سلام محمد / جريــدة "الأيــام" الســوريــة

تعدّ "سيرة الأمير حمزة البهلوان" أو "حمزة العرب"، واحدة من أوائل السير العربية وأشهرها، فقد كانت متداولة في المجتمعات العربية القديمة، ترويها الأجيال عن الأجيال، وتعدت الحدود العربية إلى آداب أخرى. وترجع أهميتها ليس فقط لسمة الريادة، بل أيضاً ما تتضمنه من محاولة لتأريخ الإمبراطورية العربية/ الإسلامية وفق رؤية شعبية وأسلوب روائي شيق وجذاب. وقد حفظها العامة والرواة وذاع صيتها وانتشرت شفهياً، قبل أن توثق وتسجل في كتاب.
أصلها
مع أن للسيرة نسخة فارسية، عرفت بـ«حمزة نامة» أو «قصة الأمير»، إلا أن البحوث والدراسات رجحت الرأي بكونها عربية، لأن بطلها الأصلي عربي، ولد في ربوع مكة في تاريخ موغل في القدم، تاريخ مجهول (قبل الإسلام)، وله ملامحه العربية، كما تتسم سلوكيات الشخصية بسمات الشخصية العربية.
ويختلف النص الفارسي لهذه السيرة عن السيرة العربية، فهناك فروق واضحة بين النصين (العربي والفارسي)، وقد عرفت سيرة «حمزة البهبوان» ويبدو أن للسيرة بُعداً مضافاً، هو ما وراء كون للسيرة صياغة فارسية، ألا وهو في مرحلة تالية من السيرة، ينتقل حمزة من الجزيرة إلى بلاد فارس، يدخل بلاد فارس ويفتحها.
وإذا كانت الروايتان العربية والفارسية لهذه السيرة مشتركتين في البنية، إلا أنهما تفترقان في بعض المسائل، تلك التي تجعل لكل منهما أثراً مستقلاً يعكس الخصوصيات الفلسفية والأسطورية والدينية والتاريخية للشعب الذي أنتجها، فالرواية العربية تكاد تكون مرآة تعكس أحوال المنطقة العربية والوعي العربي في مسيرته القومية والدينية والتراثية والاجتماعية منذ الأزل وربما حتى الآن، معبأة بقيم عليا إنسانية وروحية معاً.
ورغم المشترك في المضمون والبنيوية للرواية الفارسية، إلا أنها تكاد تفترق عنها، وتشكل أثراً له رؤية مستقلة بدت خصوصيتها من خلال احتوائها على بعض العناصر الأسطورية والدينية والجغرافية لبلاد فارس والشرق عموماً.
كما بدت السيرة في روايتها الفارسية وكأنها فارسية المنبت والجذور. ففيها من الأوصاف للعادات والتقاليد، الملابس والمأكل والمشرب، الشخصيات وبعض الأحداث... وغيرها، تسعى لتشكيل وجدان المتلقي على كونها فارسية.

أهميتها في العصر الحديث
توجد طبعتان لهذه السيرة، ظهرتا في القاهرة عام 1962 (ستة مجلدات في 2880 صفحة من القطع المتوسط) بعنوان «قصة الأمير حمزة الشهير بحمزة العرب»، من تأليف أبي الحسن على بن الأثير الجزري صاحب كتاب «الكامل في التاريخ»، و«تحفة العجائب وطرفة الغرائب» مطبعة مصطفى البابي الحلبي.
أما الطبعة الثانية فلم تحمل اسم مؤلفها ولا تاريخ طباعتها، بعنوان «قصة حمزة البهلوان المعروف بحمزة العرب»، طبعة مكتبة الجمهورية لصاحبها عبد الفتاح مراد، وجاءت في أربعة مجلدات تشتمل على 1200 صفحة من القطع المتوسط. ويبدو أنه قد تم التدخل في إعادة صياغتها، واختصارها في الحقبة العثمانية، كما أن عنوانها قد تغير، واختفى اسم مؤلفها.
كما صدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة في مصر، كتاب «قصة الأمير حمزة البهلوان»، ضمن سلسلة الأدب العربي للناشئين، وتأتي هذه السلسلة في إطار السعي نحو تنمية ودعم الوعي الثقافي للصغار.

السياق التاريخي
تروي السيرة أن كسرى ملك الفرس قبيل ظهور الإسلام رأى في منامه أنه كان جالساً في إيوانه يأكل من إوزّة كبيرة في صحن، فإذا بفارس يقبل عليه، شاهراً سيفه، ويختطف الإوزّة من الصحن ويخرج بها، ويصاب كسرى بالقلق بسبب ذلك الحلم، فيستدعي وزيره بزرجمهر ليفسر له الحلم، فيقول له بزرجمهر: «إن فارساً يظهر في أرض الحجاز سيدخل إيوانه وينتزع منه ملكه».
ويتحقق الحلم ويكون هذا الفارس هو حمزة البهلوان بن إبراهيم، ملك العرب في مكة، ذلك الفارس العربي الذي ولد في مكة قبل ظهور الإسلام، وكان يتفوق على أقرانه، ويمتلك قدرات خارقة لا يقهر معها، فهو «البطل الكرار والفارس المغوار، مبيد الأعداء أهل الكفر والطغيان، صاحب الغزوات المعروفة والفتوحات المشهورة» الذي سيعيش قروناً، ممتدة من العصر الجاهلي حتى العصور الإسلامية، ويقود الغزوات في الجزيرة العربية وبلاد الرافدين واليمن وينتصر في كل منها، ويسير مع الملك النعمان بن المنذر لغزو بلاد فارس.
ويخوض حمزة مغامرات وأهوالاً لا حصر لها، تارة وحده وتارة مع جنوده، ويكون النصر حليفه في كل منها، وتنتهي كلها بانتصاره، حيث تسخّر كل الظروف لمساعدته، وينتصر في النهاية على كسرى ويبسط الإسلام في بلاد فارس، ويقيم العدل ويعم الخيرُ الناس.

البطل
"حمزة البهلوان" من أبطال السير الشعبية، والذين عرفتهم مرويات التراث العربي الإسلامي بأسماء كثيرة. ويرجح بعض الباحثين أن بعض هذه الشخصيات الخيالية والأسطورية لها جذور حقيقية، هامشية في الحياة، لكنها صاغت أدبها الخاص الأكثر حميمية وقرباً للجماهير البسيطة في شكل السير الشعبية.
وحمزة في هذه السيرة يجسد شخصية متخيلة لبطل عربي ولد وعاش في أعماق الصحراء العربية، حيث القيم السياسية لجماعة عرب الجزيرة، خلال زمن بعيد وقبل ظهور الإسلام، حيث الصراع مع الفقر والشرك بالله، ليبرز دور حمزة، الذي ينجح في إنجاز الانتصارات في كل شبه الجزيرة العربية من اليمن جنوباً حتى بلاد الرافدين شمالاً، فيصبح هو الموحد القادم من أهل الخلاص والقوة.
ويجمع حمزة البهلوان بين الشجاعة وقوة الإرادة، والدهاء، والقدرة على اختراع الحيل التي ينتصر بها على عدوه، ويساعده في ذلك تابعه الذكي صاحب الحيل الكثيرة «عمر العيار»، كما يبدو البهلوان في سيرته مؤيَّداً بالخوارق التي تتدخل لإنقاذه من المآزق، مثل فرسه الذي لا يمكن أن يدركه فرس، ومثل الرمح الذي أعطاه إياه نسّاك الجبل عندما مر بهم فعرفوه من غير أن يقول لهم اسمه، وهو رمح مرن يلتوي ولا ينكسر ويقتل كل من يلمس حده، وكذلك أبناؤه الثلاثة من الجن الذين ينزلون فيخلصونه من الأسر... كل شيء مسخر لمساعدته، حتى الأرض والجبال والشجر.
يسعى حمزة البهلوان في مغامراته إلى القضاء على الظلم وإلى نشر السلم، ومحاربة الظالمين، وبسط شريعة الإسلام في البلدان التي يفتحها. وتشير سيرته، التي خاض فيها حروبه إلى جغرافيا الأرض التي كانت تحكمها الخلافة الإسلامية في العهد العباسي، وكأن حمزة البهلوان هو تعبير شعبي عن البطولة المفقودة، ومحاولة لاستعادة مجد الخلافة العربية الإسلامية الآفل، ونشر قيمها التي تراجعت بعد سقوط الدولة العباسية، فهو تعبير عن حلم سياسي عربي، في ظروف تمزقت فيها المجتمعات العربية وضعفت.
لا تحمل شخصية «حمزة» ملامح أية شخصية تاريخية معروفة، وتزخر سيرته بفنون السرد على تنوعها، وبالسجع والأساليب الرفيعة، وكذلك بالأشعار، ما جعلها مدونة أدبية شيقة إلى جانب كونها مدونة للأخلاق والقيم الرفيعة.

حمزة بين روايتين
حمزة بدا عربياً في الرواية العربية، رغم احتواء السيرة على الكثير من العناصر الآرية والبابلية والمصرية. وفي حين نراه في الرواية الفارسية تحت وطأة القيم الحضارية الفارسية المختلفة، كما بدت في كلتا الروايتين ملامح لافتة، وهي التصادم بين الفكر القومي العربي والفارسي، وهي تعكس رؤية شعبية لقضية مسلمة ومقيدة في كتب التاريخ والأدب والفرق بين هذه الرؤية الشعبية، والرؤية الرسمية التاريخية، هو أن السيرة الشعبية هذه إنما تعرض لصراع قيم وأخلاق.
حمزة هنا فاتح إسلامي ينشر قيم الحق، ويقارع قيم الشر والطغيان، بينما كسرى رمز للحاكم القوي إلا أنه غالباً ما كان يسقط في مهاوي الضلال والاستبداد، نتيجة وجود وزيره بختك، الذي يجسد شخصية البطل السلبي، ويعد ممثلاً لقيم الشر والفتنة، وهو على نقيض وزيره الآخر بزرجمهر، الذي يحمل قيم العدالة والإيمان، ويساند الحق.
إن وجود شخصيات فارسية إيجابية أخرى كابنة كسرى، وفي المقابل وجود شخصيات عربية سلبية، كل ذلك ينفي البعد العرقي أو القومي للسيرة، ويؤكد البعد الإنساني والحضاري. ثم بدا التصادم في السيرة، لم يكن بين العرب والفرس فحسب، بل امتد ليشمل شتى الأمم والأعراق البشرية، بل نراه يطال عوالم الجن والخوارق. ورغم كل الخصوصيات التي تميّزها، بدت كبناء فني يعبر عن أهداف سامية، كما تركن الرواية الشعبية في المخيال الجمعي إلى قيم البطولة والشهامة والانتصار إلى الحق.

أسلوبها
أهم ما يمكن مدحه في هذه الملحمة الطويلة المكتوبة قبل عدة قرون، وقبل ظهور أول رواية عالمية مُعترف بها ومروج لها في السياقات الأدبية، وهي «دون كيشوت»، هو هذا السرد البسيط غير المسجوع، كأنه من الكتابات العصرية، وخلوه من الأسلوب السجعي والشعري، وعالم الجن الغرائبي المحدودُ الأثر. كما أن تطورُ الفصولِ في السيرة يعتمد على فعل الشخصيات وصراعاتها.

جماليات السرد
تعد هذه السيرة الوحيدةَ التي احتفت بالسرد على حساب الشعر، وتمثلت فيها جماليات النص الأدبي الكتابي، في الأسلوب السردي، ووحدة الموضوع، وتوظيف الوصف لخدمة الأحداث، مع انعدام صيغ الحكاية في السير الشعبية، قل الاحتفاء بالشعر داخل النص على عكس المألوف والشائع في كتابات السرد في تلك الفترة، إضافة إلى أنها من أقل السير في اللجوء إلى الجن والسحر وغيرها من الأساطير أو التقنيات التي سادت في قصص والسير الشفوية.

ترجع أهمية سيرة الأمير حمزة البهلوان لما تتضمنه من محاولة لتأريخ الإمبراطورية العربية/ الإسلامية وفق رؤية شعبية وأسلوب روائي شيق وجذاب. وقد حفظها العامة والرواة وذاع صيتها وانتشرت شفهياً، قبل أن توثق وتسجل في كتاب.