تحقيق: عادل عبده بشر
صباح الرابع والعشرين من أيلول/ سبتمبر 2022 لم يكن صباحاً عادياً بالنسبة للطفلة فاتن ثابت الحوري، ذات الست سنوات ونيف، حيث اتجهت برفقة والدها صوب مستشفى الكويت الجامعي بالعاصمة صنعاء، لتلقي آخر الأدوية في رحلة صراع مع اللوكيميا (سرطان الدم) بعد أن تحسنت صحتها، ولم يتبق سوى عمل خُزعة نخاع العظم للتأكد من شفائها من هذا المرض الخبيث.
كان ذلك الصباح بمثابة العيد لـ»فاتن» وأسرتها، الذين قرروا أن يجعلوه يوماً أُسرياً للاحتفاء به كل عام، باعتباره ميلاداً جديداً لطفلة أمضت ثلث عُمرها مُترددة على مركز علاج أطفال اللوكيميا في مستشفى الكويت؛ غير أن الفرحة لم تكتمل، واليوم الموعود بجعله عيداً سنوياً صار يوماً مشؤوماً وذكرى حزينة لن تنساها أُسرة فاتن، حيث طلب الأطباء في المستشفى تلقي الطفلة جرعة من دواء (methotrexate) فكانت هذه الجرعة بمثابة تذكرة سفر حكومية لـ» فاتن» إلى العالم الآخر، وشملت الرحلة أيضاً عشرين طفلاً آخرين مُصابين باللوكيميا تلقوا الجُرعة ذاتها التي اتضح لاحقاً أنها كانت فاسدة وأودت بحياة 11 طفلاً، بينهم فاتن، وأدخلت العشرة الآخرين العناية المركزة.
خلال الفترة الممتدة بين 24 أيلول/ سبتمبر و12 تشرين الأول/ أكتوبر 2022، حاولت وزارة الصحة -وفقاً لعدد من أهالي الأطفال الضحايا- التعتيم  على الجريمة، دون الإدلاء بأية معلومات للأهالي، ودون حتى القيام بأي إجراءات تحقيق ومحاسبة، حتى تسرب الخبر إلى وسائل الإعلام والناشطين في مواقع التواصل الاجتماعي، الذين نظموا حملة للمطالبة بمكاشفة الرأي العام بتفاصيل الجريمة ومحاكمة المتسببين والمتورطين فيها علناً، فتم تقديم تسعة متهمين للمحاكمة، ونشر الإعلام الرسمي خبراً يتيماً عن الجلسة الأولى، وسُرعان ما خفتت القضية من جديد، وأدخِل الإعلام والرأي العام في سُبات مفتوح، ليجد أهالي الأطفال الضحايا أنفسهم وحيدين في معركة غير متكافئة، وأملهم الوحيد مُتعلق بعدالة المحكمة.

مستجدات المحاكمة
صباح أمس الثلاثاء 16 أيار/ مايو، كانت صحيفة «لا» حاضرة في القاعة الكُبرى بمحكمة غرب الأمانة، حيث يعقد القاضي أُسامة الجُنيد جلساته القضائية.
كانت القاعة ممتلئة بالحضور، إلا قليلاً، وملفات القضايا أمام هيئة القُضاة تصل إلى العشرة، ما يعني أن الحضور الكثير سيتجزأ بين القضايا المجدولة لتلك الجلسات.
بدأت الجلسة بالمناداة على أحد المتهمين بتعاطي الحشيش، فلم يتحرك أيٌّ من الحضور، واقتصر الحديث بين المتهم في القفص والقُضاة.
 تناول القاضي الملف الثاني، ونادى باسم القضية، فوقفت القاعة كاملة واقتربوا من منصة هيئة المحكمة. كان هؤلاء هم محامو المُتهمين في جريمة الدواء الملوث الذي تسبب بوفاة أطفال مرضى سرطان الدم بمستشفى الكويت، وقِلة من الحضور لا يتجاوزون عدد أصابع اليد الواحدة، هم من أولياء أمور الضحايا ومحاميهم.
تبين خلال الجلسة حضور المتهم فيصل محمد عوض مع محاميه، وحضور محامي المتهم الثاني فهد أبو بكر سالم، وحضور المتهم الثالث يوسف صويلح، وحضور المتهمين الرابع عبدالله العريقي والتاسع عمر العريقي مع محاميهما، وحضور المتهم الخامس محمد الغيلي رئيس الهيئة العليا للأدوية سابقاً، وحضور محامي الهيئة العليا للأدوية، كذلك حضور محامي المتهم السادس صلاح الدين العامري، وحضور المتهم السابع صلاح عبدالله غانم الحميري مع محاميه، والمتهم الثامن هيثم البُكاري مع محاميه، وحضور محامي أولياء الدم في صنعاء وحضرموت المحامي عبدالحميد صبرة.
كما حضر ولأول مرة محامي شركة «سيلون لابز» الهندية، المنتجة للدواء الملوث.
المتهم الأول تم إحضاره من السجن ووضعه في قفص الاتهام، بينما بقية المتهمين فقد سبق أن تم الإفراج عنهم بالضمان، وفقاً لمحامي أولياء الضحايا.

اعتراف وزير الصحة
خلال الجلسة قدم محامي أولياء الدم، عبدالحميد صبرة، رداً على الدفع المقدم في الجلسة السابقة من الهيئة العليا للأدوية، ومذكرة صادرة من وزير الصحة طه المتوكل إلى النائب العام تفيد بأن الدواء المستخدم للأطفال مر عبر منفذ الراهدة بتعز قادماً من عدن، دون استكمال الإجراءات اللازمة من المختصين في هيئة الأدوية، في حينه، نظراً لاستخدام الصنف في مركز الأورام بشكل مستمر منذ عدة سنوات، مُستدلاً بذلك على أن الأدوية التي تسببت بوفاة الأطفال دخلت عبر هيئة الأدوية، وهذا يُعد إقراراً واعترافاً من وزير الصحة، الذي هو رئيس مجلس إدارة الهيئة العليا للأدوية.
من جهته عقب محامي هيئة الأدوية على المذكرة الصادرة من وزير الصحة، قائلاً: «لا يحق للوزير التحدث باسم الهيئة؛ لأنه لا يمثلها وليس رئيساً لمجلس إدارتها»، رافضاً قبول المذكرة بما فيها.
وتُعد هيئة الأدوية إحدى الجهات التابعة لوزارة الصحة، وتحت إشراف الوزارة والوزير شخصياً.

تعويض أسر الضحايا
محامي أولياء الدم طالب المحكمة بالضغط على هيئة الأدوية لتنفيذ قرار المحكمة في الجلسات التي انعقدت قبل شهر رمضان بتعويض أولياء الدم مبلغ مليون ريال لكل أسرة، مؤكداً أن الأهالي سينصبون خيمة أمام المحكمة في حال استمرت هيئة الأدوية في الرفض.
وتعليقاً على ذلك جدد محامي الهيئة تأكيد رفضهم تقديم هذا المبلغ لأهالي الضحايا، بحجة أن القضية مازالت منظورة أمام المحكمة، وأن المتهمين فيها عددهم تسعة وليس الهيئة وحدها، الأمر الذي دفع القاضي الجنيد إلى التأكيد بأن قرار المحكمة جاء من جانب إنساني كجزء من التعويض المستحق لهم.
وفي الجلسة ذاتها تقدم محامي المتهم الأول فيصل محمد عوض، بطلب الإفراج عن موكله ومحاكمته بالضمان، أسوة ببقية المتهمين.
وجددت النيابة المطالبة من عدالة المحكمة بإنزال أقصى العقوبات المقررة شرعاً وقانوناً، كون ما ارتكبوه من جرم يُشكل خطورة على المجتمع اليمني كافة.
وفي نهاية الجلسة قررت المحكمة تكليف النيابة بإعلام وكيل الشركة الهندية في اليمن يوسف يعقوب بتنفيذ قرارات المحكمة السابقة وإحضار عقد الوكالة، إلى جلسة الثلاثاء المقبل.

قرار الاتهام
يُذكر أن قرار الاتهام المقدم من النيابة يتضمن تسبب المتهمين من الأول حتى الرابع في وفاة الأطفال الـ11 من مرضى سرطان الدم، وإصابة 10 آخرين بمضاعفات، جراء مخالفتهم للقوانين واللوائح نتيجة تهريب مجموعة من الأدوية غير المصرح لها وغير المسجلة، ولم تخضع لفحص العقامة من الجهات المختصة، بينها دواء الميتوتركسات التشغيلة، المتسبب في الوفاة والإصابة.
كما تضمن القرار قيام المتهم الخامس «رئيس الهيئة العليا للأدوية» بصفته المسؤول المباشر عن تنظيم شراء وبيع الأدوية وحماية السوق الدوائية والإشراف عليها، بمساعدة المتهمين في البند السابق وتسهيل دخول أدوية مهربة وغير مسجلة بالهيئة ولم تخضع للفحص.
كما وجّهت النيابة للمتهمين من السادس حتى التاسع، الاتهام بالعرض والبيع والمتاجرة بالأدوية المهربة مع علمهم أنها غير مسجلة ولم تخضع لفحص العقامة من جراثيم أو أي نمو بكتيري، مخالفين بذلك أحكام وقواعد القانون واللوائح النافذة.

القضية شارفت على النهاية
خارج القاعة التقت صحيفة «لا» محامي أولياء الدم، عبدالمجيد صبرة، مستفسرة عن مستجدات القضية حتى جلسة أمس، فقال: «القضية شارفت على النهاية بعد تقديم المتهمين الدفوع التي لديهم وتم الرد عليها من قبلنا؛ لكن الآن تم إدخال الشركة الهندية المنتجة للدواء «سيلون لابز» وأيضاً وكيلها في اليمن يوسف يعقوب، وذلك بعد أن ثبت بتقرير هيئة الأدوية أن المصنع المُنتج لذلك الدواء في الشركة الأم بالهند غير مؤهل لإنتاج الأدوية بشكل عام».
وأشار صبرة إلى وجود إقرار من شركة «سيلون لابز» بأن الدواء الذي تسبب في الوفاة يوجد فيه خلل، إضافة إلى أن مدير عام هيئة الأدوية السابق، محمد الغيلي، أقر في الجلسة الأولى بأن التهريب للأدوية على مستوى كبير.
وأكد المحامي صبرة أن وزير الصحة رفض تنفيذ قرار مجلس النواب ورئيس الوزراء، الصادر في تشرين الأول/ أكتوبر 2022، بتعويض أسر الضحايا بـ10 ملايين ريال للوفيات و5 ملايين للمصابين، لافتاً إلى أن عدد الضحايا الوفيات ارتفع خلال فترة المحاكمة إلى 11 طفلاً بعد وفاة الطفل قُصي القحطاني الذي كان في العناية المركزة.
ووصف محامي أولياء الدم ما حدث لأطفال اللوكيميا بأنه: «جريمة تمس المجتمع اليمني كاملاً، وإذا حصل تساهل فيها ستستمر الجرائم من هذا النوع ويتكاثر المجرمون».

والد الطفلة فاتن:قتلوها في يوم شفائها
سحابة سوداء من الحُزن كانت تمتد على وجوه أولياء الدم الذين حضروا المحكمة. سيول جارفة من الحزن تفيض من أعينهم الواهنة. تتزاحم الدموع ومشاهد فلذات أكبادهم، وأصوات الأنين الخافتة، والصدور اللاهثة، على سحناتهم. لم يكن من السهل أن أعيد نبش جراحهم.
كان ثابت الحوري، والد الطفلة فاتن، متهالكاً على الأريكة عندما اقتربت منه مُعرفاً بنفسي.
لبث واجماً هنيهة قبل أن يرد متصنعاً ابتسامة قسرية، ورغم ذلك فقد بدا وكأن وجعه على فلذة كبده نهب حيوية وجهه وعاث في أنقاضه.
يقول ثابت: «كانت فاتن في غاية السعادة صباح ذلك السبت المشؤوم ونحن في طريقنا إلى مستشفى الكويت لأخذ آخر جرعة كشهادة تخرج من مرض السرطان».
ويضيف: «تعودنا طوال فترة العلاج أن نأتي إلى المستشفى فتأخذ جرعة ونغادر في اليوم نفسه، دون حدوث أية مضاعفات؛ لكن في ذلك اليوم، غادرنا المستشفى ظهراً، وفي المساء أصابها صُداع شديد وألم في العينين، لا تريد الضوء في الغرفة، ثم أعدناها صباحاً إلى المستشفى، وبعد أن رأتها الدكتورة قالت لنا إن حالتها لا تطمئن، وأنا انصدمت».
يتوقف ثابت عن الحديث، يحاول القبض على دمعة تتراقص في أطراف أهدابه، ثم يواري وجهه نحو الجدار وزفر زفرة خِلتُ أنها خرقت حجاب صدره.
وبصعوبة بالغة واصل الأب المكلوم حديثه، بالقول إن فاتن تم إدخالها بعد ذلك قسم الرقود بمستشفى الكويت حتى مساء الأربعاء، ليخبره الأطباء أن عليه إسعافها إلى العناية المركزة في مستشفى زايد سابقاً (مستشفى فلسطين حالياً) دون أي إفادة أو تشخيص لحالتها. «كانوا مكتمين على كل حاجة، حتى الفحوصات رفضوا إعطاءنا نسخة منها، ووزعوا الأطفال المصابين على عدة مستشفيات بالأمانة».
لم يدم بقاء فاتن في العناية المركزة أكثر من ثلاثة أيام، لتغادر بعد ذلك إلى المقبرة.

أيحسب الإنسان أن يُتركَ سُدى
وكأنه يحمل جيلاً من الألم داخل صدره، كان مثقل الجسد، متعب الروح، تائهاً إلى حد كبير. تهالك على الأرض في مكان زاورت عنه الشمس، يرمقني وأنا أقترب منه بنظرات تمزق نياط القلب.
هكذا يعمل القهر بالآباء، حين يفقدون أبناءهم في غفلة من المسؤولية.
عرفت أنه والد الطفل الضحية عبدالله الخموسي. حاولت استدراجه للحديث؛ لكنه بداية نهرني بقوة، ألقى عليَّ سؤالاً كقذيفة: «ما الذي تعرفه عن السرطان والخُزع النُخاعية وآلام الأدوية وأوجاع المرضى حتى تأتي لتنبش أوجاعي؟!».
لبثتُ شاخصاً إليه هُنيهة لا أنطق ولا أطرف. سمعتُ نفسي تقول لي بدون صوت: «آن أن تعترف».
ترددتُ، ثم بصوت مرتعش قلت: «لا أعرف كل ذلك».
دحرج نحوي نظرة استغراب ليستفزني أكثر لمواصلة الحديث: «كان ذلك صباح التاسع من آب/ أغسطس 2019، عندما غرس الطبيب خنجرهُ في منتصف صدري، مُفتشاً عن عينة من نخاع العظم، ليتأكد من أن اللوكيميا الخبيث قد استوطن جسدي، وانتشر مرتزقته بين دمي، وكان له ذلك، لتبدأ بعد ذلك رحلة العناء بحثاً عن الأدوية المناسبة لهذا اللعين، ومنذ ذلك اليوم ونحن أصدقاء».
هذا الاعتراف دفع بوالد عبدالله الخموسي إلى فتح صندوق صدره لأجد فيه الكثير من الأوجاع والمآسي التي رافقت رحلة علاج ابنه حتى اغتياله بخزعة في الظهر...

رابط الحلقة الثانية من التحقيق

👇