تقرير / مارش الحسام / لا ميديا -
حادثة الاعتداء الوحشي على الطفل أيهم الزايدي من قبل أحد موظفي البلدية في مديرية سنحان، والتي أثارت غضبا شعبيا واستفزت رئيس الجمهورية، ليبادر إلى رد الاعتبار للطفل وردع الجاني، سلطت كثيرا من الأضواء على مشكلة قائمة ومزمنة بين البساطين والبلدية، وسنوات من الصراع الدامي الذي خلف مآسي وأودى بأرواح من الطرفين.

صراع توم وجيري
مشاهد تتكرر يوميا. البلدية تغير على أصحاب البسطات والباعة المتجولين. سرعان ما ينتشر خبرها بينهم بسرعة الضوء، ليلوذوا بالفرار والاختباء.
حكايات كر وفر أشبه بمغامرات المسلسل الكرتوني الشهير «توم وجيري».
البلدية تعاود الإغارة وتصادر بعضا من الطماطم والموز. بعد مغادرتها يعود الباعة الذين كُتبت لهم النجاة لممارسة مهنتهم اليومية.

مشاهد يومية
في اليوم التالي والذي يليه تتكرر محاولة توم (البلدية) الإمساك بجيري (البساط) كي يعده كوليمة؛ لكنه يراوغه ويهرب، ويبدأ «أكشن» فصول المطاردة التي تنتهي أحداثها بخلاف المسلسل الكرتوني، الذي ينتهي بنتائج متوقعة سعيدة لجيري ووقوع توم في مأزق.
أما (the end) بين البلدية والبساطين، موضوع حديثنا هنا، فكثيرا ما تكون خارج التوقعات. هي ذات نهاية مفتوحة على كل الاحتمالات التي قد لا تحمد عقباها. في أحسن الأحوال تنتهي المطاردة بحدود العراك والاشتباك بالأيدي، فيما اختتم عدد من المطاردات بمآسٍ مؤسفة راح ضحيتها عدد من البساطين وموظفي البلدية، ولاتزال المشكلة قائمة وبلا حلول.

أحداث مؤسفة
بين مكاتب الأشغال (البلدية) والبساطين قواسم مشتركة من الأحداث الدامية، التي أسفر عنها سقوط كثير من الضحايا، نذكر بعضها على سبيل الإشارة لا الحصر.
في أيلول/ ديسمبر من العام 2020، توفي 6 من موظفي البلدية، بينهم مدير مكتب الأشغال في العاصمة صنعاء عبده صالح العنسي، ونائب مدير مكتب الأشغال بالأمانة، ومدير المَرافق والأسواق (مدير بلدية العاصمة)، وآخرون، برصاص أحد الباعة المتجولين في باب اليمن.
المأساة حدثت عقب قيام العنسي بشن حملة برفقة عدد من الموظفين التابعين له في باب اليمن ضد عمال البسطات، مما أدى إلى خلاف شديد مع أحد العمال انتهى بمقتل 6 أشخاص وجرح ثلاثة آخرين.
وأتت هذه الحادثة بعد أيام من وفاة بائع متجول في العشرين من العمر، لقي حتفه صعقاً بالكهرباء أثناء فراره من حملة البلدية.
الشاب يدعى سلمان الحبيشي، كان يعمل بائع بطاط متجولا، سقط عليه سلك كهربائي، أثناء ما كان يهم بالفرار من موظفي البلدية الذين لاحقوه لإجباره على دفع إتاوة مالية في منطقة «المشهد»، وسط مدينة صنعاء.

كلاسيكو دامٍ
أحداث مؤسفة كثيرة كفيلة باستفزاز الجهات المعنية لوضع حد لهذه المشكلة المُؤجلة لسنوات من الكلاسيكو الدامي بين الغريمين التقليديين: البلدية، والبساطين. الأخيرون يشكون من الابتزاز والمطاردة. والأولى بدورها تشكو من أنهم يشوهون المنظر العام ويعرقلون حركة السير، ويجب إزالتهم ولو بالقوة.
يؤكد الباعة أن الحديث عن تشويه المنظر العام وعرقلة حركة السير ليس إلا ذريعة لجبابة الأموال وابتزازهم والضغط عليهم للقبول بصفقة دفع إيجار الأرضية (محل بسطتهم) نهاية كل شهر مقابل السماح لهم بمزاولة أعمالهم.

دفعوه إلى طابور البطالة
رياض الزخم (صاحب عربية بطاط في مذبح) اضطر للتوقف عن مزاولة نشاطه في بيع البطاط المسلوق، وانضم إلى طابور البطالة، بعد أن وجد نفسه مطاردا من البلدية، التي دأبت أكثر من مرة على مصادرة أسطوانة الغاز خاصته، وكان في كل مرة يسترجعها بدفع مبلغ مالي لا يقل عن 8 آلاف ريال.
يقول رياض: «طلبوا مني 50 ألف ريال كإيجار الأرضية، مقابل السماح لي بمزاولة عملي في المكان ذاته، عند مدخل سوق القات في مذبح. أخبرتهم أنني لا أستطيع دفع حتى نصف المبلغ، فعرضوا عليَّ منطقة أخرى بـ15 ألف ريال؛ لكنني رفضت، كون المنطقة غير حيوية... في الأخير توقفت عن مزاولة نشاطي في بيع البطاط المسلوق، بسبب تعسفات ومضايقات البلدية».
تتكرر قصة «الزخم» مع كثير من الباعة المتجولين، المنتشرين في شوارع أمانة العاصمة بحثا عن أرزاقهم لإعالـة أسرهـم، ويطالبون بأسواق في كل منطقة لاستيعابهم بدلا من ابتزازهم ومطاردتهم في ظل عدم وجود البديل.
بعد أيام من حادثة الاعتداء على الطفل أيهم الزايدي من قبل أحد موظفي البلدية، وتحول تلك الحادثة إلى قضية رأي عام، أصدرت أمانة العاصمة قراراً شكلياً يقضي بمنع تحصيل أي مبالغ مالية من أصحاب البسطات في جميع الأسواق تحت أي تسمية أو مبرر، وكذا إلغاء العقود المبرمة بين صندوق النظافة ومتعهدي الأسواق، وضبط المخالفين.
لكن يؤكـد عدد من أصحــاب البسطات في شارعـي «هائل» و«عشرين»، وبعد أسبوع من صدور القرار، أنهم مازالوا يدفعون يومياً لمتعهدي الأسواق ما يُعرف بـ»حق النظافة» و»حق السوق»، وأن من يقومون بتحصيل هذه المبالغ يرفضون الانصياع لهذا القرار، بل ولا يعطون سندات رسمية بالمبالغ التي يتحصلونها.

الأرض مقابل السلام
مع أن قرار أمانة العاصمة، غير النافذ، خص العقود المبرمة بين صناديق النظافة ومتعهدي الأسواق؛ إلا أنه تجاهل ما لا يمكن تجاهله حول العقود المبرمة بين مكاتب الأشغال (البلدية) وأصحاب البسطات ممن تم توطينهم من قبل البلدية على جوانب الشوارع الرئيسية وأرصفة المشاة، مقابل دفع إيجار شهري لها كإيجار الأرضية، وبحسب مصطلح أصحاب البسطات «الأرض مقابل السلام»، وذلك بعدما ساومتهم البلدية على دفع إيجار الأرضية (محل بسطتهم) نهاية كل شهر، مقابل السماح لهم بمزاولة أعمالهم، بدلا من مطاردتهم ومصادرة بضائعهم، التي لا يتم استردادها إلا بمبالغ مالية كبيرة.
لم تكتفِ مكاتب الأشغال (البلدية) بمخالفة قانونها والدوس عليه بتأجير الأرصفة والشوارع، بل وعمدت إلى فرض إيجارات مجحفة على كثير من أصحاب البسطات، الذين وجدوا أنفسهم مرغمين على القبول بها لاتقاء شر البلدية.

ازدواجية
تعد ازدواجية مكاتب الأشغال في التعامل مع أصحاب البسطات والباعة المتجولين سببا رئيسا في ازدياد أعدادهم، وفي نقمتهم أيضاً، ونقمة المشاة وعابري السبيل.
يرى متابعون أن أحد أسباب ازدياد أعداد البسطات في الشوارع الرئيسية سببه السماح لهم بمزاولة أعمالهم في الشوارع الرئيسية وأرصفة المشاة، مقابل دفع مبالغ مالية نهاية كل شهر، الأمر الذي شجع كثيرا من العاطلين على العمل في البسطات واستئجار أرضية من البلدية، فيما غير المستأجرين يتم ملاحقتهم ومصادرة بضائعهم وفرض غرامات عليهم، بدعوى أنهم يشكلون زحاماً ويعرقلون حركة السير، وهو مبرر -كما قال الباعة أنفسهم سابقاً- لجباية الأموال وإرغامهم على استئجار الشوارع من البلدية.

ازدحام حميد
باتت الشوارع، وبالذات التجارية كشارع هائل والتحرير وشارع جمال، تكتظ بالبسطات، التي تزداد مشاكلها في عرقلة السير والمشاة في شهر رمضان ومع قدوم الأعياد، وهو ما تعتبره البلدية ازدحاما حميدا، باعتبارهم مستأجرين، والويل كل الويل لأقرانهم غير المستأجرين لأراضي الشوارع والأرصفة، فيتم مطاردتهم ومصادرة بضائعهم وفرض غرامات مالية عليهم بدعوى أنهم يشكلون زحاما غير حميد، ويعرقلون السير.

قانون شوارعي
قانون الأشغال اليمني يمنع البيع في الشوارع والأرصفة؛ كونها للاستخدام العام، وليست للاستخدامات التجارية. كما أن البيع في الشوارع يسبب الفوضى والاختناقات المرورية.
أبرز منتهكي هذا القانون هي وزارة الأشغال ومكاتبها في المديريات، من خلال قيامها بتأجير الأرصفة والشوارع للاستخدام التجاري كأكشاك وبسطات تتسبب في الفوضى والاختناقات المرورية، وبما يناقض قانون الأشغال، الذي بات يسري فقط على أصحاب البسطات «المخالفين»، أو بالأصح المتخلفين عن دفع «إيجار الشارع أو الرصيف».
وبحسب قانون الأشغال «الشوارعي» الجديد فإن كل بسطة ملزمة بدفع الإيجار شهريا، ما لم فإنها ستدرج في القائمة السوداء، المسببة للاختناقات المرورية وإعاقة السير، ويجب مصادرتها وفرض غرامات مالية عليها.

رسوم إفقار
حقوقيون يؤكدون أنه وفقا للقانون لا يحق لأي جهة فرض أموال بطرق عشوائية دون سندات رسمية، واصفين فرض أي رسوم مهما كانت على أصحاب البسطات والباعة المتجولين بـ»غير القانونية»، وتنفر الباعة المتجولين وتتجه بهم إلى مربع البطالة ما يسهم في انتشار الجريمة بسبب الفقر.

الحلول وفاء للشهداء
تظل مشكلة البساطين قضية معقدة، وبحاجة إلى ورشة عمل حكومية على أعلى مستوى، لا يجلس فيها العباقرة للتبرير أو لشيطنة الآخر عقب كل حادثة مؤسفة، بل للاعتراف بالمشكلة ووضع حلول لها، بدلا من تجاهلها وترحيلها من سنة إلى أخرى، حفاظا على الأرواح ووفاء لدماء الشهداء وتضحياتهم التي بذلوها لحماية أبناء الشعب اليمني.