زهراء كركي - كاتبة لبنانية -

أتساءل دوما عن سر نجاح الاقتصاد الإيراني وصموده رغم كل العواصف التي يواجهها منذ انتصار ثورة الخميني عام 79، وحتى قرر ترامب تنويع هذه العقوبات ومضاعفتها عام 2018.. لقد تعلَّمت إيران من خلال "اقتصاد المقاومة" الذي أطلقه المرشد الإيراني، السيد علي الخامنئي، كيفية تحويل التهديدات (مثل العقوبات والعزلة الاقتصادية) إلى فرص. ويتجلَّى خير مثالٍ على ذلك في التعزيز الأخير للريال الإيراني، رغم القيود الإضافية التي فرضتها الولايات المتحدة في أعقاب الهجوم اليمني على شركة أرامكو السعودية.

وأسفر "اقتصاد المقاومة" المُتنامي عن منتجات كثيرة؛ فمن ناحية، أُسقطت طائرة "غلوبال هوك" بواسطة صواريخ من منظومة "رعد"، وهي منظومةٌ محلية الصنع، وقدَّمت وزارة الدفاع الإيرانية طائرتها المقاتلة "كوثر" العام الماضي، وهي قائمةٌ في الأساس على تصميم مقاتلات (F-5) الأمريكية ويجري تصنيعها بالكامل محلياً.
وحتى أن توقيع الاتفاق النووي عام 2015 الذي عد أكبر إنجازات روحاني، إذ خفَّف العقوبات المفروضة على الصادرات الإيرانية، لكنه فتح الباب أمام استيرادٍ أسهل، مما أضرّ بالصناعات الإيرانية في واقع الأمر. أما إبان ولايتي الرئيس نجاد المتشدد فكان الاقتصاد الإيراني منتعشا، وسعر صرف التومان أفضل بكثير، بحيث بات الإيرانيون مقتنعين بأن حكومة روحاني الإصلاحية التي فرحت كثيرا بتوقيع الاتفاق النووي فضَّلت الاستهلاك على حساب الإنتاج. خلال وقت الأزمة وقبل العقوبات الأخيرة، المحافظون جل اهتمامهم بتعظيم قوة القطاع الصناعي، باعتبار أنَّه يُمثِّل بوابة إيران للخروج من حالة الركود، إذ خطا قطاع التكنولوجيا الإيراني خطوات عظيمة في غياب المنافسة، حيث ازدهرت الشركات الناشئة في ظل العقوبات أيام حكم أحمدي نجاد. وقد شدَّد آية الله علي الخامنئي، ضمن خطاب لم يتغير قبل وبعد تشديد العقوبات الأمريكية، على حل المسائل الاقتصادية من خلال ما وصفه بـالاقتصاد المقاوم. وأولى اهتماماً خاصاً في السنوات الثلاث الأخيرة لدعم الصناعات والإنتاج والبضائع المحلية. 
وهناك أمثلةٌ على تطوُّر الإنتاج المحلي رغم كثرة المصاعب والعقوبات، فمن أجل مساعدة الضحايا الذين عانوا بسبب الفيضانات التي ضربت إيران في مارس عام 2019، أصدرت "لجنة تنفيذ أمر الإمام" طلباً بالحصول على 10 آلاف ثلاجة من علامةٍ تجارية كانت صلاحيتها قد انتهت آنذاك، مما أعاد إحياء العلامة التجارية ومصنعها وخطوط إنتاجها، ووفَّر فرص عملٍ لمئات الأشخاص، وزوَّد ضحايا الفيضان بالمساعدات المادية, فضلاً عن التأمين على 20 ألف منزل ريفي في محافظة خوزستان قبل أن يضربها الفيضان، مما زوَّد الأسر المنكوبة بأدوات جديدة لمنازلهم. وهذا مثالٌ على كيفية إعادة إحياء الإيرانيين لصناعاتهم، وتأمينهم لمصالحهم في الأوقات العصيبة.
وقبل بضعة أشهر، أعلن طلاب جامعة أمير كبير أنهم بصدد إجراء هندسةٍ عكسية على آلات حفر الأنفاق التي يمتلكونها حتى يتمكَّنوا من تصنيعها محلياً، نظراً لأن العقوبات جعلت من المستحيل استيراد آلات حفر أنفاقٍ جديدة.
أما الأدوية، فقد قامت الشركات الإيرانية بزيادة إنتاج العقاقير التي يصعب الحصول عليها أو استيرادها، محلياً، وخير دليلٍ على ذلك هو بنزيل بنسيلين، الذي تُعَدُّ إيران هي المُصنِّع الوحيد له في الشرق الأوسط. وفي السياق نفسه، افتُتِحَت المدينة الصناعية التابعة لـ"مجموعة بركة الدوائية" العام الماضي، لتُوفِّر فرص عملٍ مباشرة لقرابة 20 ألفاً، وفرص عملٍ غير مُباشرة لقرابة 50 آلفاً آخرين. وفي صناعة الدواء تعتبر إيران في مصاف الدول وتضاهي فرنسا في الجودة والفاعلية، وهو الأرخص ثمنا في العالم.
ولقد بات القطاع الصناعي الإيراني حاليا منتجاً لعدد كبير من السلع كالسيارات والأسلحة. وجزء من النجاح الاقتصادي لإيران يكمن في انتشار الأنشطة الاقتصادية على نطاق واسع، دون التركيز على المناطق الحضرية الكبيرة أو العاصمة، بل معظم صناعاتها يشغلها شباب الأرياف، حيث يتقاعس ساكنو المدن الكبرى عن إحياء المصانع الضخمة في بعض الأحيان.
التقدم التكنولوجي كذلك أدى إلى تطوير قطاعها الزراعي وكذلك صناعتها المدنية والعسكرية، الأمر الذي أسهم مساهمة فاعلة في تنويع مصادر الناتج المحلي الإجمالي وتقليص الاعتماد على استيراد السلع. ولم تكتف إيران بنقل التكنولوجيا من الخارج بل راحت تعمل على توليدها أيضاً. التنمية التكنولوجية كما هو معلوم لا علاقة لها باستخدام المعدات أو امتلاكها، فقد يستخدم المواطنون أحدث الأجهزة الإلكترونية، وقد تملك الدولة أقماراً اصطناعية وأسلحة متطورة؛ لكن التكنولوجيا هي الجانب التطبيقي للعلوم بهدف الوصول إلى صناعة معينة بمفهومها الواسع. العبرة بالبحوث والتصنيع لا بالاستخدام والتملك. وهو الحاصل في الجمهورية الإسلامية. وكانت جريدة "فوربس" الأمريكية أعدت تقريرا حول مستقبل الإقتصاد الإيراني والتطور التكنولوجي، وجاء في تقريرها أنه لا يمكن مقارنة القوة الخبيرة العاملة والمتخصصة في إيران بدول الشرق الأوسط. ونقلت هذه الجريدة أن إيران تُخرج سنويا 1000 عالم ومهندس في قطاعات مختلفة، ولا يمكن مقارنة هذا العدد الضخم بالدول الصغيرة في الشرق الأوسط. وأضاف التقرير: "لا يمكن لأي بلد في الشرق الأوسط منافسة إيران في مجال القوة العاملة والمتخصصة في القطاعات والمجالات المختلفة. ويتوقع في القريب العاجل أن تستغني إيران عن العائدات النفطية وتعتمد على 10 بالمئة من الصادرات النفطية فقط". وقدمت "فوربس" سبعة أدلة لبرهنة موقفها من التطور الاقتصادي المرتقب في إيران، منها الاكتفاء الذاتي في معظم احتياجات البلاد، وكثافة سكان هذا البلد وكثرة العلماء والمتخصصين الذين تجاوز عددهم العشرة ملايين. والسؤال: هل يستفيد الاقتصاد الإيراني من عقوبات ترامب؟ قد يبدو سؤالا غريبا، ولكن تاريخ الاقتصاد الإيراني يقدم إجابة أغرب، فقد شهدت قطاعات من الاقتصاد الإيراني توسعا في ظل العقوبات، والحاجة أم الاختراع. لن تعيق العقوبات النمو أو حتى التنمية على المدى البعيد، بل ستسمح العقوبات لإيران بفرصةٍ لتطبيق الإصلاحات الاقتصادية، من أجل تحقيق الاكتفاء الذاتي بشكلٍ أعظم. لقد اكتسب الاقتصاد الإيراني بفعل العقوبات مناعة إضافية ضد الأزمات، وهذه حقيقة يلمسها كل خبير في ظل تكاتف شعبي مع دعوة المرشد الإيراني لتفعيل الاقتصاد المقاوم وتعزيز الصناعات الداخلية ومنع استيراد البضائع الأجنبية إلا في حالات الضرورة القصوى.
وبخصوص البحث العلمي حسب آخر إحصاءات البنك الدولي بلغ الإنفاق الإيراني في هذا المجال 20432 مليون دولار، أي ما يعادل 17 مرة أضعاف الإنفاق المماثل في مصر مثلا، بل يفوق الإنفاق على البحث العلمي في بعض الدول الصناعية كالنرويج وبريطانيا.
أفضى هذا الاهتمام المالي إلى تزايد الباحثين في مختلف ميادين المعرفة ليصل عددهم إلى الملايين، فعدد الاختراعات الإيرانية يفوق بكثير عدد الاختراعات في جميع الدول العربية. كما تعود جميع البراءات في إيران إلى إيرانيين، في حين أن البراءات المسجلة لأجانب في دول مجلس التعاون الخليجي الأغنى عربيا، تعادل عشرة أضعاف براءات الاختراع المسجلة لخليجيين.
نعم، مما لا شك فيه أن العقوبات أثرت على الوضع الاقتصادي للبلد، لكن السؤال يتعلق بدرجة هذا التأثير، والعامل الاقتصادي يتأثر بالقوى الدافعة للنمو، بما في ذلك النمو في المدخلات والتكنولوجيا. ومن المسلم به أن إيران من الدول المتقدمة في التكنولوجيا ورائدة في التطوير الذي يذهلك كيف يتطور يوما بعد يوما في كل القطاعات كما شاهدت بنفسي خلال إقامتي ست سنوات في إيران.


(*) لبنانية خريجة اقتصاد من الجامعات الإيرانية.
24-10-2019