تحقيق:عادل بشر / لا ميديا -

بذور تُهلك الحرث والنسل
تواصل صحيفة «لا» دق ناقوس الخطر حول أسلحة بيولوجية شديدة الخطورة، تستهدف سلة غذاء اليمنيين وما تبقى من سبل عيشهم، وتضرب التوجه الوطني لتعزيز الأمن الغذائي والقومي وتحقيق الاكتفاء الذاتي من الزراعة في مقتل، وبما يقضي على كل مظهر للحياة والإنتاج الزراعي في أخصب القيعان والأودية الزراعية باليمن.
وتناولت الصحيفة في عدديها الماضيين شكاوى مزارعين في «قاع البون» بمحافظة عمران، و«وادي ذرحان» بمديرية همدان محافظة صنعاء، وآخرين من محافظة ذمار، من انتشار فيروسات وآفات زراعية ظهرت مع بذور خضروات (بطاطس، طماطم، جزر) مستوردة من الخارج، وتسببت بالقضاء على خصوبة الأرض وتحويل مناطق واسعة من القيعان الخصبة إلى أراضٍ «صالبة»، لا حياة فيها، لتقوم الصحيفة بنقل شكاوى المزارعين إلى وزارة الزراعة، حيث التقت مدير عام وقاية النبات، أحمد الكول، الذي كشف جانباً من الاختلالات في هذا القطاع الهام، ومن جهة أخرى حاول التستر على خفايا شحنات بذور الجزر ذات الشوائب الخطيرة على الأرض والنبات، متهماً مدراء سابقين في الوزارة بإثارة ذلك الموضوع والوقوف وراء عرقلة دخول إحدى الشحنات، نتيجة خلاف بين مدير عام الرقابة على الجودة السابق والتاجر المستورد لتلك الشحنة، والتي كانت أحد الأسباب الرئيسية لإقالة المدير السابق من منصبه.
وفي هذا العدد تنشر صحيفة «لا» الحلقة الثالثة من هذا الملف الزراعي، حيث تحصلت على وثائق هامة تكشف جانباً من الاختلال في عمليات استيراد بذور خضروات وحبوب تحمل فيروسات وآفات زراعية وبذور حشائش سريعة التكاثر والانتشار وعصية على الإزالة، تقضي على خصوبة الأرض وتُفني المحصول. كما تكشف الوثائق خفايا شحنات بذور الجزر الملوثة، بالإضافة إلى وثائق أخرى أكدت ضلوع منظمات دولية في استهداف الحرث والنسل باليمن.
هيئة مكافحة الفساد
تواصلنا مع مدير عام الرقابة على الجودة السابق عبدالله مسعود، إلا أنه رفض الخوض فيما وصفه بـ«سجال مع مدير عام الوقاية» (أحمد الكول) رداً على ما أثاره الكول في لقائه مع الصحيفة العدد الماضي، حول قضية بذور الجزر المستوردة عبر 3  شركات محلية من شركة هولندية، واكتفى مسعود بالقول: «قضية وملف شحنة بذور الجزر لدى الهيئة الوطنية العليا لمكافحة الفساد والجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة، ولا نريد الحديث حول ذلك».
بعد ذلك تواصلنا مع مدير عام وقاية النبات السابق، هلال الجشاري، الذي ترك منصبه العام الماضي 2022، والذي قال: «قضية بذور الجزر حدثت بعد أن قدمت استقالتي، ولم يكن لي أي علاقة بالموافقة على إدخالها، حتى أن الشخص الذي تولى مهام الإدارة بعد خروجي منها رفض تلك الشحنة، وطالب بإعادتها إلى بلد المنشأ، لأتفاجأ بعد ذلك بأنهم وافقوا عليها».
وحول أسباب تقديم استقالته من منصب مدير عام وقاية النبات، قال الجشاري: «نتيجة للكثير من الاختلالات والتصرفات من قبل قيادة الوزارة، وكان آخرها إصدار قرار بفصل إدارة المبيدات عن الهيكل التنظيمي لوقاية النبات، وجعلها إدارة عامة منفصلة بذاتها وتعيين مدير عام عليها بالمخالفة للقانون».
وأضاف: «تم فصل إدارة المبيدات بقرار إداري أصدرته قيادة الوزارة في جلسة تخزينة، بالمخالفة لقانون المبيدات رقم 25 لسنة 99 وقانون الحجر النباتي رقم 7 لسنة 2011 ولائحتهما التنفيذية، ويأتي هذا الإجراء بعد رفضنا مخالفة القانون بإدخال 57 شحنة مبيدات غير مطابقة للمواصفات، تتبع تجاراً نافذين، وشحنات أخرى تتضمن مبيدات خطيرة جداً وممنوعة في جميع دول العالم»، موضحاً بأنه أيضاً أوقف التعامل مع نحو 300 مكتب خارجي يقوم تجار محليون باستيراد المبيدات منها، وهي مكاتب مزورة غير معروفة المنشأ، والاستيراد منها مخالف للقانون، الذي يمنع الاستيراد إلا من شركات معروفة لها بلد منشأ.
ووفقاً للجشاري فقد سبق استقالته بالتوقف عن العمل نحو شهرين، لعدة أسباب شرحها في مذكرة رفعها إلى رئيس اللجنة الزراعية والسمكية العليا، حصلت «لا» على نسخة منها، ومن بين تلك الأسباب، إضافة إلى فصل إدارة المبيدات، «سحب صلاحياته الإدارية والفنية، إضافة إلى وجود مدراء في الظل أو خفيين لإدارة الوقاية وهم من خرجوا من العمل في الإدارة بقضايا فساد وصاروا مستشارين لقيادة الوزارة يستعينون بهم لوضع الآليات ويوجهون ويحاولون فرض أعمال مخالفة أو يسعون إلى إرباك العمل بكل قوتهم ومعهم قيادات الوزارة، بالإضافة إلى الاختلاف والتباين والمكايدة  المستمرة بين قيادات الوزارة وانقسام الوزارة إلى عدة أقسام واستمرار المكايدات من أجل مصالحهم الشخصية، وتقسمت الوزارة إلى شلليات، ما ينعكس سلباً على العمل»، وفقاً لمذكرة الجشاري.
وجاء في استقالة مدير عام إدارة وقاية النبات أنه «بعد فشل قيادة الوزارة في إيقاف تحركنا ومعهم تجار الموت قاموا بالتخطيط وتنفيذ مؤامرة شيطانية وتقسيم الإدارة واستحداث إدارة عامة للمبيدات وخلط الأوراق ومخالفة القوانين، وقاموا بالمخالفة بتدشين العمل في ما تسمى الإدارة العامة للمبيدات وتنصيب شخص ليس موظفاً أو متعاقداً مديراً عاماً لها وفصلها عن الوقاية وضم إليها مختبر تحليل المبيدات».
وقال الجشاري إن قيادة الوزارة هي التي تشرع ما وصفه بالفساد وتسمح به، وفقاً لنص الاستقالة.

وثائق
وعودة إلى شحنات بذور الجزر التي استوردتها ثلاث شركات محلية من شركة هولندية، كشفت الوثائق التي حصلت عليها «لا» أن الشحنات الثلاث تم استيرادها من شركة «جبرودر بيكر» الهولندية، وتضم الصنف نفسه من بذور الجزر وبتاريخ إنتاج واحد، وأوضح تقرير فحص الإدارة العامة للرقابة أن الشحنات الثلاث تحتوي على بذور حشائش غازية ضارة.
وبيّنت الوثائق أن أول شحنة وصلت إلى اليمن في كانون أول/ ديسمبر 2021 وتم تحريزها في مخازن التاجر وإرسال عينات إلى مختبرات الإدارة العامة للرقابة على الجودة بالوزارة، وأظهرت نتائج الفحص احتواءها على بذور غريبة، كما أنها مصابة بأمراض فطرية، وتم الرفع بذلك إلى قيادة الوزارة، ووجه وكيل الوزارة لقطاع تنمية الإنتاج الزراعي بإعادة الشحنة إلى بلد المنشأ، وتم مخاطبة التاجر المستورد لها بذلك الإجراء؛ غير أنه طلب إعادة الفحص، الذي أكد مرة أخرى أنها تحتوي على بذور غريبة، 
وأوصت إدارة الرقابة قطاع تنمية الإنتاج في الوزارة والإدارة العامة لوقاية النبات بضرورة إعادة الشحنة بالتنسيق الى بلد المنشأ.
وأفادت وثيقة أخرى بأن الشحنتين الثانية والثالثة من بذور الجزر لتاجرين آخرين وصلت مطلع العام 2022. وأشارت الوثيقة إلى أن أحد التجار حاول إدخال شحنته عن طريق التهريب، إلا أنه تم القبض عليها وإيصالها إلى مركز رقابة منفذ الراهدة الجمركي بمدينة تعز، وأظهرت نتائج الرقابة احتواء الشحنة على بذور حشائش غريبة. كما أظهرت نتائج فحوصات عينات من الشحنة الأخرى احتواءها، أيضاً، على بذور غريبة، وتم الرفع بذلك ومخاطبة وكيل الوزارة لقطاع الخدمات بالتوجيه بإعادة الشحنتين إلى بلد المنشأ، وتم تحرير مذكرات الإعادة إلى مراكز الرقابة الجمركية في منفذ الراهدة بتعز ومنفذ عفار بالبيضاء، وحملت المذكرتان توقيع المختصين والمدراء في الإدارة العامة للرقابة والإدارة العامة لوقاية النبات.

مماطلة
لم يتم تنفيذ قرار إعادة الشحنات إلى بلد المنشأ، والذي كان مفترضاً أن يتم خلال شهر من ضبطها، كموعد أقصى؛ لكن الوثائق كشفت أن عملية شد وجذب وسجالا طويلا دار في أروقة وزارة الزراعة بدفع من التجار المستوردين للشحنات الملوثة، واستمرت العملية قرابة العام، حصلت خلالها محاولات لإخراج إحدى الشحنات وسلوك مسارات طويلة في إجراءات إعادة الفحوصات والتشكيك في احتواء تلك الشحنات على حشائش ضارة.

عالي الخطورة
مذكرة أخرى موجهة من الإدارة العامة للرقابة على مستلزمات الإنتاج إلى وكيل الوزارة لقطاع تنمية الإنتاج الزراعي، معنونة بـ«عالي الخطورة»، أفادت بتلقي الوزارة شكوى من المزارعين بمنطقة ذرحان مديرية همدان محافظة صنعاء، بوجود حشائش ضارة مع بذور الجزر.
وبحسب المذكرة فإن اللجنة التي نزلت إلى ذرحان همدان للتحقيق في شكاوى المزارعين كشفت وجود عدد من الحشائش في الحقل، رغم قيام المزارع بعملية التعشيب، وكانت النبتة التي يركز عليها المزارع عبارة عن نبتة شوكية، يقول المزارع بأنها تنمو بسرعة، وإذا تم اكتشافها عند إنباتها يتم الحفر بعمق متر لاقتلاعها.
وتعمل هذه النبتة على قتل المحاصيل التي تنمو معها، وإذا لم يتم اكتشافها في بداية إنباتها فإنها تنتشر بسرعة في الحقل. وقد حاول بعض المزارعين اقتلاعها بالشيول ولم ينجحوا في القضاء عليها، ما اضطرهم لترك تلك الأرض «صالبة» بسبب هذه النبتة. وطالب المزارعون بإزالة الضرر وتعويضهم التعويض العادل.

تسرب بذور مخالفة إلى الأسواق
وأفادت المذكرة بأنه عند طلب العلبة الفارغة الخاصة بالبذور من المزارع اتضح أنها تتبع إحدى الشركات المستوردة للبذور الملوثة وتحمل نفس بيانات وتاريخ الإنتاج ورقم الدفعة وكامل البيانات للبذور المحرزة والمرفوض تداولها، وهي نفسها البذور المحرزة في مخازن التاجر، التي أوضح تقرير الإدارة العامة للرقابة على الجودة في الوزارة أنها غير مقبولة بسبب احتوائها على بذور حشائش غريبة.
وحذرت المذكرة من أن ظهور الحشائش الغريبة تعد كارثة، لأن بعض البذور تكون في حالة سكون أو أن الظروف غير مناسبة لإنباتها، وأنها تنبت وتنتشر بعد كسر حالة السكون أو توفر الظروف المناسبة في مواسم قادمة.
وطالبت المذكرة بإلزام المتسبب بإزالة الضرر من الحقول وتعويض المزارعين، محملة وكلاء الشركة الهولندية كامل المسؤولية الناتجة عن وجود كميات من البذور المذكورة متداولة في الأسواق، سواء كانت محرزة أو دخلت عن طريق التهريب، وسرعة إعادة هذه البذور إلى بلد المنشأ.كما حملت المذكرة الإدارة العامة لوقاية النبات بالوزارة مسؤولية التساهل في عملية تحريز هذه البذور إذا ثبت ذلك، مؤكدة أن الإدارة العامة للرقابة على جودة الإنتاج تخلي مسؤوليتها عن إبقاء هذه الشحنات في أراضي الجمهورية اليمنية، وأنها لن تقبل أي إجراءات أخرى قبل استكمال عمليات الإعادة إلى بلد المنشأ، كون الموضوع أخذ أكثر من وقته وشغلها عن أداء مهامها الإدارية والرقابية.
وكشفت أنه بعد الرجوع إلى أرشيف الإدارة العامة للرقابة على الجودة اتضح أن شركة «جبرودبيكر» الهولندية تسببت في مشاكل في البذور المستوردة إلى اليمن في السنوات التي سبقت العام 2018.

فك التحريز
الوثائق، وهي كثيرة ولا يتسع المجال هنا لاستعراضها كاملة، كشفت أنه ورغم كل ما سبق من تحذيرات عن حجم الأضرار المترتبة على استخدام بذور الجزر المستوردة من الشركة الهولندية وحجم الأضرار التي لحقت بالتربة في ذرحان بهمدان، إلا أن إحدى الوثائق وهي صادرة عن لجنة خاصة ببذور الجزر، أوصت بفك التحريز عن إحدى الشحنات الثلاث، التي سبق أن ثبت في تقارير الفحص والمختبرات احتواؤها على بذور غريبة.

حشائش خطيرة
وفي وثيقة صادرة عن الهيئة العامة لحماية البيئة بتاريخ 25 حزيران/ يونيو 2022، موجهة الى وزارة الزراعة والري، أكدت الهيئة أن بذور الحشائش التي كشفت نتائج الفحوصات وجودها في الثلاث الشحنات لبذور الجزر خطيرة وستحلق أضراراً فادحة بالأرض.
وشددت الهيئة على عدم السماح للشحنات التي تحتوي مثل هذه البذور بالدخول إلى أراضي الجمهورية اليمنية، لشدة المخاطر التي تسببها.
وأوضحت أن بعض الحشائش التي تحتوي الشحنات على بذورها تسبب انتشاراً لبعض الحشرات الضارة، في حين أن بعضها سامّ، وأخرى تعد من الحشائش التي تصنف بالوحشية، لأنها تستعمر الأرض، ولديها قدرة في التغلب على الأصناف المتواجدة في الأرض محل زراعتها، ما يؤثر في جودة المحاصيل.
كما أكدت الهيئة أن حشائش أخرى أظهرت الفحوصات وجود بذورها في الشحنات تعد غازية للأرض، وتعد من أخطر الحشائش في العالم، وتتم زراعتها في أحواض خوفا من غزوها للأرض.

تحقيق قضائي
وفي جديد هذه القضية كشفت مصادر زراعية لـ«لا» أنه تم الإفراج عن شحنتين من بذور الجزر الثلاث، فيما ما تزال إحدى الشحنات محرزة في مخازن مستوردها، وقد انتهت صلاحيتها.
ويرى مراقبون أنه في حال كان ذلك صحيحاً، فإن الإفراج عن الشحنتين والسماح بدخولهما إلى الأسواق يستوجب فتح تحقيق مفصل وإحالة المسؤولين إلى الجهات القضائية.


رابط الحلقة الثانية من التحقيق
👇🏼👇🏼👇🏼