إب... وجعلناها محافظة وسطاً
- تم النشر بواسطة عبدالحليم الصلاحي/ لا
تستقبل النازحين من غرب وجنوب وشمال البلاد
إب... وجعلناها محافظة وسطاً
إب... وجعلناها محافظة وسطاً
وأنت تجول ببصرك في الفراء الأخضر لمحافظة إب، ستتردد في ذهنك بضع كلمات قادمة من غياهب التاريخ عابرة القرون الغابرة بصوت علي بن زايد وهو يقول: (يا هارب من الموت ما حد من الموت ناجي، ويا هارب من الجوع اهرب سحول بن ناجي)، ومنطقة السحول هي أحد أودية إب المحاذية لجبل سمارة.
بقيت إب محل ثقة علي بن زايد، فموقعها الذي يتوسط الجغرافيا اليمنية، ومعدل هطول الأمطار فيها الذي يعد الأعلى في الجزيرة العربية، إضافة الى خصوبة تربتها، كل ذلك جعلها بيئة جاذبة للهاربين من الجوع والموت على حد سواء، حيث شهدت هجرات سكانية إليها من مختلف مناطق البلاد، وخاصة أثناء فترات الحروب أو المجاعات التي تضطر السكان الى البحث عن أراضٍ يأمنون فيها من الخوف والجوع.
كجزء من حركة السكان في اليمن، حط كثيرون رحالهم في هذه المحافظة، جماعات وفرادى، خلال فترة من الزمن تزيد عن 700 عام، لذلك تجد في قراها وأريافها اليوم نسيجاً سكانياً متجانساً قوامه قبائل وعشائر وعائلات تنحدر من مناطق يمنية متباعدة، فهنا تجد الحضرمي واليافعي والحاشدي والبكيلي والصعدي والصنعاني والشرعبي والقيفي والمرادي... والقائمة طويلة، جميعهم سكنوا هنا وصاروا جزءاً أصيلاً من المكان، وائتلف الإنسان بالإنسان على تربة أرض صاغتهم وصاغوها، وتشكلت عبر القرون صورة إب كأن كل ما فيها متلازم ومتجاور منذ فجر البشرية.
إب تؤدي واجبها
إب التي تتوسط خارطة اليمن، ما زالت كعادتها ملاذاً لمن تعصف بهم صروف الدهر، فمنذ الأيام الأولى للعدوان على اليمن تقاطر عليها النازحون موجات متتالية من مناطق الحرب شمالاً وجنوباً، حيث إن العدوان على اليمن ضرب حصاراً حول البلاد، وقيد حركة اليمنيين بين اليمن والعالم، لذلك لم يبقَ أمام اليمنيين سوى النزوح الداخلي والانتقال من منطقة الى أخرى داخل اليمن، كمهرب وحيد من الحرب، لتعذر خروجهم من البلاد جراء الحصار المضروب حول المنافذ، وتعطيل المطارات والموانئ.
صناعة الاستقرار
من أهم الأسباب التي جعلت إب مقصداً للنازحين، هو حالة الاستقرار الأمني الذي تعزز بتوافق جميع القوى السياسية فيها على تجنيبها كل أشكال التوتر والصراع المسلح، هذا التوافق الداخلي استطاع البقاء وتوفير الأمن والهدوء للمحافظة رغم محاولات العدوان الحثيثة كسره من خلال المجازر المروعة بحق المدنيين، واستهداف البنى التحتية والطرق والجسور، بالإضافة لذلك فالجوار الجغرافي لإب، والمتمثل بمحافظة تعز، أيضاً أحد الأسباب، فتعز شهدت ثاني أعلى معدل للنزوح في اليمن بعد محافظة حجة، وكانت مدينة إب ومدينة القاعدة بمديرية ذي السفال (إحدى مديريات المحافظة) هي المكان الأقرب لمن اضطروا لترك منازلهم في تعز. صلات القرابة بين العديد من العائلات في إب وتعز لعبت أيضاً دوراً، فالعائلات التي لها أقارب في إب فضلت الانتقال للعيش لديهم.
محطة للمتعبين والمعذبين
مدينتا إب والقاعدة هما من المحطات الرئيسية للخط الأهم والأقدم الذي يربط بين محافظة عدن وأمانة العاصمة، الطريق يبدأ من مدينة عدن المطلة على بحر العرب ماراً بمحافظتي لحج وتعز، ثم مدينة القاعدة، تليها إب ويريم وذمار، قبل أن يصل أمانة العاصمة، ومع بداية العدوان نزح عشرات الآلاف من عدن باتجاه الشمال عبر هذا الطريق، واستقرت الكثير من العائلات النازحة في مدينتي القاعدة وإب، خاصة أن العاصمة كانت تتعرض لقصف شديد، وكانت هي الأخرى تشهد موجات نزوح باتجاه ريف صنعاء ومحافظات الوسط.
ظروف أخرى
تأتي محافظة إب في مركز متقدم على مستوى اليمن من حيث أعداد المغتربين والمهاجرين، ويتوزع أبناؤها المغتربون في دول عديدة حول العالم، وهذا بدوره أسهم في إحداث توسع عمراني كبير في عاصمة المحافظة ومدنها الثانوية خلال السنوات الماضية، إذ يمثل الاستثمار العقاري الخيار الأفضل أمام المغتربين، هذا التوسع العمراني في ظل المستوى المتوسط للحركة التجارية فيها بالمقارنة مع مدن أكبر مثل صنعاء وتعز وعدن، أدى الى وفرة في المساكن والمباني خلال الفترة التي سبقت الحرب، وعندما بدأت حركة النزوح الداخلية قبل عامين، كان بإمكان النازح أن يجد أو يستأجر بسهولة شقة أو مبنى للسكن في محافظة إب، وخلال شهور الحرب الأولى استطاعت المحافظة الناهضة عمرانياً استيعاب عشرات الآلاف من النازحين.
مناخ المحافظة وطبيعتها هو الآخر أحد الأسباب التي جعلتها مقصداً رئيسياً للنازحين، فمناخها معتدل شتاء ودافئ صيفاً، وخصوبة تربتها وكثافة غطائها النباتي ووفرة مصادر الماء (الينابيع والآبار) جعلت طبيعتها ذات جمال أخاذ تسكن إليه نفوس المفجوعين والهاربين من جحيم الحرب.
الأرقام تتحدث
يقدر عدد سكان محافظة إب بـ3 ملايين نسمة في 2016، يتوزعون على مديرياتها الـ20، بحسب الإسقاطات السكانية للجهاز المركزي للإحصاء، وهي من المحافظات الـ5 الأولى من حيث عدد النازحين إليها، إذ يصل عددهم فيها 134 ألف نازح من إجمالي عدد النازحين في اليمن حالياً البالغ مليوني نازح، بحسب تقرير صادر في شهر مارس 2016 عن مفوضية شؤون اللاجئين ومنظمة الهجرة الدولية التابعتين للأمم المتحدة. وبالنظر لعدد سكان اليمن حالياً، والبالغ 27 مليوناً و431 ألفاً، فإن نسبة 7.3% من اليمنيين حالياً في حالة نزوح، منهم 7% في محافظة إب وحدها، مع العلم أن عدد النازحين فيها كان وصل خلال مرحلة سابقة من الحرب على اليمن، الى 400 ألف فرد، معظمهم من محافظات تعز وعدن والحديدة وحجة.
يقيم بعض النازحين في 20 مخيماً تتوزع على مديريات المحافظة، معظمها مدارس حكومية أو مبانٍ عامة بمدينتي إب والقاعدة، في حين يقيم الجزء الأكبر من النازحين لدى أقاربهم أو في منازل مستأجرة.
معاناة تتراكم على جدار الوقت
يعاني النازحون في إب مما يعانيه عموم اليمنيين، فبحسب تقرير الاحتياجات الإنسانية الصادر في يناير الماضي، عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، فإن 18 مليوناً و800 ألف يمني يعانون من نقص الطعام والغذاء وشح أو انعدام المياه الصالحة للشرب، وتوقف المرافق الصحية، حيث يموت آلاف الأطفال جراء أمراض يمكن الوقاية منها، كما يعانون نتيجة تدمير البنى التحتية وتوقف الخدمات الأساسية، إضافة الى تضاؤل وانعدام سبل العيش ومصادر الرزق جراء التقويض الكبير والمتعمد للقطاع التجاري والمالي وانقطاع مرتبات القطاع الحكومي وتوقف صادرات البلاد من النفط والغاز.
كل هذه المعاناة يتشارك فيها ملايين اليمنيين، بمن فيهم النازحون وغير النازحين، لكن المؤكد أن المعاناة بالنسبة لمن أجبروا على مغادرة مساكنهم أشد، كونهم يحتاجون الى إعادة بناء حياتهم من جديد في المناطق التي نزحوا إليها في ظروف بالغة القسوة، فالخدمات الأساسية متوقفة أو محدودة للغاية، وفرص العمل وكسب الرزق نادرة أو منعدمة، وكلما طالت فترة النزوح تزداد معاناة العائلات النازحة بسبب نفاد مدخراتها.
نازحو إب يعيش معظمهم بلا مورد رزق أو بدخل محدود للغاية لا يكاد يلبي احتياجات أسرهم الأساسية من الطعام والكساء، في بداية الحرب كانت تصل العائلات النازحة الى مدينة إب أو القاعدة ولا زال لديها شيء يسير من المال المدخر أنفقته في استئجار المسكن أو شراء بعض المواد الأساسية، ولكن بعد أن تطاولت فترة النزوح نفدت مدخراتها، لتدخل تلك العائلات في حالة أزمة حقيقية بعد أن أصبحت عاجزة عن دفع الإيجار أو توفير الطعام، بعد أن باعت كل ما تملكه، ومع انقطاع الرواتب قبل أكثر من نصف عام، صارت فعلياً لا تحوز شيئاً لتستمر في العيش، واضطر العديد منها الى ترك المنازل المستأجرة والتوجه الى مخيمات النزوح أو سكنت في دكاكين حيث يتكدس كل أفراد العائلة داخل دكان يكون غالباً بلا حمام وبلا تهوية.
حالات كثيرة قد يواجهها أي مواطن في إب لأسر تستجدي قوت يومها على استحياء من المعارف والأقارب والجيران، فتوفير وجبة غداء أو عشاء يغدو مهمة شاقة يضطر فيها رب الأسرة أو ربة الأسرة الى استجداء الناس، ورغم وجود منظمات توزع الغذاء والاحتياجات الأساسية للنازحين، فكما أفاد كثير من النازحين الذين التقيناهم تركز فقط على مراكز الإيواء والمخيمات، بينما لا تلقي بالاً للعائلات التي في المنازل التي لا يقل وضعها سوءاً عن تلك المقيمة في المخيمات، بينما تلك الجمعيات والمنظمات ترد بأنها ليس لديها القدرة على تغطية احتياجات كل العائلات، ولذلك تقتصر على المخيمات، وفي الآونة الأخيرة توقفت حتى الوجبات الغذائية البسيطة التي كانت توزع على مراكز الإيواء، وتعزى الأسباب الى غياب الإمكانات.
السلطة المحلية..
العين بصيرة واليد قصيرة
بطبيعة الحال إمكانات السلطة المحلية والجهات الحكومية ليست قادرة على تلبية الاحتياجات المتعاظمة لعموم السكان، فعشرات الآلاف من النازحين الذين وصلوا في مرحلة سابقة الى مئات الآلاف تعجز المحافظة عن مواجهة احتياجاتهم في وقت هي أصلاً لم يكن لديها موارد كافية لمواجهة احتياجات السكان بداية العدوان قبل تدفق النازحين إليها.
المؤسسات الحكومية بلا نفقات تشغيلية تقريباً، وموظفوها أنفسهم بلا رواتب منذ شهور، قطاع التعليم يكافح لإبقاء العملية التعليمية في وضع العمل رغم الصعوبات الجمة التي تلاقيها، ليس أقلها تحول بعض المدارس الى ملاجئ ومراكز نزوح، وعدم وجود أماكن بديلة لنقل النازحين إليها، القطاع الصحي يعمل جاهداً على أن تظل المرافق الصحية القليلة تعمل ولو جزئياً، فالكوادر الصحية لم تستلم مرتباتها منذ شهور، مؤسسة المياه في مدينة إب سجلت نجاحاً منذ بداية العدوان، فقد بقيت تعمل وتضخ المياه الى الشبكة العامة اعتماداً على مواردها الذاتية، حتى في ذروة أزمة المشتقات النفطية، أما في مدينة القاعدة فهي متوقفة لأنها لم تستطع شراء المحروقات، وليس لديها الموارد المالية التي تمكنها من ذلك.
أمل خبا
في ظل الحصار الاقتصادي والمالي على اليمن الذي جعل عشرات الآلاف من الموظفين بالمحافظة، وبالتعاضد مع نفاد ما كانت تدخره الأسر النازحة، بعد أن باعت ممتلكاتها، انخفضت الحركة التجارية التي كانت مشجعة بداية العدوان عندما زادت حركة الشراء واستئجار المنازل، حيث سرعان ما انخفضت القدرة الشرائية مع اشتداد الحصار وتزايد العبء الاقتصادي على كاهل الأسرة لتغدو معتمدة على تحويلات المغتربين في الخارج.
محافظة إب بحاجة ماسة الى مزيد من الاهتمام من كل الجهات الحكومية والأهلية ومؤسسات العون الإنساني، وتنظيم الجهود وتنسيقها بين الجميع بعيداً عن الارتجال واحتكار المسؤولية، هو الخيار المتاح للاستجابة ولو بالحد الأدنى للاحتياجات القائمة، لتظل إب كما كانت قادرة على منح أنفاس الحياة لمن لاذ بها.
المصدر عبدالحليم الصلاحي/ لا