من العتبة النووية إلى «مرحلة تحت العتبة»!
- محمد بن دريب الشريف الأحد , 13 يـولـيـو , 2025 الساعة 8:06:53 PM
- 0 تعليقات
محمد بن دريب الشريف / لا ميديا -
هذا هو توصيف ما يجري بين «إسرائيل» وأمريكا من جهة وبين إيران من جهة أخرى بعد إعلان الهدنة بين الطرفين إثر الصراع العسكري الذي دام لمدة اثني عشر يوماً استهلك فيها الأمريكي و«الإسرائيلي» كل أوراقهما العسكرية واستنفدا كل خططهما في سبيل الإطاحة بأركان القوة الإيرانية.
إذ يسود المسافة بين الطرفين الكثير من الحذر والحيطة والخطوات الهادئة غير المسموعة نحو الخيارات المتاحة لكل منهما لزيادة معدل القوة ونسبة القدرات في رصيده العسكري.
في هذه المرحلة يحاول كل طرف أن يزيد من مستوى التخوف لدى الآخر من خلال تسريبات استخباراتية توحي بتحركات أمنيه وعسكرية، وكذلك الاعتماد على زيارات وعقد جلسات مع الحلفاء (سرية ومعلنة) والحديث عن اتفاقيات استراتيجية وصفقات تسليح وما إلى ذلك مما يوحي للطرف الأخر بأن الدخول في أي تصعيد عسكري هو عملية انتحار.
هذه المرحلة والتي يسمونها في العلوم الأمنية بـ«مرحلة تحت العتبة» هي أخطر المراحل بين الطرفين، إن بقيت، كونها تتيح فرصا كثيرة للأطراف بممارسة أعمال عدائية خطيرة، وقد تكون قاتلة دون أن تُحسَب على مفتعلها بما يستوجب الرد بطرق مباشرة وصريحة، كعمليات الاغتيالات للقادة السياسيين والعسكريين والتفجيرات واستهداف المنشآت الحساسة والموانئ الأمنية والعسكرية والمصانع وما إلى ذلك من أسرار القوة لدى أي نظام مقتدر، وكل ذلك إن جرى فإنما يكون عبر عملاء أو وسيط تكنولوجي ذكي وغير محسوس.
الانتقال من هذه المرحلة لن يكون إلا إلى مرحلة سلام أو مرحلة انفجار كبير يتشكل على إثره «شرق أوسط جديد» فعلاً إما بدون كيان الاحتلال أو بدون الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
ولهذا نجد التردد كبيرا من قبل الأطراف للإقدام على الخروج من هذه المرحلة. كما أن البقاء في هذه المرحلة صعبٌ جداً وغير محتمل باعتبار أنه كلما طال أمد البقاء اقترب نحو حافة الجحيم.
الخروج من هذه المرحلة إلى مرحلة الانفجار والدخول في صراع عسكري مميت هو ما يطلبه نتنياهو ورفاقه في كيان الاحتلال، ولهذا يمارس نتنياهو ضغوطاً هائلة على الإدارة الأمريكية عبر لوبيهات وقنوات رأسمالية كبيرة تحظى بتقدير لدى ترامب وطاقم إدارته، وكلها تهدف لسحب الولايات المتحدة إلى حلبة الصراع العسكري والحرب الضروس مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية وكذلك اليمن وقواته المسلحة المسيطرة على مياه البحر الأحمر، والتي تفرض من خلالها الحصار التجاري الخانق على الكيان المحتل وتعطيل موانئه.
إن الكيان الصهيوني بقيادة نتنياهو لا يعتمد على طريق واحدة أو وسيلة يتيمة لإخضاع ترامب لمصير الحرب، بل يشتغل على عشرات الوسائل والأدوات في سبيل تحقيق هذا الطموح، فكما أن اللوبيهات وقنوات المال والنخبة الرأسمالية في أمريكا وغيرها مُفَعَّلَة في هذا الاتجاه، كذلك الحضور الرسمي لنتنياهو في البيت الأبيض مسلح بلغة التمجيد والتعظيم لترامب وإدارته، وأيضاً سرد القصص الأسطورية (بالطريقة اليهودية المنمقة والماكرة) عن رجل السلام وصانع القرار الوحيد في العالم وبطل التاريخ الذي أنقذ العالم من «نظام الإرهاب الإيراني» وما إلى هنالك من السرديات والقصص الأسطورية التي يشرئب لها عنق ترامب وتتلاءم مع جنون عظمته ونرجسيته وهويته النفسية المُعتلة بالوهم والتخيلات الأسطورية! وهذا لا يُستهان به في سبيل الحصول على قرارِ مجازفةٍ ومغامرةٍ قاتلة من شخصٍ واهم ومعتل ومبتلى بالتخيلات وتمجيد الذات ويعيش حالة من الجنون تجعله يدير سياسات الولايات المتحدة الداخلية والخارجية بالطريقة التي تجعل منه أمام نفسه أسطورة وشخصية نادرة في التاريخ البشري!
وحقاً، هو شخصية نادرة من حيث الجينات (المضروبة) والمشوهة تكوينياً والتي نتج عنها إنسان مختل عقلياً ونفسياً لا مدى محدودا لتخيلاته حول ذاته! وبالتالي لا محظور، وكل شيء مباح نحو ما يصنع منه أسطورة التاريخ اليتيمة ولو كان قراراً يقضي بقتل الأمريكيين جميعهم فضلاً عن الشعوب الأخرى!
هذه النقطة في غاية الأهمية لفهم كيف يُصنع القرار الأمريكي حالياً وكل من يتعامل مع أمريكا لا بد له أن يضع هذه النقطة موضع اهتمام من الدرجة الأولى. ومن هنا حصل اليهود على مبتغاهم ويطمحون للحصول على المزيد في ظل إدارة قرارها بيد هذا المختل المولع بالوهم ومجد الأساطير.
ومما يعزز فرص هذا الاتجاه الصهيوني بالنسبة لشخصية ترامب المهووسة بالانتصارات هو الاستعانة بتقارير استخباراتية خاصة يتم عرضها عليه توحي بضعف القدرات العسكرية الإيرانية وعرض سيناريوهات خادعة تقلل من مخاطر ردات الفعل الإيرانية، وكون النظام لا يحتاج إلى مزيد من الوقت ولن يصمد طويلاً أمام أي حملة عسكرية أو هجوم أمريكي مدروس، بالإضافة إلى سيناريو التمرد الشعبي وهو (السيناريو القديم الجديد) الذي يعتمده الصهاينة كأهم محور في استراتيجياتهم وتنظيراتهم لسقوط نظام الجمهورية الإسلامية.
ونحو الخروج من «تحت العتبة» إلى مرحلة الانفجار يستعين كيان الاحتلال بأدوات ماكرة وخبيثة أيضاً، ولا أستبعد أن التصعيد الأخير في البحر الأحمر خلال اليومين الماضيين هو إحدى هذه الأدوات القذرة التي يحاول من خلالها نتنياهو أن يجر أمريكا مجدداً إلى صراع عسكري مع القوات المسلحة اليمنية، بل ومع الجمهورية الإسلامية، باعتبار أن مقاربته التي يقدمها ويريد أن يقنع الأمريكان بها هي كون ما يحدث في البحر الأحمر هو نتاج قرار إيراني! والأولى التوجه لضرب إيران بدلاً عن اليمن، خصوصاً واليمن أثبت أن حربه مكلفة والضربات العسكرية التي وجهت له في الفترة الماضية لم تأت بنتيجة إيجابية ولم تحقق أي ثمرة غير الفشل للكيان ولأمريكا معاً.
أما لماذا قد يكون التصعيد الأخير في البحر الأحمر وسيلة بيد نتنياهو لسحب ترامب إلى مربع الصراع العسكري من جديد فذلك يعتمد على كون القوات المسلحة اليمنية صارمة في موضوع فرض الحصار البحري ولا مداهنة في الأمر، وتتعامل بكل جدية، بل تضرب بيد حديدية كل من يفكر في كسر هذا الحصار، والإسرائيليون يعون هذا الأمر بشكل كبير من خلال تجاربهم السابقة.
وبالتزامن مع زيارة نتنياهو إلى البيت الأبيض ولقاء ترامب لا يُستبعد أنهم أوعزوا لبعض الشركات التجارية البحرية التابعة لهم بكسر هذا الحصار، لأنهم واثقون من أن ردة الفعل اليمنية ستكون استهداف هذه السفن وإغراقها، وهذا ما حدث فعلاً.
وبالتالي مطالبة الأمريكان بتنفيذ ضماناتهم بحماية الملاحة البحرية بالمقام الأول والتباكي إثر ما يفرض عليهم من حصار خانق وتدمير لسفنهم وقطع الإمدادات التجارية عنهم في الوقت الذي يُطلب منهم توقيف الحرب في غزة وعدم التصعيد مع لبنان!
ومن شاهد انطلاق العملية نحو توقيف السفن التي أرادت كسر الحصار على الكيان الغاصب وتعامل القوات المسلحة اليمنية معها وتنبيهها المكرر والمكرر، وتحذيرها من الإقدام على رفض تعليمات القوات البحرية وسرعتها غير المعتادة (والتي لم نرها في السفن التجارية) يتفهم أن تلك السفن كانت في مهمة استفزاز وتحد للقوات البحرية اليمنية، وبالتالي إحراقها ثم إغراقها! وهذا ما يريده نتنياهو خلال زيارته للبيت الأبيض لتكون هذه ورقة صالحة للعرض أمام الأمريكان لدفعهم نحو المسار العسكري والخروج من مرحلة «تحت العتبة» إلى مرحلة اللاعودة.
وأعتقد أن إغراق سفينتي «ماجيك سيز» و«إترنيتي سي» خلال اليومين الماضيين من قبل القوات اليمنية -تنفيذاً لقواعد الحصار المفروض على الكيان المحتل إثر حرب الإبادة التي يشنها على شعب فلسطين في غزة- لن تمر دون ردة فعل، وهي ما ستحدد مصير القرار الأمريكي إما بالاتجاه نحو السلام مع الاعتراف غير المعلن بالنفوذ اليمني على البحر الأحمر واحترام هذا الحق وعدم المساس بخصوصياته مع ضمان اليمنيين لأمن الملاحة البحرية وسلامتها (وهو ما التزم ويلتزم به اليمنيون في الحرب والسلم ما عدا ما يتصل بالكيان المحتل في ظل استمرار حربه الوحشية على غزة)، أو أن تكون هذه العملية حافزاً نحو التصعيد العسكري في ظل التوتر الشديد في المنطقة وحالة الحذر والاستنفار بين محور دول الشر من جهة ومحور دول المقاومة الإسلامية من جهة أخرى.
والذي أثبتته الأيام وأحداثها الجسام أن الطريقة اليمنية هي الأنجع وسبل المعاملة التي تعتمدها هي الأفضل والخيارات التي تفرضها هي الأذكى والأصح والأنجح مع أصحاب «نظرية السلام بالقوة'، فمن يؤمن بالقوة كوسيلة لتحقيق السلام هو يكشف سرّ هويته الطاغوتية ويعلن صريحاً بأنه لن يُسالم إلّا مَن يُفْرِط في استخدام القوة ضده، وهذا ما يتعمده اليمن من الوسائل لفرض السلام وبناء العلاقات مع كيانات وكائنات قذرة من هذا النوع.
نقطة مهمة في هذا السياق، وهي أن اليمن لديه حربه المستقلة مع أمريكا ومع «إسرائيل» أيضاً، وهي غير حرب الإسناد لغزة ومنفصلة عنها، وإن كانت مترتبة عليها من حيث الأسباب والتداعيات وتتمثل في تعطيل موانئ وتدميرها بالإضافة إلى منشآت اقتصادية ومصادر طاقة ومطارات وطائرات دمرتها آلة الحرب الأمريكية عن سبق إصرار وترصد، ولهذا وعليه يفترض أن آخر رصاصة في هذه الحرب ستنطلق من بندقية يمنية، ولا نستطيع أن نجزم بأن القوات المسلحة اليمنية ليس في حساباتها فرض معادلة صراع جديدة مع أمريكا والكيان المحتل وعدم السماح لهم هكذا بالانسحاب والذهاب مع عدم إغلاق الباب حسب ما يفرضه ويقرره العرف السياسي والدبلوماسي والقانون الدولي الجنائي من دفع التعويضات المستحقة جراء ما أتلفته آلة حربهم من منشآت ومصادر طاقة ومطارات وطائرات مدنية هي عماد اقتصاد اليمن والمنفذ الوحيد المتبقي الذي يربطهم مع دول وشعوب العالم.
هذا إن سلمنا أن الخروج من تحت العتبة سيكون الانتقال إلى مرحلة السلام والاستقرار في غزة وسوريا ولبنان والأهم (ما بين أمريكا و»إسرائيل» من جهة وإيران من جهة أخرى).
لأن احتمالات الخروج إلى مرحلة عسكرية حاسمة وارد بشكل كبير طالما «الإسرائيلي» مُصر على ذلك فهو يمتلك حقنة المصل التي تُمكّنه من تلقيح الأمريكي بداء السعار الكلبي ويُحوِّله إلى جروٍ مسعور متلهف للدماء.
ومن دواعي إصرار «الإسرائيلي» على الانتقال لمرحلة الحرب الحاسمة هي قراءته غير الدقيقة لقدرات إيران الهجومية (وإن أصاب في قراءته لقدراتها الدفاعية)، فهو يعتقد وبناء على الأرقام التي حصل عليها أن قدرات إيران الهجومية قد تقلصت إنتاجياً إلى أكثر من الثلثين وتقلصت الجهوزية إلى الحد الذي يطمئن معه بعدم تأثيرها الكبير عليه، وأيضاً من ناحية النوع والكيفية يتوهم أنه من المقدور التعامل معها وتحييد تأثيرها المدمر، وهذا الوهم كله ناتج عن قصور في الأداء الهجومي الإيراني خلال حرب الاثني عشر يوماً والذي لم يأت على خلاف ما تحسب له «الإسرائيلي»!
وهذه قراءة مختلفة تماماً عن قراءة الأمريكي لقدرات إيران، فالأمريكيون أكثر دقة في وضع المعايير وقياس مدى القوة والقدرة الإيرانية، فهم ينظرون إلى أن إيران لم تستخدم أي نوع من القدرة الفتاكة والمدمرة لا كماً ولا كيفاً، وأنها مازالت تحتفظ بهذا الخيار لمعركة حاسمة ومصيرية لا عودة فيها. كما أنهم يشككون بشكل كبير في الأرقام التي يقدمها الكيان بخصوص تعطيل القدرات الهجومية إنتاجاً إلى الثلثين وحتى إلى الثلث.
وهذه هي القراءة الصحيحة، فالإيرانيون لسبب مجهول ولمصلحة خفية تحاشوا إظهار أي قدرة هجومية صارخة واكتفوا بالرد العملياتي المقدّر والمتوازن. ولكن بما أن قراءة الأمريكي للقدرات الإيرانية تؤكد أنها في أوج قوتها ولم تستخدم، وأن إيران مازالت تحتفظ بمفاجآت خطيرة، هل يمكن للأمريكي أن يقدم على عمل عسكري جديد ويفاجئ إيران بضربة مدمرة؟
الجواب، إن كان الأمريكي متردداً فـ»الإسرائيلي» يمتلك الجرأة لفعل ذلك، ومن هنا فإن الحذر وحالة التأهب الدائمة هي الخيار الأمثل، وسيناريو حرب طويلة الأمد هو ما يجب البناء عليه.
المصدر محمد بن دريب الشريف
زيارة جميع مقالات: محمد بن دريب الشريف