شادي مدانات - كاتب ومحلل سياسي أردني -

في محاولة منها لإخفاء حقيقتها، تطلق "المنظمات غير الحكومية" على نفسها زوراً وصف "مؤسسات المجتمع المدني"، تلك المؤسسات التي تكون متجذرة في مجتمعاتها لا دخيلة عليها كحال هذه المنظمات الخطيرة، والتي يمكن كشف خطورتها وأهدافها الحقيقية في الوطن العربي من خلال قراءتها في سياق المشروع الذي أنتجها، أي "المشروع الشرق أوسطي"، ذي الأدوات العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية، مشروع تفكيك وإعادة تشكيل المنطقة العربية جغرافياً وسياسياً واقتصادياً وثقافياً بما يتوافق مع مصالح المركز الرأسمالي، أي تفتيتها وتحويلها إلى مجرد سوق استهلاكية تضم كتلاً بشرية مستهلكة وبلا هوية، وظيفتها استهلاك بضائع دول هذا المركز وتقديم العمالة الرخيصة والمواد الخام بأسعار زهيدة لصناعاتها.

ففي سياق سعي الأداة السياسية لهذا المشروع لإنجاز عملية تفكيك وتقسيم الدول والمجتمعات العربية - (استكمالاً لما تقوم به أيضاً الأداتين العسكرية والاقتصادية) عبر فرض ما يسمى بـ "الإصلاحات السياسية"، والتي تهدف إلى إضعاف مركزيتها وتقليص صلاحيات حكوماتها تمهيداً لتفكيكها، يأتي دور "المنظمات غير الحكومية" لتتغلغل في المجتمعات وتمسك بأهم مفاصلها، بحيث تغدو القوة القادرة على خلخلتها ومن ثم توجيهها وإعادة تشكيلها بالشكل يخدم أهداف هذا المشروع. وبالإضافة للدور السياسي لهذه المنظمات، فإنها تشكل أيضاً إحدى أهم الأدوات الثقافية "للمشروع الشرق الأوسطي". فمع مواصلة الأداة الاقتصادية العمل على خلق الشروط اللازمة لإبقاء مجتمعات الدول المستهدفة في حالة التفكك الاجتماعي والثقافي، يأتي دورها لترسيخ هذه الحالة (أي ترسيخ البنية الفوقية لعلاقات الإنتاج الكولونيالية) عبر غزوها واقتحامها ـبأموالها وبرامجهاـ للإعلام والمؤسسات الثقافية والتربوية والاجتماعية والمهنية والتعليمية، وتوظيفها وتوجيهها لتكريس الهويات الفرعية دون القومية، وبالتالي ـفيما يخص الوطن العربي- ضرب الهوية العربية لمصلحة تعميم هوية "شرق أوسطية" هجينة تكون اليهودية مكوناً طبيعياً من مكوناتها، ونشر وتكريس قيم السوق الليبرالية الاقتصادية والسياسية والثقافية التي تحول الأوطان والمجتمعات بعد نسف هويتها وثقافاتها إلى مجرد كتل ومجاميع بشرية مستهلكة، والأفراد وقوة عملهم إلى سلع تباع وتشترى في السوق الرأسمالية المعولمة، وزرع وتكريس التنميط وثقافة التقليد والثقافة الفردية والقيم الاستهلاكية بما يخدم عملية التوسع اللامحدودة لهذه السوق.
ومما يؤكد خطورة "المنظمات غير الحكومية" ودورها المشبوه، هو تركيز "مشروع الشرق الأوسط الكبير"، الذي أعلنت الولايات المتحدة عنه بعد احتلالها للعراق، على دور هذه المنظمات في تحقيق اثنين من أهم أهدافه، وهما: ما يسمى بــ"تشجيع الديمقراطية والحكم الصالح"، و"بناء مجتمع معرفي".
بالنسبة للهدف الأول "تشجيع الديمقراطية والحكم الصالح"، يشير المشروع الأمريكي إلى مجموعة من الآليات والوسائل التي ستعتمدها الولايات المتحدة في سبيل تحقيقه، ومنها عقد دورات خاصة للبرلمانيين تركز على كيفية صياغة التشريعات، وتطبيق ما يسميه بـ"الإصلاح التشريعي والقانوني"، وأيضاً دورات خاصة لمن يصفهم بـ"الصحفيين المستقلين" لتشجيعهم وتدريبهم على إنشاء وسائل إعلام مستقلة عن الإعلام الرسمي في دولهم.
بالإضافة إلى ذلك، يرى المشروع الأمريكي بأن القوة الحقيقية الدافعة لما يسميه بـ"الإصلاح الحقيقي في الشرق الأوسط الكبير" تكمن في "منظمات المجتمع المدني"، والمنظمات غير الحكومية بشكلٍ خاص. ولذلك يركز على ضرورة دعم وتطوير وزيادة عدد هذه المنظمات، وتحديداً المنظمات غير الحكومية المختصة بقضايا حقوق الإنسان وحرية وسائل الإعلام، وأن تقوم دول مجموعة الثمانية بالضغط على حكومات المنطقة للسماح لهذه المنظمات بالعمل بحرية كاملة دون أية مضايقات أو قيود، وأن تقوم أيضاً بزيادة التمويل المباشر لها، عبر زيادة تمويل المنظمات المحلية -مثل مؤسسة وستمنستر في بريطانيا ومؤسسة الدعم الوطني للديمقراطية في الولايات المتحدة- المختصة بتأسيس وتمويل وتدريب المنظمات غير الحكومية على وضع البرامج والتأثير على الحكومات، وتطوير استراتيجيات خاصة بوسائل الإعلام والناس العاديين لكسب التأييد. كما يشتمل المشروع الأمريكي أيضاً على تأسيس منظمة غير حكومية خاصة بمتابعة وتقييم الإنجازات الفعلية في مجال "الإصلاح القضائي"، و"حرية وسائل الإعلام "في المنطقة.
وبخصوص الهدف الثاني "بناء مجتمع معرفي"، يشير المشروع الأمريكي في هذا المجال إلى أن تحقيق هذا الهدف يتطلب القيام بعملية "إصلاح" للتعليم الأساسي والجامعي في دول منطقة "الشرق الأوسط الكبير"، لمساعدة الطلاب على اكتساب ما يسميه "المهارات الضرورية للنجاح في سوق العولمة لعصرنا الحاضر". ويرى بأن هذه العملية يجب أن يتكفل بها من داخل المنطقة القطاع الخاص وقادة المنظمات غير الحكومية، وتيارات الرأي العام المتطلعة ـحسب وصفه- إلى" الإصلاح"، وذلك بالتعاون مع نظرائهم في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لتحديد المواقع والمواضيع التي تتطلب "المعالجة". وأهمها مناهج التعليم الأساسي، وتزويد المدارس بأجهزة الكمبيوتر وتكنولوجيا الإنترنت، بحيث يتولى القطاع الخاص توفير المعدات الخاصة بذلك، وأيضاً تطوير دراسة إدارة الأعمال من خلال عقد دورات خاصة لطلاب هذه التخصص في الجامعات والمعاهد الأمريكية والأوروبية، وإنشاء معاهدة خاصة بذلك في دول المنطقة على غرار "معهد البحرين للمصارف والمال"، الذي يرأسه مدير أمريكي، وله علاقة شراكة مع عدد من الجامعات الأمريكية.
ويُعتبر شعار "الإصلاح السياسي والديمقراطية" إحدى أهم الوسائل التي يعتمدها المشروع الأمريكي للتدخل بشؤون دول المنطقة، والضغط على حكوماتها لإجبارها على التخلي عن الكثير من صلاحياتها في المجالات المذكورة أعلاه، وبالتالي إضعاف سلطتها. واللاعب الرئيسي الذي يؤدي الجزء الأكبر من هذا الدور هو المنظمات غير الحكومية، وذلك من خلال تقوية وجودها في المجتمع بدايةً، اعتماداً على قوتها المالية، ثم العمل على إثارة قضايا تسهم في خلخلة المجتمعات، وزرع بوادر الانشقاق داخلها، مثل ما يسمى بـ "حقوق الأقليات"، والعمل في الدول العربية بشكل خاص على إثارة القضايا الطائفية والمذهبية، والقضايا العرقية في الدول التي يوجد بها أقليات غير عربية، وقضايا أخرى تسهم في الضغط على الحكومات "كحرية الإعلام" و"حقوق الإنسان" و"حقوق المرأة" وغيرها.
وتتضح أهمية "المنظمات غير الحكومية" في تفكيك الدول المستهدفة ومؤسساتها عند الاطلاع على ما أشار له الملياردير اليهودي الأمريكي من أصل مجري والممول الرئيسي لعدد كبير من هذه المنظمات في العالم جورج سورس، عن الدور الذي لعبته في تقويض الحكومات الشيوعية السابقة في دول أوروبا الشرقية؛ حيث يقول: "كان هدف مؤسستي في المجر دعم الأنشطة البديلة للدولة، ومؤسساتها. وأثبت هذا النهج فعاليته، فقد أصبحت المؤسسة هي المصدر الرئيسي لدعم المجتمع المدني في المجر. ومع ازدهار المجتمع المدني بدأ أفول النظام الشيوعي. وإثر انهيار الشيوعية تغيرت رسالة شبكة المؤسسات، ومن ثم تحولت من مهمة التخريب إلى مهمة البناء، وهو أمر ليس بالسهل عندما يكون المؤمنون بالمجتمع المدني قد اعتادوا الأنشطة التخريبية".


(*) كاتب ومحلل سياسي أردني
صحيفة ميسلون الإلكترونية