمقابل تنمية موارد غير قابلة للتجدد إلا بنفقات إضافية، وهي الموارد العقارية، يتم القضاء على مورد مستديم وقابل للتجدد من تلقاء نفسه، وهو الطبيعة التي يمكن استثمارها كمصدر دخل للأفراد والحكومات على حد سواء، دون تدميره، أو كان بالإمكان السماح بالتوسع وفق شروط تبقي على البيئة المحيطة من خلال اقتطاع مساحات خضراء أو وديان ومصبات مياه، وكذلك من خلال التحكم بسرعة الاستحداث بضبطه بنسبة معينة سنوياً.. ما حدث كان بمثابة إطلاق لعنان رغبة مكبوتة للتخلص من الثراء البيئي والطبيعي، والأعوام التي أعقبت عام 2000م أتت على الضواحي الزراعية، واختفى لونها الأخضر في غمرة تزاحم البناء، خلال الأعوام 2011، 2012، 2013 مثلاً تربعت إب على رأس القائمة اليمنية في عدد تصريحات البناء وفقاً للأرقام الرسمية، وفي 2013 وحده بلغ عدد التراخيص في المحافظة 2,016 رخصة بناء، بنسبة 33% من إجمالي رخص البناء الصادرة في كل المحافظات، وتبلغ تكلفة البناء التقديرية بحسب تلك الرخص 12 ملياراً و946 مليون ريال، تلتها محافظة الحديدة التي بلغ عدد تراخيص البناء فيها خلال نفس العام 1,026 رخصة بناء، بنسبة 17% من إجمالي رخص البناء الصادرة في الجمهورية، أي أن إب تسبق أقرب محافظة لها بنسبة 100%.
وعند إلقاء نظرة على عدد المباني الموجودة فعلياً في كل محافظة، فمحافظة إب تأتي في المرتبة الثالثة بعد أمانة العاصمة ومحافظة تعز، وبحسب إحصائيات صادرة عن الجهاز المركزي للإحصاء عام 2013م، فإن عدد المباني في الأمانة 66,944 مبنى تتوزع ما بين المباني السكنية والتجارية والمنشآت الصناعية والخدمات والمرافق الحكومية، وفي المرتبة الثانية محافظة تعز بعدد 32,992 مبنى، وفي المرتبة الثالثة محافظة إب بعدد 22,887 مبنى، وهو رقم يتزايد كل عام، ومن المتوقع أن يتخطى محافظة تعز خلال الأعوام القليلة القادمة.
في معنى الحصاد
النشاط البشري له نتائجه، وعندما يتم توجيهه نحو أهداف محددة يقترب منها بمقدار التزامه بالمسارات المؤدية للهدف، لكن عندما يكون هذا النشاط رهن الصدفة والعشوائية وبدون حساب للنتائج، فإن الحصيلة لن تكون براقة وجميلة على الدوام، ما ورد ذكره من أسباب الارتفاع الجنوني لأسعار الأراضي في مدينة إب، يضعنا أمام سؤال النتائج.
أراضٍ عامة مشرعة للسطو ومدينة تختنق
على وقع لهيب سوق العقارات والأراضي نما وباء الاعتداء على الأراضي العامة والتجاوز بالبناء أو البيع إلى الشوارع، سواء من قبل متنفذين أو من قبل مواطنين عاديين، فأمتار قليلة يضيفها إلى أرضه من شارع عام، تعني ملايين يضيفها إلى أملاكه، لذلك فإن شوارع المدينة رغم حداثة تخطيطها وشقها ضيقة كأنها في مدينة قديمة تم تخطيطها وإنشاؤها في العصر المملوكي لا تتسع لحركة السيارات والمارة. تجول في كل شوارع المدينة أثناء الظهيرة لترى الاختناقات المرورية في ذروتها، بما فيها تلك التي تم شقها منذ بضع سنوات فقط، وتقع على مداخل المدينة، إنها نار العقارات معززة بسوء الإدارة والتخطيط وضعف الرقابة، تقضم حرية الناس في الحركة وقدرتهم على التنقل بين أعمالهم ومنازلهم.. هذه النار لم تبق للمدينة ساحات ولا حدائق عامة، حتى (صلبة السيدة) التي أوقفتها أروى الصليحي، ذات زمن، كمراعٍ للمواشي، يمنع فيها البناء والزراعة، أنشئت فوقها جامعة إب وبعض المنشآت الحكومية، ونسي الجميع أن مدينتهم بلا متنفسات أو حدائق، مدينة يسورها جمال الطبيعة الذي يتم طرده خارجها وحرمانها منه.
أرق خلافات الأراضي
خلافات الأراضي تتصاعد حرارتها على صفيح الأسعار، فأصوات الأعيرة النارية لا يكاد يخلو منها يوم من أيام المدينة، والتي يكون مصدرها اشتباك متنازعين على قطعة أرض هنا أو هناك، وأمام المحاكم بدرجاتها المختلفة والنيابات وجهات الضبط، تمثل نزاعات الأراضي النسبة العظمى من القضايا المنظورة والمحالة، والتي تبقى منظورة وفي إطار التداول لسنوات قبل البت فيها في الكثير من الأحيان، نظراً لتعقيداتها من ناحية، وتحولها إلى باب للإثراء غير المشروع لدى بعض المعنيين من خلال الرشاوى والأجر المتعددة من ناحية أخرى، وهي بيئة ساعد سعار الأراضي على خلقها ونموها.
حلم يغادر الفقراء وذوي الدخل المحدود
في سوق لا يتكلم إلا بلغة الـ6 أرقام كقيمة (لقصبة) أرض، فإن الفقراء ومحدودي الدخل يغيبون عن مقاعد الباعة والزبائن على حد سواء، فإمكاناتهم ومداخيلهم لا تفي بنصف قيمة أرض لبناء بيت صغير من 3 غرف. المغتربون والتجار والملاك هم وحدهم من يسعهم دخول السوق، وللفقراء وذوي المداخيل المحدودة حق التخلي عن حلم بناء أو امتلاك منزل صغير يكفيهم ثقل الإيجار الشهري، ويذود عنهم تقلبات إيجارات المساكن والبيوت.
الوديان والأحواض المائية في قائمة الضحايا
وادي السحول أحد أخصب الأودية في اليمن، والواقع في الشمال الغربي من مدينة إب، بات اليوم في مرمى هدف التوسع العمراني الذي بدأ فعلاً ينزاح باتجاه الوادي، ما يعني أن السحول الخصيب قد يغدو بعد عقد من الزمن جزءاً من الذاكرة، نقرأ عنه في التاريخ، ونراه في الصور فقط، أما وادي ميتم في الجنوب الشرقي من المدينة، والذي يحوي حوضاً مائياً، ويمنع البناء فيه رسمياً، فهو الآخر بدأت يد البناء والعمران تطال بعض أطرافه، وبعض تلك المباني المستحدثة فوق الحوض بنيت بتراخيص رسمية رغم المنع الرسمي والمعلن.
المصدر عبدالحليم الصلاحي/ لا