تستمر المفاوضات وتستمر معها المراحل الطويلة.. يستمر تمسك الطرف الوطني على مبدأ الوقف الكامل لإطلاق النار في جميع جبهات القتال، كمبدأ أساسي للتفاوض واستمرار المشاورات.. ويستمر الطرف الآخر المتمثل في وفد مرتزقة الرياض بمد الكثير من الزحوفات والعمليات الميدانية، وتستمر قوات تحالف العدوان في عمليات إبادة ممنهجة لليمنيين؛ ضاربين عرض الحائط باتفاقيات الهدن التي تعلنها الأمم المتحدة مراراً.
فمنذ جنيف 1و2 والكويت 1و2 ومسقط, رافقت عملية التفاوض أحداث عدة أبرزها: الصفقات الأخطبوطية للأسلحة ودخول القوات أمريكية والسعودية والإماراتية إلى جنوب اليمن، مع تعزيزهم لوفد المرتزقة اليمنيين الذين استندوا على أرضية جاهزة قوامها المزيد من العمليات الحربية على الأرض، وتوزيع الغرف العملياتية لتحالف العدوان.
أحداث أخرى رافقت عملية التفاوض.. قضم بعض المناطق، والمحاولات الدؤوبة للسيطرة على الخط الساحلي، بالإضافة إلى الاغتيالات الواسعة والمتتالية لشخصيات اجتماعية وأمنية في المحافظات الجنوبية. 
ومثلت المفاوضات الدورية خدعة دولية؛ مكنت أمريكا من دخول المحافظات الجنوبية، ومكنت القاعدة وداعش في الجنوب.. ولا زالت تمكن العدو من حشد مرتزقته وعملائه في مختلف الجبهات الداخلية والحدودية، وتمكين أمريكا من نهب ثرواتنا في المناطق الجنوبية، واستمرار نزيف الدم اليمني واستمرار محاولات شق الصف الوطني المواجه للعدوان.
ويمثل الإعلان الذي صدر في 14 أكتوبر العام الجاري، عن ماثيو راكروفت، سفير بريطانيا في الأمم المتحدة، والذي قال فيه إن بلاده ستقدم مشروع قرار يطالب بوقف فوري لإطلاق النار في اليمن، واستئناف العملية السياسية, لعبة جديدة في سياق استرداد الأنفاس وتوثيق أقدام تحالف العدوان على الأرض.
لم يقدم البريطانيون على مثل هذه الخطوة، وبمثل هذه السرعة، إلا بطلب أمريكي أوروبي، فمن يعرف البريطانيين وتاريخهم في منطقة الشرق الأوسط، وهو تاريخ سيئ حافل بالمؤامرات، سيؤيد حتماً مثل هذه النتيجة.. فالجنوب، اA269;ن، يجري إعداده على نمط الإمارات الوهمي- كل كيان جغرافي مستقل بذاته- وهي تجربة مر بها الجنوب أثناء الاحتلال البريطاني، كل حيز جغرافي يضم سلطنة أو مشيخة، وكل هذا وذاك صنيعة بريطانية، وإن اختلفت الملامح.

أنظمة ونماذج
حتى نبقى على عدم الغفلة عن الخدع ونقض العهود من جانب الحكومات الاستكبارية، خاصة أميركا وبريطانيا، في هذه القضية (اليمنية) وسائر القضايا العربية، علينا أن نتوقف على بعض النماذج، وبالذات القضية الفلسطينية والقضية السورية.
فالمفاوض (الفلسطيني) يعيش منذ زمن طويل خدعة كبيرة اسمها المفاوضات، وأكذوبة مماثلة اسمها الضمانات الأميركية للبدء في المفاوضات مقابل أن توقف إسرائيل عملية إبادتها واستفزازاتها اليومية ضد الشعب الفلسطيني.. يواصل الكيان الصهيوني مراراً في كل جولة مفاوضات مع الفلسطينيين، الادعاء بأن إحدى العقبات الرئيسية لأي اتفاق خلال جولات المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، تكمن في الرفض الفلسطيني للمطلب الإسرائيلي (الشاذ) بأن تعترف فلسطين صراحة بأن إسرائيل (دولة يهودية).. ويبدو أن الفلسطينيين والعرب قد خدعوا معاً بما يسمى مسلسل الضمانات الأمريكية الذي كان سخياً، ولم يتوقف منذ انطلاق عملية السلام في مدريد عام 1991 وحتى يومنا هذا، وتمادى العرب والفلسطينيون في تصديق تلك الأوهام بدءاً من وعود الرئيس بوش منذ انطلاق عملية السلام في مدريد عام 1991م، مروراً بوعود الرئيس كلينتون إلى عهد الرئيس أوباما في ولايته الثانية، أي وعود وتعهدات أمريكية على مدى أكثر من 23 عاماً، أفقدت الفلسطينيين أكثر من نصف مساحة الضفة الغربية، وزادت من هيمنة الاحتلال الإسرائيلي وحصاره لقطاع غزة والضفة الغربية معاً.. وفي الشأن السوري، تبرز خدع الكيان السعودي في محاولات هذا الكيان تأسيس مرحلة خطيرة من السجالات والحروب بين دول المنطقة وفق الإملاءات الأمريكية.. فمثلاً، مثلت الادعاءات السعودية بإرسال قوات إلى سوريا, أبرز الخدع السياسية الممجوجة بالغباء والمسخرة معاً. فالرياض التي تعاني من قلة الجنود في عدوانها على اليمن، وبشكل فظيع، وفشلها في تحقيق أي هدف، وقيامها باستئجار المرتزقة من بعض الدول الفقيرة في المنطقة، كيف يمكنها أن ترسل قوات إلى سوريا! وإن كانت ادعاءاتها صحيحة فإنها ستقوم بإرسال المرتزقة إلى هذا البلد، وهذا ما قامت به إلى اليوم بإرسال أكثر من 30 ألفاً من المرتزقة في إطار (داعش) إلى سوريا, فالرياض دعمت وتدعم العصابات الإرهابية لتدمير سوريا خدمة للمشروع الصهيوني، وكل ما تريده من هذا الادعاء هو التغطية على فشلها في اليمن.. ويثير الادعاء السعودي إرسال قوات إلى سوريا في إطار التحالف الأمريكي، العديد من الأسئلة: متى حاربت أمريكا والدول المتحالفة معها داعش في سوريا حتى تلتحق بها مملكة بانت فضائحها في اليمن؟! ولو كان التحالف الدولي جاداً في محاربة داعش والإرهابيين في سوريا لما دخلت روسيا على خط المواجهة في هذا البلد، وقلبت المعادلة بحيث شكلت فضيحة للتحالف الدولي المناصر أساساً للقوى الإرهابية في سوريا.
ولإكمال سيناريو (المهزلة) المشروخ هذا، أعلن وزير الدفاع الأمريكي أن الولايات المتحدة تدعم قرار السعودية بمحاربة (داعش) في سوريا، وكأنه يسوق للعالم بأن أمريكا فعلاً تحارب (داعش), واللافت أن الضربات القاصمة للجيش السوري ومعها قوى المقاومة في الميدان السوري، خاصة بعد تحرير بلدتي نبل والزهراء من محاصرة الدواعش، أفقدت ساسة الغرب بصرهم وبصيرتهم، وباتوا يتخبطون في تصريحاتهم وتناقضاتهم لدرجة يطلبون من روسيا وقف هجماتها على الإرهابيين في سوريا من جهة، ويعلنون محاربتهم لداعش من جهة أخرى، والأسخف من ذلك أنهم يوافقون الرياض على حضور وفد للمعارضة السورية يضم بين أطيافه أخوات (داعش) الإرهابية.
هذه الازدواجية المفضوحة التي تمارسها أمريكا وبعض حليفاتها تجاه الإرهاب والإرهابيين، في وقت يعرف الجميع أن هذا المعسكر لازال يؤمن بوجود إرهاب جيد وإرهاب سيئ، وأنها مصيبة ما أفظعها وأفضحها أن تسوق السعودية عنترياتها الزائفة على المنابر والفضائيات، وتتستر على هزائمها وانتكاساتها في الميادين، عبر استراتيجية جديدة ابتدعها نظام بني سعود الذي غالى في وحشيته وجرائمه، متمثلاً بنظيره نظام بني صهيون.

أعمدة المؤامرة السبعة
فى كتابه (أعمدة الحكمة السبعة)، والذي نسج فيه هالة من القداسة والأسطورية حول شخصه، وصف الكولونيل (توماس إدوارد لورانس) (1888- 1935)، والذي اشتهر بـ(لورانس العرب)، بأنه (أكبر عمل أدبي حديث يتساوى مع رواية (الحرب والسلام) لتولـستوي)!
كتب لورانس عن العرب: (لا أدري كيف يمكن للإنسان أن يثق بالعرب أو أن يأخذهم على محمل الجد.. أنا عرفتهم جيداً، ومعرفتهم لا تساوي العناء الذي تحملته لكي أعرفهم)! 
في نوفمبر عام 1968 نشرت صحيفة (التايمز) وثيقة بخط لورانس قال فيها: (إنني فخور ومستريح الضمير، لأن الدم الإنجليزي لم يسفك في المعارك الـ30 التي شهدتـها، فالعرب الذين أتقنت خداعهم وسقتهم بمئات الألوف إلى مذابح انتصارنا، لا يساوون في نظري موت إنجليزي واحد. وكنت أعرف مبكراً أن وعودنا لشريف مكة لم تكن تساوي الحبر الذي كتبت به)!
وتزامن ما نشر في (التايمز) مع ما كتبه الصحفي الأمريكي (إدجار مورر) في (شيكاجو تريبيون): أنه ذهب إلى الأردن ليتقصى من شيوخ القبائل عن دور لورانس، فأقروا أمامه أن (لورانس كان جباناً وكذاباً ومخادعاً، لم يشترك في معركة واحدة، ولم يكن له دور في القيادة، بل كان لزعماء القبائل الدور الأكبر، وحتى الألغام التي ادعى زرعها على خطوط السكك الحديدية، كان يقوم بها ضباط إنجليز وعرب منهم: عبد القادر الجندي ومولود مخلص والشيخ عودة الحويطي، أما دور لورانس الحقيقي فما تعدى نقل العملات الذهبية الإنجليزية إلى الشريف والقبائل البدوية لشراء ولائها)! ويضيف إدجار: (لم يكن لورانس إلا كذاباً دعياً جعل منه البريطانيون بطلاً فذاً وعبقرياً)! 
هذا هو لورانس الذي أطلق عليه (ملك العرب غير المتوج - وسلطان الصحراء العربية)، والذي حمل أرفع النياشين البريطانية!
وفي كتابه (ثورة في الصحراء – Revolution in Desert) لخص لورانس سياسة بريطانيا في جملة بالغة الدلالة: (لقد وضعنا بمهارة مكة في مواجهة الأستانة، والقومية ضد الإسلام).. واستطرد بأنهم فكروا في مستقبل العالم العربي بعد الحرب العالمية الأولى، ووجدوا أنه ينقسم إلى قسمين، ففي الشمال دول متقدمة نسبياً لوجود أنهار وفيرة وحضارات قديمة وطبقات نالت حظاً من التعليم، بينما في الجنوب صحراوات جرداء لا يزال البترول في باطنها، وكتب: (لو أننا أعطينا الاستقلال للدول المتقدمة نسبياً، فسرعان ما تتقدم وتتحول للصناعة، وتصبح خطراً علينا، ولذلك منحنا الاستقلال لليمن والحجاز، وفرضنا الحماية والانتداب على العراق وسوريا ولبنان وفلسطين)..
هكذا لخص لورانس سياسة الغرب في تقسيم العرب، ومنع تقدمهم اجتماعياً واقتصادياً وعلمياً! والولايات المتحدة التي ورثت الإمبراطورية البريطانية، تطبق نفس السياسة، فتضع (الثروة العربية في مواجهة القوة العربية) حتى يفقد العرب جميعاً القوة والثروة معاً! 
يمتد التاريخ السري لبريطانيا وتآمرها وعلاقتها مع الحركات الراديكالية والأصولية في العالم الإسلامي كله من الهند وباكستان إلى إيران، ومروراً بدول الخليج العربي والعراق وسوريا ومصر والسودان ثم دول الشمال الأفريقي وحتى منطقة البلقان.‏ 
ومنذ نهاية القرن التاسع عشر وطوال القرن العشرين، وبالذات عندما فقدت بريطانيا قوتها العظمى، وتراجعت مع حرب السويس عام 1956، تحولت أجهزتها السرية بخبراتها إلى منفذ للعمليات (القذرة) لصالح القوة العظمى الجديدة، الولايات المتحدة.‏. منذ وقت طويل تعاملت بريطانيا مع كل الأطراف، ولعبت على كل الأطراف، النموذج الأبرز لذلك هو ما فعلوه مع الثورة العربية الكبرى عام 1916 وزعيمها الشريف حسين، حيث منّوه في البداية بحكم الجزيرة العربية وبلاد الشام والعراق، ثم انقلبوا عليه في لحظة، لم يكن يعني بريطانيا مصالح أي بلد، ولا القيم التي تمثلها، ولا حتى الحرص على نموذج سياسي معين، كان يهمها أولاً وأخيراً المصالح البريطانية، ومن ثم ليس صحيحاً ما يتردد عن أن بريطانيا ودول الغرب عموماً تتبنى النموذج الليبرالي والعلماني في الحكم، حاربت بريطانيا الأنظمة القومية والوطنية والنماذج العلمانية في أي بلد إذا كانت تهدد مصالحها، والدليل أنهم في مصر حاربوا بضراوة سعد زغلول وحزب الوفد، بينما دعموا جماعة الإخوان المسلمين ومرشدها المؤسس حسن البنا، وكان الدعم سياسياً ومالياً. وطبقاً للوثائق فإنه منذ عام 1941 بدأت اللقاءات المنتظمة بين الاستخبارات البريطانية وحسن البنا، حدث ذلك على الرغم من أن سعد زغلول ومن بعده النحاس كانوا يتبنون أيديولوجية قومية وطنية، ويسعون نحو الليبرالية والعلمانية، لكن بريطانيا رأت هذه الأفكار تهديداً لوجودها ومصالحها في مصر ودول المنطقة، وتكرر ذلك في ما بعد مع عبد الناصر، حيث حاولوا اغتياله مرات عدة، وفعلوا الشيء نفسه مع سوكارنو في إندونيسيا، وغيرهما من الزعماء الذين يتبنون أفكاراً قومية وطنية وعلمانية.‏.ولعب البريطانيون خلال حقبة استعمارهم للدول العديد من الأدوار الخطرة، بالإضافة إلى خلقهم بؤراً دائمة الاشتعال، وخير مثال (قضية كشمير) التي تؤجج بشكل يومي مسألة الحرب بين الهند وباكستان، ومطالبة كل من الدولتين بالسيادة الكاملة على هذا الإقليم الممزق بين هاتين الدولتين منذ استقلال الهند عن بريطانيا في العام 1947، وانفصال مسلمي الهند بدعم بريطاني وتكوينهم دولة باكستان الغربية والشرقية (الجهة الأخيرة بنغلاديش التي استقلت عن باكستان).. وفي سياق اللعبة القذرة التي تنتهجها السياسة البريطانية، تعد معظم الجماعات الأصولية عبر العالم من اختراع بريطانيا. بريطانيا استغلت هذه الجماعات ووظفتها لصالحها، وإذا كان هناك حديث في الغرب حول خطر الإرهاب الإسلامي، فإن الواجب يفرض القول إن بريطانيا ساهمت في صناعة هذا الخطر ومنحه فرص النمو حتى يقوم بأدوار تخدم سياساتهم ومشاريعهم.‏. ساعدت الاستخبارات البريطانية حركة طالبان في أفغانستان، وساعدت تنظيم القاعدة، وبقيت لندن مفتوحة أمام رجال هذا التنظيم، حيث كانت بريطانيا ترى أن أفراد هذا التنظيم يمكن استغلالهم في الضغط على بعض حكومات المنطقة، كما يمكن الاستفادة منهم في حروب العصابات والعمليات القذرة التي لا تحب الحكومة البريطانية التورط مباشرة في ممارستها، وهو ما حدث في منطقة البلقان، كوسوفا وصربيا، وفي بعض البلدان الأفريقية، حدث هذا على الرغم من أن بعض الجهات في بريطانيا حذرت ونبهت إلى خطورة وجود هؤلاء الأفراد في لندن، ومنحهم مكاتب للعمل من خلالها.‏ 
وأدت بريطانيا دوراً خطيراً، وساعدت حركة طالبان في البداية ومولتها، ثم انقلبت عليها، وتعاملت مع كل الأطراف بمنطق (فرق تسد)، ونجحت هذه السياسة التي انتهت بأفغانستان على النحو الذي هي عليه الآن.
كما أثبت الزمن والتجارب أن الحكومات والسياسات البريطانية كانت تقوم ولاتزال بدور غير أخلاقي، وضد مبادئها المعلنة في رسم خارطة طريق الشرق مع الكاوبوي الأمريكي والهاجانا الصهيوني، وبقية أدواتهم المتمثلة بالأصولية الوهابية.