حاوره:أنور عون / لا ميديا -
عبدالعزيز القاضي أسطورة كروية بما للكلمة من معانٍ. 
تفرد بالأخلاق وغرد في سماء الإبداع. اسمه فقط يختزل آلاف الأوصاف ويختصر عقوداً من النجومية والعطاء، سطـرها من أوائل الخمسينيات حتى منتصف ثمانينيات القرن الماضي، عاصــر خلالها الإمام أحمد بن يحيى حميد الدين وخمسة رؤساء تعاقبوا على حكم اليمن.
من زامله أو تابعه عن قرب يؤكد أن توالي مواسمه في الملاعب زاده أخلاقا وبريقا. اليوم، وبعد مضي 36 عاما علــــى اعتزالــــه اللعــــب، لا يزال هو نفسه، عبدالعزيز القاضي. ولأجل هذا المجد الكروي السائر على قدمين مكثت وزميلي طلال سفيان نفكر في محاورة لإضاءة تاريخ هذا النجم الأسطوري خارج المقارنات. وبتواضع وبساطة العظماء منحنا القاضي شرف هذا الحوار.
قبل أن ندلف في تفاصيل مشواره الطويل، قلنا للكابتن عبدالعزيز:
 الملحق الرياضي لصحيفة "لا" يود أن تكون ضيفا على قرائه!
- حياكم الله، وأنا سعيد بالتواجد في صحيفة الأهلاويين صلاح الدكاك وطلال سفيان.

 كابتن، نسمع أن بدايتك كانت في عهد الإمام. هلا حدثتنا عنها؟
- نعم، خطواتي الأولى كانت في السنوات الأخيرة لحكم الإمام أحمد. في ذلك الوقت كانت الكرة هي حياتنا ومتنفسنا، في ملعبين فقط تملكهما تعز: ملعب العرضي (الشهداء حاليا)، وملعب المصلى (مكتب التربية والتعليم حاليا). وكان هناك أربعة أندية في تعز: الأهلي، شباب الأحمدية (نسبة لمدرسة الأحمدية)، الصحة، والهلال، وهذا الأخير أسسه عبده محمد الذبحاني، تاجر الذهب، وكان هو كابتن الفريق، وكنت ألعب بجانبه وأنا صغير.

 نود نسألك عن الإمام؛ هل كان يشاهد مبارياتكم من قصره المطل على ميدان العرضي؟
- لا، لم نشاهده يتابع المباريات؛ ولكن نجليه عبدالله والعباس كانا يحضران أحيانا لمتابعة المباريات،وكان مدير أمن تعز في عهد الإمام أحمد«التركي بدري» يحضر لمشاهدتنا في ملعب المصلى.

 وكيف سار الوضع الكروي بعد الثورة؟
- ازداد الزخم الكروي، وظهرت فرق مثل فريق المركز الثقافي المصري الذي أسسه مجموعة من الضباط المصريين ودخل في عباءته أهلي تعز، وأيضا ظهر الطليعة وفريق القسم الداخلي الذي أصبح بعدها نادي الصقر... وخلالها انتقلت من الهلال إلى المركز الثقافي المصري، وقدمت مع زملائي مواسم قوية داخل وخارج المحافظة.

 بعد الهلال والمركز الثقافي أين كانت وجهتك؟
- في عام 1967 سافرت إلى الحديدة للعمل، واخترت اللعب مع الجيل، وكان لديه فريق لا يقهر، انتصاراته وعبقرية لاعبيه وصلت إلى عدن، وهو ما جعل نادي (واي سي سي) الفريق الأقوى في عدن حينها يأتي إلى الحديدة خصيصا لكي يضع حدا لشهرة وانتصارات الجيل، وبدؤوا انتصاراتهم بالفوز على الأهلي ومنتخب الحديدة، ونزلوا أمامنا مزهوين بانتصاراتهم؛ لكننا لقناهم درسا في فنون الكرة وهزمناهم 2/ صفر، فعادوا إلى عدن غير مصدقين ما فعلناه بهم في الملعب.
لا أبالغ لو قلت إن مستوانا كان فوق الوصف، لدرجة أن زملائي كانوا أحيانا يطلبون مني ألا أسجل أهدافاً من الفاولات التي كنت أجيدها من خارج خط الـ18، وأن أكتفي بوضعها فوق الخشبة لكي ترتد إلى زميلي المهاجم فيسجلها بلعبة فنية. طبعا كانت عوارض المرمى خشبية، وكثيرا ما كررنا هذه اللعبة.

 كم بقيت مع الجيل؟
- ثلاث سنوات، عدت بعدها عام 1970 إلى تعز ولعبت مع الصحة، ولم أكمل العام معهم، لأني شعرت بأجواء لا تساعدني على التألق، فاتجهت إلى أهلي تعز، وكانت بطولات المحافظات هي السائدة، وحققنا ألقابا عديدة وبلغنا نهائي الجمهورية كأبطال المحافظة عدة مرات، وكانت البطولة المثيرة أمام الفريق الأقوى شعب صنعاء المرصع بالنجوم، وأذكر أن إدارة الشعب طلبت نقل المباراة النهائية أمامنا من صنعاء إلى تعز؛ لأنهم كانوا يرون أن جماهيرهم في الحالمة أكثر، ولعبنا في تعز وفزنا عليهم وحققنا البطولة.

 واكبت مراحل تأسيس بعض الأندية في عهد المملكة المتوكلية. ما هو النادي الأهلي الذي تأسس أولا: أهلي صنعاء، أهلي تعز، أم أهلي الحديدة؟
- هذا الأمر أخذ جدلا واسعا، وكان أهلي صنعاء يعتقد أنه تأسس أولا، لكي يلغي أسماء البقية ويحتفظ هو بمسمى الأهلي؛ لكن الوثائق الدامغة برهنت أن إبراهيم رشدي رحمه الله الذي أسس الأندية الثلاثة بدأ عام 1950 بأهلي تعز، ثم أهلي الحديدة، ثم أهلي صنعاء، فلا داعي للأخذ والرد في حقائق ووثائق تمنح أهلي تعز الأسبقية.

 لنذهب إلى المنتخبات الوطنية ومشاركاتك معها...؟
- مشاركاتي عديدة؛ في الجزائر وليبيا، وأبرزها في سورية مع منتخب الجيش في البطولة العربية العسكرية. ولهذه المشاركة قصة بحد ذاتها، فقد حققنا الفوز على منتخب العراق، المرشح الأقوى للبطولة، وهو الانتصار الذي منح سورية اللقب.
فبعد فوز العراق على الأردن والبلد المضيف سورية ثم السودان، صرح العراقيون بأنهم سوف يكتسحوننا بالعشرة ويحرزون الكأس. وقبل المباراة جاء إلينا رئيس البعثة عبدالله الحمدي رحمه الله، وقال لنا: لا نريد بهذلة، أريدكم أن تخرجوا بأقل خسارة، لو خسرتم 2/ صفر كويس!... وكانت المفاجأة أننا قدمنا مباراة كبيرة وهزمنا العراقيين 2/ صفر وأهدينا الكأس لمنتخب سورية الذي فاز في آخر جولات البطولة على السودان. وفي هذه المباراة هتف الجمهور السوري كثيرا لليمن، وكانوا يقولون: أنتم من يستحق الكأس، أنتم الأبطال، حتى أن الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، وكان حينها قائد الدفاع الجوي للجيش العربي السوري، وقف لتحيتنا، وكان بجواره في منصة ملعب تشرين عبدالله الحمدي وقائد الجيش العراقي.

 تألقك ومستواك الذي كان علامة فارقة، ألم يجلب لك عقود احتراف؟
- تلقيت عروضا عديدة، بداية من رئيس نادي شعب صنعاء عبدالله الحمدي، كان دائما يعرض عليّ الانتقال إلى ناديه مقابل مغريات كثيرة، أهمها منحي رتبة عسكرية ومنزلاً في العاصمة صنعاء؛ لكني رفضت قطعيا، لحبي الشديد لنادي أهلي تعز وجماهيره. كنت أخشى أن يأتي يوم يعاتبونني فيه بأني بعت النادي مقابل رتبة عسكرية. عرض آخر تلقيته عندما سافرت إلى الأردن لخوض دورة تدريبية في مجال عملي في الكهرباء لمدة 6 أشهر، ذهبت أتدرب مع نادي الفيصلي لكي أحافظ على مستواي، وعندما شاهدني مسؤولو الفيصلي فاوضوني للعب معهم ولم أوافق. وفي جيبوتي والصومال عندما لعبت مع أهلي تعز هناك، تحصلت على عروض؛ لكنني كنت أرفض، فقد كان مستوى الكرة اليمنية أفضل من مستواها في هذه الدول كلها. أيضا تلقيت عرضاً من نادي الاتحاد السعودي أثناء مشاركتي مع الجيل، وكانت المشاركة الأفضل التي لفتت الانتباه نحوي هي مع منتخب الجيش اليمني عندما واجهنا منتخب الجيش السعودي في تبوك وهزمناهم بكامل نجومهم الكبار، وفي صباح اليوم التالي للمباراة كتبت الصحف السعودية مانشيتات كبيرة: "يا لاعبي السعودية تعلموا فنون الكرة من مهندس الكرة اليمنية".

 نعود لأهلي تعز، عنوان تألقك، ما هي الفرق التي كانت تشكل ندا قويا لكم؟
- كثير من الفرق في ذلك الوقت كانت قوية جدا؛ لأنها تضم من 6 إلى 7 نجوم كبار في صفوفها، مثل أهلي صنعاء، شعب إب، وحدة صنعاء، المجد، شعب صنعاء، أهلي الحديدة، الصقر، الزهرة... لكن مباراتنا أمام الطليعة كانت ذات مذاق خاص.

 وماذا عن الكرت الأصفر الوحيد في مشوارك؟
- كنت أريد إنهاء مشواري الكروي بلا كروت؛ لكن في إحدى المباريات صرخت: "يا غنمة" لزميلي أحمد الغنمة، وهذا لقبه، فإذا بالحكم المصري يوقف اللقاء ويمنحني كرتا أصفر. حاولت أن أوضح للحكم أني أنادي زميلي فقال: الحركات دي مش عليّ، واستأنف اللعب ونلت كرتاً لا أستحقه.

 في موسم 86 حقق الأهلي أغلى الألقاب وأسدل القاضي الستار على مشوار كروي طويل. ماذا يعني لك ذلك اللقب؟ وهل حزنت على فراق الكرة أو ندمت على عدم احترافك؟
- أبدا، لم أندم؛ لأن كل قرار اتخذته نتج عن قناعة ورضا. وعندما اعتزلت لم أحزن؛ لأني لعبت وحققت ما أريد. أما بالنسبة لتحقيق بطولة الدوري فهي الأغلى؛ لأنها جاءت خلاصة لمواسم من الجهد والانسجام والمنافسة الشرسة. وفي ذلك الموسم الصعب كنا الأفضل.

 اعتزلت واتجهت للتدريب وتوسم فيك جمهور أهلي تعز خيرا بقيادة فريقهم؛ لكنك أنهيت مشوارك التدريبي معهم سريعا، لماذا؟
- كنت قادرا على النجاح في مجال التدريب؛ لكن معظم لاعبي الجيل الذي جاء بعدنا صدمني وأحبطني. جيلنا تربى على قيم وأخلاق عالية والالتزام في التمارين، احترام المدرب واجب ونابع من الذات، احترام بعضنا البعض كلاعبين، اللاعب منا مهما كانت نجوميته لا يتذمر من جلوسه في دكة الاحتياط، بل يفرح لتألق زملائه؛ لكني عندما دربت عشت أشياء محزنة؛ لا التزام ولا احترام، بعض اللاعبين كل همهم السهر والقات... ولهذا آثرت الانسحاب وقلت في نفسي: لن أنسف تاريخي واسمي في أجواء سيئة.

 جيلك الرائع من الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، هل تذكر لنا نماذج منهم؟
- كل من لعبت معهم وزاملتهم كانوا رائعين ونجوماً وقامات كروية يفتخر بها، منهم علي الورقي، الذي كنت أشكل معه ثنائياً ندوخ أي فريق أمامنا. كذلك سالم عبدالرحمن، جواد محسن، علي الحمامي (النيخا)، علي ناجي الرويشان، عبدالله العسولي، فهد شهاب، يحيى الظرافي، عبدالملك فوز، عبدالله الروضي، يحيى جلاعم، يحيى وأحمد سعد العذري، المجيدي، يحيى فارع، علي الحمامي (نيخا)، العطاب، الضراب، نصر الجرادي، محمد سلطان، محمد الجهمي، عبدالكريم الوزير، قاسم مقبل، حامد، الرداعي، المفتي، يحيى مقبل، صالح الوسع، شكيب البشيري، سعيد العرشي، شفيق الكحلاني...
وبعدهم جاء جمال حمدي، خالد العرشي، عبدالحميد الشاوش، القربة، مضر السقاف، عبدالله وأحمد الصنعاني، محمد اليريمي، ناصر الرويس، عبدالرقيب حسن، عبدالواحد عتيق، خالد الناظري، عزيز الكميم، محمود أبو غانم، عبدالملك ثابت، مطهر ثابت، عبدالرحمن خورشيد، جميل الحمامي...

 ماذا عن أولادك؟! لم نرَ واحداً منهم خليفة لك...؟
- فهد وأحمد (رحمه الله) وخالد، كلهم لم أجبرهم على اللعب؛ لأن الكرة رغبة وموهبة.

 بعد حوار ممتع معك وذكرياتك الحلوة، بماذا تحب أن تختم لقاءنا؟
- هناك كلمة أود قولها في أشخاص وقفوا معي في مسيرتي؛ الحاج القصوص، الأب الروحي لأهلي تعز، منحني أرضية بنيت فيها منزلي في تعز، وذلك بعد أن رأى أنها كتعويض لرفضي كافة العروض للعب لأندية أخرى غير أهلي تعز. مهما قلت عن الحاج القصوص رحمه الله لن أفيه حقه.
وأيضا حميد عنتر، نجم ورئيس نادي الصحة، الذي توفاه الله منذ أيام، والذي كان صديقي وصهري، مواقفه معي لا تنسى.
وشيء آخر أحب قوله: أتمنى أن أرى المنتخب الوطني ينافس عربيا وآسيويا مثل منتخب الناشئين. وقبل ذلك أرجو من المدربين في الفئات الدنيا للأندية غرس الأخلاق والقيم في اللاعبين الناشئين، ولن يأتي ذلك إلا باختيار مدربين على مستوى عالٍ من الأخلاق.