«لا» 21 السياسي -
في ظهيرة الخامس من تشرين الأول/ أكتوبر 1973، وفي الثانية عشرة وثلاثين دقيقة بتوقيت «بيغ بين»، التقى رئيس الموساد، تسفي زامير، بالمصدر 216 في شقة آمنة، 45 شارع كينسينغتون في لندن. لم يكن المصدر سوى أشرف مروان، صهر عبدالناصر وسكرتير السادات، وعنده الخبر اليقين.
سريعاً، أرسلت محطة «الموساد» في لندن وثيقة الاتصال اللاسلكي الرقم: (Mossad/Cable/73/216/Urgent) 13:15 بتوقيت لندن – 15:15 بتوقيت القدس، هذا نصها:
«إلى: مكتب رئيس الوزراء، وزارة الدفاع، قيادة الجيش، من: تسفي زامير، لندن.
المصدر 216 يؤكد: الهجوم يبدأ غداً 6 تشرين الأول/ أكتوبر الساعة 14:00 بتوقيت القاهرة على الجبهتين.
الدقة: عالية.
التوصية: تعبئة فورية».
صباح السبت 6 تشرين الأول/ أكتوبر انعقد الاجتماع رقم 71/73 لمجلس الوزراء المصغّر في مقر رئاسة الحكومة بالقدس. محضر الجلسة المحفوظ في أرشيف الدولة يبيّن أن رئيسة الوزراء، غولدا مائير، استهلّت الجلسة بالسؤال عن «الإنذار القادم من لندن».
توزعت النظرات بين الحاضرين. وزير الدفاع، موشيه دايان، بدا متردداً، وقال إن مصر وسورية لا تملكان الشجاعة لخوض حرب شاملة من دون غطاءٍ من القوى الكبرى، وأن تحركاتهما أقرب إلى ضغط نفسي. رئيس الأركان، دافيد إليعازار، وقد بدا مُرهقاً من ليلٍ طويل في غرفة العمليات، أعاد تأكيد أن المؤشرات كلها تتّجه نحو الحرب، وأن أي خطأ في التقدير ستكون كلفته فادحة. لكن الإنكار كان سيّد الموقف، وبقيت مفهومية الاستخبارات لا تعطي نسبة معتدّة للحرب، فاكتفى المجتمعون بقرارٍ يقضي برفع جزئي لحالة التأهب في سلاح الجو وبعض وحدات المدفعية، وتأجيل فكرة التعبئة الواسعة.
في الساعة العاشرة صباحاً، كما توثّق تسجيلات الغرفة (RA/73/10/6)، بدأت تصل البلاغات من الجولان عن تحركات كثيفة للمدرعات السورية نحو خطوط التماس.
بعد ساعتين، في الثانية عشرة وعشرين دقيقة تقريباً، أبلغت وحدات الاستطلاع في القناة عن استعدادات واضحة للعبور، جسور خفيفة تُركّب على الضفة الغربية، وأصوات محركاتٍ قادمةٍ من العمق. الملاحظات دُوّنت؛ لكنها لم تترجم إلى أوامر. عند الواحدة وخمسٍ وخمسين دقيقة بعد الظهر، دوّى أول قصفٍ مدفعي على المواقع الأمامية «الإسرائيلية» في الجبهة الجنوبية. في التسجيل ذاته يُسمع صوت رئيس الأركان يقول بالعبرية: «هم يبدؤون».
عند الثانية وخمس دقائق بالتحديد، كانت القناة تشتعل على امتدادها، ومئات القوارب المصرية تعبرها في موجاتٍ متتابعة تحت تغطيةٍ كثيفة من المدفعية والطيران. كان ذلك المشهد أول سقوطٍ فعليٍّ لما سمّوه لاحقاً «الهاكونسبتسيا»، أو المفهومية التي أغلقت عيونهم حتى اللحظة الأخيرة.
تلك الدقيقة التي تلت الثانية بعد الظهر لم تغيّر مسار الحرب فقط، بل كشفت عن مأزقٍ أعمق في بنية التفكير «الإسرائيلي»: مأزق الإيمان بالنظرية بدل الميدان، بالتحليل بدل الحدس، وبالقوة بدل الفهم. ستعود «لجنة أغرانات» لاحقاً لتقول كلمتها في تقريرها: «لم يفاجئنا العدو بالتحرك، بل فاجأنا أنفسنا بالإصرار على إنكار الحقيقة».
السادس من تشرين الأوّل/ أكتوبر عام 2023، مقرّ القيادة العسكرية العامة في «الكرياه» في «تل أبيب»، في قاعةٍ مضاءة بالذكاء الاصطناعي، لا بالحدس البشري، انعقدت جلسة الظهيرة، متّكئة على الغرور ذاته، ومستندة على المنصّة المركزية لدمج المعلومات الآتية من غزّة، لتجيب بالإجماع رغم عدد غير قليل من المؤشرات: لا نواجه أي احتمال تصعيد واسع خلال الأربع والعشرين ساعة المقبلة.
لكن، بحسب تحليل مركز أبحاث الأمن القومي «الإسرائيلي» (INSS) الصادر في كانون الثاني/ نوفمبر 2024، كانت هناك على الأقل سبع إشارات إنذار سبقت الهجوم خلال 24 ساعة، منها:
1. نشاط مكثف للاتصالات اللاسلكية المشفرة داخل غزة.
2. إخلاء ميداني لمناطق مدنية قرب الحدود الشمالية للقطاع.
3. تحركات غير اعتيادية لقوات الكوماندوز داخل الأنفاق.
4. رسائل استنفار داخلية لحماس رُصدت عبر شبكات مراقبة إلكترونية.
5. تعليمات طارئة للشرطة العسكرية «الإسرائيلية» صادرة من الجنوب لم تُفسَّر.
6. إشارات استخبارية بشرية محدودة من مصادر ميدانية لم تُعتمد، لضعف «الثقة الخوارزمية» بها.
7. تقاطعات زمنية بين تدريبات مسجّلة مسبقاً ونشاط فعلي على الأرض فُسّرت آلياً بأنها تطابق في البيانات لا في النوايا.
لاحقاً، وُصفت هذه المؤشرات بأنها «إنذارات غير مقروءة»، أي أنها كانت مرئية في النظام لكنها مرفوضة في الوعي.
في السادس من تشرين الأوّل/ أكتوبر 1973، سجّلت أجهزة المراقبة على القناة تحرّك زوارقٍ صغيرة نحو الضفة الشرقية. فنادى الضابط المناوب عبر اللاسلكي: «يبدو أنهم يعبرون!»، ليأتيه الرد من القيادة: «تحقّق مرة أخرى؛ ربما تدريب!».
بعد دقائق، كانت الدبابات المصرية قد لامست الضفة.
بعد خمسين عاماً، في السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023، صاحت راصدةٌ حدودية من برج المراقبة: «انفجار على السياج! هناك دخان!». ردّ الضابط المناوب بالعبارة ذاتها تقريباً: «تأكّدي من العدسة؛ قد تكون عبوة صوتية، لا تتسرّعي».
كانت تلك آخر جملة تسمعها قبل أن تنقطع الإشارة.

 طه حسين - 50 عاماً من الإنكار