خاص - دمشق / أحمد رفعت / لا ميديا -
كثيراً ما يثير البعض التساؤل عن مبررات وقوف سورية، ومعها محور المقاومة والعديد من الدول والقوى والأحزاب والشخصيات، إلى جانب روسيا في عمليتها العسكرية في أوكرانيا، ويطرحون مقاربات عديدة حول ازدواجية المعايير ومواضيع الغزو والاحتلال وحق الشعوب في تقرير مصيرها واتخاذ ما يناسبها من مواقف وعلاقات دولية في محيطها الإقليمي والدولي.
بالتأكيد إن التلطي وراء مثل هذه الشعارات قد يساهم في تشويش الصورة وضياع الحقيقة؛ لكن مصائر الأمم والشعوب لا تقرر بهذه الطريقة، ولا بد من معرفة الحقائق والوقائع قبل أن تقرر أي دولة أو قيادة أين تقف ومع من تكون.
فسورية عندما اتخذت موقفها إلى جانب العملية الروسية في أوكرانيا، كان لإدراكها أن العملية فيها تصحيح للتاريخ، وإعادة التوازن في العلاقات الدولية التي اختلت كثيراً بسبب الاستفراد الأمريكي بالسياسات والاقتصاديات العالمية منذ تفكك الاتحاد السوفييتي عام 1991، فقادته برأس فاسد وملأته حروباً ودماءً ودماراً، وكان لا بد من تصحيح هذا الخلل الرهيب، وهو ما عبر عنه السيدان فيصل المقداد، وزير الخارجية السوري، ونائبه الدكتور بشار الجعفري.
والشعب السوري، ومعه كل أطراف حلف المقاومة، لا يمكن أن ينسى الحرب الشرسة التي يشنها عليه منذ أكثر من عشر سنوات تحالف العدوان الأمريكي الغربي الصهيوني وأدواته، سواء التركي أم الأعرابي من عشوائيات الخليج، الذي أنشأ ومول وسلح العصابات الإرهابية بهدف إسقاط الدولة السورية في براثن مشروع "الشرق الأوسط الجديد" وأدواته من العصابات الإرهابية، والذي كان وحده كفيلاً بانهيار كامل المنطقة.
كما لا يمكن أن تنسى سورية أن الولايات المتحدة ما زالت تحتل أجزاء من الشمال السوري، وترعى مليشيات "قسد" الانفصالية العميلة، وتسرق ثروات الشعب السوري من النفط والغاز والقطن والقمح، وتتمركز في قاعدة "التنف" على مثلث الحدود السورية ـ العراقية ـ الأردنية، ومن قواعدها ترعى العصابات الإرهابية وفي مقدمتها عصابات "داعش"، وتحمي قياداتها وعناصرها وتعمل على تدويرهم ونقلهم من مكان إلى آخر حسب حاجتها إليهم، وتزودهم بالمعلومات والمساعدات اللوجستية لشن الهجمات على الجيش والمدنيين في البادية السورية، وهي أيضاً التي توفر الغطاء للاحتلال التركي لأجزاء من محافظات إدلب وحلب واللاذقية، وفي عدة أماكن في مناطق شمال سورية.
وأيضاً لا يمكن أن تنسى سورية أن هذه الهجمة العدوانية الشرسة عليها جاءت في إطار مشروع "الشرق الأوسط الجديد" الأمريكي الغربي الصهيوني، الذي كان يستهدف تسليم المنطقة إلى عصابات الإخوان المسلمين تحت شعار "فليحكم الإخوان"، ثم السيطرة على كامل المنطقة العربية وعلى ثوراتها وإرادة شعوبها، وتقسيمها إلى دويلات وكانتونات طائفية وعرقية تدور في الفلك الصهيوني، وبناء على هذا المشروع التدميري الذي كان أخطر مشروع يهدد الأمن القومي العربي شنت أو رعت أمريكا ومنظومتها سلسلة من الحروب العدوانية على اليمن وليبيا وقبل ذلك على العراق ولبنان والشعب الفلسطيني.
وإذا وسعنا الدائرة خارج ما نشهده اليوم، لا يمكن أن ننسى أن أمريكا التي ورثت الإمبراطوريتين الاستعماريتين البريطانية والفرنسية وقادت هذه المنظومة منذ الحرب العالمية الثانية، هي نفسها المنظومة العدوانية التي شنت كل الحروب والاعتداءات على العرب منذ بدايات القرن الماضي إلى اليوم، وهي التي قسمت بلاد الشام والمشرق العربي وأنشأت الكيان الصهيوني، وفق مخطط "سايكس بيكو"، وأنشأت ورعت عشوائيات الخليج العربي، وعندما رأت أن منظومة "سايكس بيكو" انتهت مفاعليها، حاولت تجديد هذه السيطرة من خلال مخطط "الشرق الأوسط الجديد" الذي سقط من الميدان السوري وتأكد سقوطه في الميدان اليمني.
بالمقابل، لا يمكن أن تنسى سورية وقوف روسيا معها في مواجهة هذا العدوان الشرس عليها، وتدخلها العسكري المباشر إلى جانب الجيش السوري لمواجهة العدوان الأمريكي الصهيوني التركي الأعرابي عليها، لتكون الدولة الثانية التي تقدم هذه المساعدة، بعد إيران وأطراف من حلف المقاومة، وتمكنت سورية بفضل هذه المساعدة من تعزيز الصمود وردع العدوان، ومن هنا بدأ العالم يتغير نحو عالم جديد بدأ يتشكل من رحم الصمود في الميدان السوري.
صحيح أن روسيا استطاعت بفضل تدخلها الشرعي والقانوني في سورية استعادة دورها ومكانتها في الساحة العالمية، لتتمكن من مواجهة إمبراطورية الشر الأمريكية، وخاصة مما كانت تخطط له ضدها من الخاصرة الأوكرانية لإسقاطها بالطريقة التي كانت تخطط بها لإسقاط الدولة السورية؛ لكن هذا الأمر يؤكد صوابية القرار السوري الروسي في التحالف، وتحقيق المصالح المشتركة للشعبين السوري والروسي ولعموم المنطقة.
وكدليل على هذا التوافق في السياسات والأهداف السورية والروسية كانت سورية أول من شاركها الأصدقاء الروس بالمعلومات حول عمليتها العسكرية في أوكرانيا حتى قبل أن تبدأ، عندما ترك وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو الأماكن الساخنة في الجبهة الأوكرانية، وجاء إلى دمشق للقاء الرئيس بشار الأسد، ثم زيارة وزير الخارجية السوري فيصل المقداد إلى موسكو قبل وقت قصير من العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا.
التموضع السوري في مواجهة الغطرسة الأمريكية ومخططات منظومتها العدوانية ليس جديداً وليس وليد اليوم، فقد أكدت الأحداث الخطيرة التي مرت على سورية والمنطقة العربية طيلة أكثر من عقد من الزمن وما زالت، وقبلها منذ التفرد الأمريكي بقيادة العالم والسيطرة على القرار السياسي والاقتصادي العالمي مع انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، أكد أن القيادة السورية كانت متنبهة ومدركة لأهداف وغايات منظومة العدوان وواجهتها من البداية، وكانت المحطة الأخطر عندما جاء وزير الخارجية الأمريكي، كولن باول، إلى دمشق بعد سقوط بغداد بيد القوات الأمريكية، في زيارة أظهرت كل الغطرسة الأمريكية، وقدم إلى الرئيس الأسد سلسلة المطالب التي باتت معروفة، مثل طرد حركات المقاومة الفلسطينية، وقطع الصلة مع حزب الله وإيران، وتحويل الجيش السوري إلى مجرد حرس حدود للكيان الصهيوني وجيش الاحتلال الأمريكي... وقد رفض الرئيس الأسد هذه المطالب في حين كانت دول وبعضها عظمى تخشى مجرد إبداء إشارة رفض للمطالب الأمريكية، وأكد الرئيس الأسد أن مقاومة هذه المشاريع الأمريكية الصهيونية أقل ثمناً من الاستسلام لها، وهو المبدأ الذي ثبت أنه كان صحيحاً، لأن الثمن الذي دفعته سورية، ولو أنه كبير، لكنه أقل بكثير مما كانت ستدفعه لو استسلمت لهذه المشاريع، لأنه يعني بكل بساطة تفكك سورية وانتهاء دورها وهويتها الوطنية والقومية، ووقوع كامل المنطقة في الفلك الصهيوني.
ما سبق يؤكد أن المواقف السورية وتموضعها في مواجهة إمبراطورية الشر الأمريكية ومنظومتها العدوانية ليست جديدة وليست وليدة اليوم، ولذلك وجدت نفسها إلى جانب روسيا التي تواجه اليوم منظومة العدوان نفسها، الأعداء أنفسهم، والمخططات نفسها التي استهدفت إسقاط سورية وتستهدف اليوم إسقاط روسيا، وهي تدرك الترابط الوثيق بين ما تريده منظومة العدوان في أوكرانيا وعدوانها على سورية، وتدرك أيضاً أن روسيا لا يمكن أن تخسر هذه المعركة رغم محاولات التضليل والتشويش التي خبرناها في سورية جيداً، ولذلك اتخذت منذ البداية الموقف الواضح الذي يقول إن من حق روسيا أن تواجه مخططات وأهداف منظومة العدوان التي تستهدفها وتريد تقسيمها وتمزيقها، وتعمل على تصحيح الخلل في التوازنات الدولية، وهو ما ثبت أنه سياسة صحيحة وتدل على قدرة القيادة السورية على استشراف المستقبل وقراءته بشكل جيد، وهو ما سيجعل لسورية مكانة محترمة في المنظومة الإقليمية والدولية التي تتشكل، والتي بدأ مخاض ولادتها من صمود القيادة السورية والميدان السوري.
وبالتأكيد يسر سورية والشعب السوري كثيراً أن يروا أمريكا وحلفاءها، وفي مقدمتهم العدوّ الصهيوني والإخواني التركي، والأنظمة والأدوات العميلة، وفي مقدمتها عشوائيات الخليج التي استسلمت للمشاريع الأمريكية الصهيونية، وهي تدفع أثمان ما اتخذته من مواقف تتعارض مع قوانين التاريخ والجغرافيا، سواء في سورية أم في اليمن ولبنان وفلسطين والعراق، والتي انكشفت بكل وضوح من خلال سياسات التطبيع مع العدو الصهيوني.