حلقات يومية يكتبها القاضـي محمـد الباشق / لا ميديا -
الأنس بالرحمة أن تكون ذات أثر نفسي جليٍّ في المواقف والسلوك. وتجلي الأنس بالرحمة من الله الرحمن الرحيم نعمة لا تعدلها أي نعمة من نعم الدنيا؛ لأنها من هبات نسائم القرب، ومن أنوار البصيرة، ومن عربون نعيم الجنة. وبعون الله تعالى نتحدث في هذه الحلقة عن هذا الموضوع.
فمعنى الأنس بالرحمة هو لذة وراحة نفسية تتجلى وتظهر في المواقف والسلوك: «تُعرف في وجوههم نضرة النعيم».
أسباب الأنس بالرحمة الثقة برحمة الله الرحمن الرحيم، التي تجلت في رحمة الله للعبد بدفع النزوع إلى المعاصي من قلب الإنسان المؤمن وقالبه: «وقهم السيئات ومن تقِ السيئات يومئذ فقد رحمته». من وقاه السيئات وقاية تفكير واهتمام ووقاية أسر لها وهمّ بها. المنزلة الأولى لدرجة من أهل الصفاء والقرب، وقاهم وقاية حفظ، رفع قدرهم عن التفكير بها. والدرجة الثانية لمن قد حصل منهم زلل وحصل منهم وقوع في بعض الوحل، وانصرفوا عنها بعد ندم وثابوا وأنابوا وتابوا وأحسنوا وأصلحوا، فكانت الوقاية لهم ألا يكونوا أسرى لما قد مضى منهم، لأن من أخطر أسلحة الشيطان وأقوى حبائل مكره وخبثه أن يقع العبد في وحل الخطيئة، يرى ما قد حصل منه كبيرا وكثيرا، فلا ينزع إلى توبة ولا تتوق نفسه إلى إنابة، يقول له الشيطان: قد قطعت أيها العبد أسباب الوصول فواصل العصيان واستمر، ويوصله إلى نار القنوط ويحطم نفسيته بلهيب نيران اليأس وينسيه أن له رباً رحيماً لا يخيب من رجاه ولا يُرد من سأله، يقبل التوبة ويزيل الحوب ويعطي العبد لذة التوبة وفرح الإقبال وسرور العبادة، وإن من انكسر قلبه لله منيباً راجياً سيرى من أنس الرحمة ما يجعله في جنة اللطف ومنن الرعاية والعناية ممن يسيركم في البر والبحر سبحانه وتعالى. وحقٌّ أن معرفة الله المعرفة الحقة التي تعني تعظيم الله وتوقيره واليقين بأنه الخالق وإليه المرجع والمصير، وأنه لا راحة إلا بطاعته ولا أمان إلا بالإيمان به ولا عز إلا بخشيته ولا جنة إلا بذكره ولا نار إلا بالبعد عنه، وأن من أقبل إلى الله قبلة يستشعر العبد مدد «يا عبادي...»، ويوقن أن إسرافه على نفسه قليل بجنب عفو الله، فعفو الله أكبر ورحمته أوسع، فلا يجد إبليس مدخلاً لينفث في نفس العبد سموم القنوط ولا مدخلاً ليضرب نفسيته بسياط اليأس. ومعرفة الله بتلاوة كتابه المسطور والنظر في كتابه المنظور: الكون وما فيه، فيرى نفسه صغيرة، وأن صغر حجم نفسه يوجب عليه أن يعلم أن الله الكبير العلي قد جعل هذه النفس كبيرة بما أودع الله فيها من نظم خلق، وأحكم الله البديع خلق هذا الإنسان فيعيش متأملاً مؤدباً مخبتاً منيباً وهو يتلو: «وفي أنفسكم أفلا تبصرون»، فلو أبصر ظاهر خلقه لوجد -فيما أبصر- أنه يوصله إلى الله البصير، فكيف لو زاد إدراكاً ومعرفة بوظائف قلبه ومخه وعصبه وخلايا جسمه وعمل الجهاز العصبي والجهاز الهضمي والجهاز التنفسي وما في جسمه من طاقات وقوى ومدارك وقدرة على المعرفة والحفظ والفهم والتصور والأحاسيس والمشاعر... عوالم في هذا الجسم البشري، كما قال باب مدينة العلم سيدنا علي (عليه السلام): «أتحسبُ أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر»، فمن نظر إلى نفسه وبدايته نطفة من منيٍّ يمنى ومراحل خلقه ومراحل حياته الخمس المذكورة في «سورة الحديد»، والحواس التي منحه اللهُ إياها من سمع وبصر وكلام وذوق ولمس وإحساس وشعور وإدراك وضمير، يحيا بالإنابة، ونفس تفوز بالتدبر وتحيا بالتذكر وتزكو بالصالحات.
فأبواب الأنس برحمة الله واسعة، ومعينها عذب يدفع كل عذاب؛ لأن من أنس برحمة الله أتاه السرور: «فوقاهم اللهُ شرَّ ذلك اليوم ولقَّاهم نضرةً وسرورا».