لاختراق صنعـاء.. الحرب الإلكترونية الأمريكية - «الإسرائيلية» على اليمن
- تم النشر بواسطة ترجمة خاصة:أقلام مانع / لا ميديا

ترجمة خاصة:أقلام عبدالملك مانع / لا ميديا -
لسدِّ الفراغ الاستخباراتي الهائل بشأن أنصار الله، شنَّت «تل أبيب» وواشنطن حرباً استخباراتية سرية على اليمن.
لكن مجتمعاً غارقاً في المقاومة، مقروناً بعقيدة الصمت التي تتبناها صنعاء، أثبت أن من الصعب اختراقه أكثر مما كان متوقعاً.
في تشرين الأول/ أكتوبر 2023، انضمت القوات المسلحة اليمنية الموالية لأنصار الله إلى المعركة دعماً لعملية «طوفان الأقصى» التي شنتها المقاومة الفلسطينية، وضد حرب «إسرائيل» على غزة.
واليوم، بعد قرابة عامين، ظهرت ساحة معركة جديدة - بعيداً عن مياه البحر الأحمر أو سماء فلسطين المحتلة. هذه الحرب لا تتضمن طائرات مُسيّرة أو صواريخ باليستية. إنها غزو صامت ومستمر ورقميّ يهدف إلى زعزعة التماسك الداخلي لحكومة صنعاء، من خلال التجسس والتلاعب النفسي وأساليب الاختراق الناعمة.
مكالمات هاتفية من دولة الاحتلال
بدأت الحرب السرية ببراعة. تلقى «محمود»، الصحفي اليمني الذي يعمل مع إذاعة محلية، رسالة من رقم دولي غريب. لكن ما لفت انتباهه لم يكن الأرقام الغريبة فحسب، بل الدولة المدرجة تحتها: «إسرائيل».
يقول «محمود» لموقع «المهد» (The Cradle): «كان الأمر مرعباً. رحّب بي المُرسِل باسمي الكامل، وأشاد بعملي الإعلامي، ثم دعاني للانضمام إلى فريقهم. حذفتُ المحادثة فوراً قبل أن يتمكن من قول المزيد».
«محمود» ليس حالة فريدة. «سامي»، المقيم في صنعاء، تلقى رسالة مختلفة بالنمط نفسه. دعاه حساب على «فيسبوك»، يزعم أنه طبيب فلسطيني، للانضمام إلى «نقاش أكاديمي» مع خبير يمني. تضمنت الرسالة أسماء شخصيات يمنية مرموقة زُعم أنها تزكيه. شعر «سامي» بأن ثمة أمراً غير طبيعي، فتواصل مع من وردت أسماؤهم؛ لكن أحداً منهم لم يكن على علم بالأمر.
وبحسب شهادات موثقة جمعتها صحيفة (The Cradle) من صحفيين وناشطين في مختلف أنحاء اليمن، فإن هذه الأساليب هي جزء من حملة متسارعة التوسع للتسلل والتجنيد الإلكتروني «الإسرائيلي» والأمريكي.
وتصاعدت الجهود الاستخباراتية السرية بسرعة بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، عندما انضم اليمن إلى المعركة في دعم عسكري مباشر لغزة، ما دفع «تل أبيب» وواشنطن إلى التركيز على صنعاء كهدف استخباراتي أولوي.
فراغ استخباراتي
هزّت هجمات الطائرات المسيّرة والصواريخ اليمنية ممرات الملاحة «الإسرائيلية»، كما ضربت عمق دولة الاحتلال، مستهدفةً بنى تحتية عسكرية واقتصادية رئيسية، ووصلت إلى «مطار بن غوريون». وقد كشفت هذه الجبهة المقاومة غير المتوقعة ما اعترفت النخب الأمنية «الإسرائيلية» لاحقاً بأنه فراغ استخباراتي كبير.
نُقل عن إيال بينكو، المسؤول الدفاعي «الإسرائيلي» السابق والباحث البارز في مركز «بيغن - السادات للدراسات الاستراتيجية»، وهو مركز أبحاث «إسرائيلي»، قوله: «لدى إسرائيل خبرة طويلة مع هؤلاء الأعداء [إيران وحزب الله وحماس]. هناك معلومات استخباراتية، وهناك عنصر مهم وهو المناورة البرية، وفي اليمن لا نستطيع فعل ذلك. المجال هنا مختلف».
حتى 18 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، لم يُعطِ الموساد ولا جهاز الاستخبارات العسكرية «أمان» الأولوية لأنشطة الاختراق وجمع المعلومات في اليمن. ولكن بعد الهجمات المتواصلة من صنعاء، تحوّلت النقاشات الداخلية «الإسرائيلية». وظهرت دعواتٌ إلى «الانفتاح الاستخباراتي» تجاه اليمن لتضييق هامش المفاجأة.
دعا وزير الحرب «الإسرائيلي» السابق أفيغدور ليبرمان علناً إلى إنشاء قنوات استخباراتية داخل اليمن، بما في ذلك دعم القوات المحلية بالوكالة لتقويض أنصار الله. وبالمثل، أقرّ مستشار الأمن القومي السابق، يعقوب أميدرور، بأن أجهزة الأمن في «تل أبيب» أساءت فهم اليمن وحسابات أنصار الله الاستراتيجية بشكل جذري.
هذا التحول جاء متأخراً جداً؛ فقد زعزعت صنعاء بالفعل عقيدة الردع «الإسرائيلية»، وأجبرتها على توسيع نطاقها الاستخباراتي بشكل محموم.
استهداف اليمنيين عبر الإنترنت
في ظل الفراغ الاستخباراتي «الإسرائيلي» بشأن اليمن، بدأت «تل أبيب» بتعويض ذلك من خلال عمليات تسلل وتجسس معقدة. وصرح مصدر أمني لموقع «المهد» (The Cradle) أن «جهود التجنيد تبدأ بالبحث عن يهود يمنيين يجيدون اللهجة الصنعانية أو غيرها من اللهجات المحلية، بهدف استخدامهم كعملاء لجمع المعلومات الاستخبارية من داخل البلاد».
بالإضافة إلى ذلك، يُسلّط المصدر الضوء على طريقة أخرى متنامية: الإعلانات الجماعية عبر الإنترنت. تظهر هذه الإعلانات أثناء تصفح مواقع التواصل الاجتماعي، وغالباً ما تَعِد بمكافآت مالية -تصل إلى مليون دولار- أو معلومات تُفضي إلى شخصيات من أنصار الله، أو بيانات مرتبطة بـ«عمليات الدعم البحري».
بعض الإعلانات تأتي من صفحات مشبوهة تابعة للموساد؛ لكن بعضها الآخر يأتي من صفحات رسمية أمريكية، مثل وزارة الخزانة أو السفارة الأمريكية، تحت ستار «حماية المصالح البحرية» أو ضمان أمن الملاحة العالمية.
ويقول المصدر الأمني إن «الهدف هو جمع معلومات استخباراتية عن مناطق أو أهداف محددة مرتبطة بالجبهة البحرية النشطة - أي شيء مرتبط بالقوة العسكرية لصنعاء في ساحة البحر الأحمر».
ويكشف أن بعض الجواسيس المعتقلين تلقوا تدريبات استخباراتية متقدمة في دول أوروبية، وعادوا إلى اليمن تحت غطاء منظمات دولية أو وسائل إعلام أو وكالات تنمية، ما أتاح لهم قدرة واسعة على الحركة يصعب رصدها في الظروف العادية.
مهامهم الرئيسية شملت مراقبة المواقع العسكرية الحساسة، وجمع معلومات استخباراتية دقيقة عن القوات البحرية، وجمع بيانات تقنية وعملياتية عن الصواريخ والطائرات المسيّرة. كما نفذوا عمليات تخريب واغتيال، ونقلوا إحداثيات لتسهيل الغارات الجوية، واستخدموا أجهزة مشفرة، وبرامج تجسس متطورة، وأنظمة اتصالات عبر الأقمار الصناعية يصعب تتبعها بالوسائل التقليدية.
وتشكل هذه العمليات جزءاً من استراتيجية ممنهجة للتسلل إلى اليمن عبر منظمات تبدو ظاهرياً وكأنها تركز على التنمية والتعاون، لكنها في الواقع تعمل كأذرع تجسس وتخريب في القطاعات الاقتصادية والزراعية والتعليمية والأمنية.
وتعمل الشبكات تحت أغطية مختلفة -دبلوماسية وإنسانية واقتصادية وأكاديمية- تخدم مصالح الاستخبارات لوكالة المخابرات المركزية والموساد.
في السنوات الأخيرة، تزايدت الأنشطة المشبوهة في قطاع الإعلام. وتعمل هذه الجهود تحت شعارات جذابة؛ لكنها تخفي وراءها أجندات أكثر خطورة. يصف الصحفيون أنماط استهداف متكررة: منظمات غير حكومية، مؤسسات ثقافية، ورش عمل في فنادق مغلقة، استطلاعات رأي تطرح أسئلة مريبة حول الانتماءات السياسية، دعوات بعد الجلسات لمتابعة خاصة، وعروض غير رسمية لتمويل تحقيقات موجهة...
بل إن بعضهم تلقى دعوات للسفر أو مقترحات للانضمام إلى مشاريع إعلامية دولية، ليكتشفوا فيما بعد أنها تخدم أجندات أجنبية.
معظم هذه المبادرات موّلتها جهات مرتبطة بالولايات المتحدة، غالباً عبر دول وسيطة أو سفارات أو أذرع ثقافية إقليمية. وقد كشفت المخابرات اليمنية عن مجموعة تعمل تحت اسم «المختبرات» قامت بعمليات تجسس مباشرة متنكرةً في هيئة إعلام تنموي.
تجسس في وضح النهار
أساليب التسلل التي كشفها موقع «المهد» تتبع نهجاً متناسقاً ومقلقاً. أفاد يمنيون بتلقيهم رسائل غير مرغوب فيها من أرقام هاتفية أجنبية -غالباً ما تحمل رموزاً لدولة «إسرائيلية» أو أوروبية- تعرض وظائف مربحة في وسائل الإعلام أو المنظمات غير الحكومية.
في كثير من الأحيان، تنتحل هذه الرسائل شخصيات أكاديميين أو محترفين، وتستشهد بشخصيات محلية معروفة، لبناء الثقة، وتتحقق من معلومات مفصلة حول المواقع الحساسة، وقادة المجتمع، والبنية التحتية العسكرية.
يذكر «عبد الرحمن»، وهو صحفي في صنعاء، أنه تلقى رسائل من حسابات تُقلّد أصدقاء أو زملاء على «فيسبوك». يقول: «بدأ الأمر برسائل خاصة من حسابات بأسماء مألوفة، وأحياناً بصور شخصية لأصدقاء أو زملاء. لكن عندما راجعتُ الحسابات، وجدتُها جديدة، ونادراً ما تنشر أي منشورات».
طلب أحد الحسابات معلومات حساسة عن زميل له، وحاول آخر استدراجه إلى نقاش سياسي قبل نشر رابط مشبوه. «الأسوأ من ذلك أن بعض هذه الحسابات استخدمت لغة متطابقة، كما لو كانت تُدار من قِبل المصدر نفسه. كما أن استخدام الأسماء والصور الحقيقية زاد صعوبة كشف الخداع».
يؤكد سلطان السامعي، عضو المجلس السياسي الأعلى الحاكم في صنعاء، أن الشباب يُستهدَفون بشكل جماعي. ويشارك مع «المهد» قصة شاب من صنعاء اعترف بالعمل مع الموساد بعد أن استغلّ الجهاز الاستخباراتي فقر عائلته وعرض عليه مبلغ 250 دولاراً لتثبيت تطبيق كاميرا خفية وتوثيق الحيّ الذي يسكن فيه - شوارعه وأزقته ومسؤوليه المحليين.
مع كل مهمة، ازدادت المبالغ المعروضة: 300 دولار، ثم 600 دولار، ثم زادت المبالغ لاحقاً مقابل صور ومقاطع فيديو أكثر دقة.
ويحذر «سامي» من أن الموساد نجح بالفعل في تجنيد عدد من الشباب والشابات خلال الأشهر القليلة الماضية.
في إحدى الحالات السرية التي اطلع عليها موقع (The Cradle)، طُلب من الصحفيين تقديم تقارير مفصلة عن ميدان السبعين، وهو ميدان ذو حساسية سياسية شديدة في صنعاء، وهو هدف متكرر للغارات الجوية «الإسرائيلية». كُلِّفوا بتصوير نقاط التفتيش، وتوثيق استخدامات المباني، وتقييم البنية التحتية للاتصالات.
حرب البيانات تدخل المنازل
إلى جانب الجواسيس والتصوير السري، يتكشف خرقٌ أكثر صمتاً ومنهجية. يُحدد «عبد الحافظ مُعجب»، المتخصص في الحرب النفسية، نقطتي دخول خطيرتين: العمال الأفارقة غير الموثقين، وانتشار برامج خدمات التوصيل غير المنظمة.
ويوضح أن العديد من العمال الأفارقة دخلوا اليمن بشكل غير رسمي، ويعملون الآن في أماكن حساسة، غالباً فنادق يرتادها المسؤولون، أو في مبانٍ حكومية، حيث يمكنهم الوصول إلى البنية التحتية الحيوية دون تدقيق.
يقول «مُعجب» إنّ ما يُثير القلق بالقدر نفسه هو الانتشار غير المُقيّد لبرامج خدمات التوصيل في جميع أنحاء المدن اليمنية. هذه البرامج، التي غالباً ما تفتقر إلى وضع قانوني واضح أو ملكية معروفة، اندمجت في الحياة اليومية، وتجمع بيانات شخصية مُفصّلة: عناوين منازل، تركيبة ووضع العائلة، أنماط الاستهلاك، وحتى تفضيلات الوجبات...
تعمل هذه الشركات سراً، وتتوسع من خلال التخفيضات والعروض الترويجية الرقمية، دون رقابة من وزارتي النقل والاتصالات. يكمن الخطر في الأسئلة التي لا أحد يُجيب عليها: من يجمع هذه البيانات؟ وأين تُخزَّن؟ وإلى من تصل؟
يُردد «سامي» هذا التحذير، ويقول إن حرب الاستخبارات تتحول إلى أساليب جديدة وأكثر خبثاً. تُكمّل تطبيقات العمالة المهاجرة غير المنظمة وخدمات التوصيل عمليات الخداع الرقمي التي تجند اليمنيين عبر إعلانات وظائف وهمية، وأرقام أوروبية وأمريكية، ومخططات هندسة اجتماعية؛ وكلها تخدم أجهزة استخبارات معادية.
شبكات التجسس تم تفكيكها
بحسب أجهزة الأمن في صنعاء، تم تفكيك أكثر من 1782 خلية تجسس، وأُلقي القبض على 25665 شخصاً بتهمة التعاون مع جهات استخباراتية أجنبية، منذ 2015 وحتى آذار/ مارس 2024. وفي كانون الثاني/ يناير 2025، كشفت السلطات عن اعتقال خلية تجسس تعمل لصالح جهاز المخابرات البريطاني (MI6) والمخابرات السعودية، كانت تهدف لتقويض دعم اليمن لغزة.
قبل أيام، أُلقي القبض على خلية مشتركة بين وكالة المخابرات المركزية الأمريكية والموساد في صعدة، استهدفت منشآت ومراكز لقيادة الطائرات المسيّرة. وفي أيار/ مايو 2024، نُفذت العملية الأبرز: تفكيك «الوحدة 400»، وهي شبكة تجسس أمريكية - «إسرائيلية» تعمل في الساحل الغربي لليمن، مهمتها: اختراق الدفاعات الداخلية وتحديد مواقع إطلاق الصواريخ وقيادتها. شكّل تدميرها ضربةً قاصمة لدقة الغارات الجوية التي نفذتها واشنطن و«تل أبيب».
«مدري» قانون وقائي
يجد اليمن نفسه الآن في حرب من نوع مختلف، حرب تُشنّ عبر الهمسات والتطبيقات والمنظمات غير الحكومية وإعلانات الوظائف الوهمية. تحاول واشنطن و«تل أبيب» اختراق النسيج الاجتماعي والفضاء الإعلامي لبلدٍ كان يُنظر إليه حتى وقت قريب على أنه لاعب هامشي.
لكن التهديدات التقليدية تتسارع هي الأخرى. في 23 تموز/ يوليو، أفادت «القناة 14» العبرية بأن جيش الاحتلال يُعِدّ لما سمته «هجوماً كبيراً» على اليمن، في انتظار الضوء الأخضر من القيادة السياسية «الإسرائيلية». ووفقاً للتقرير، فإن المؤسسة الأمنية في «تل أبيب» تعمل «على مدار الساعة على خطة هجومية كبيرة» ضد حكومة صنعاء.
ومع ذلك، لا يزال اليمن يُشكّل التوازنات الإقليمية، والمقاومة التي يُثيرها ليست عسكرية فحسب، بل ثقافية وإعلامية، ومتجذّرة في مجتمعٍ ثبت صعوبة رسم خرائطه أو اختراقه أو التنبؤ به.
ورداً على هذه التهديدات المتعددة الطبقات، أطلقت وزارة الإعلام في صنعاء حملة توعية عامة بعنوان «مدري» -وهي عبارة عامية يمنية تعني «لا أدري»- عبر منصات مثل «تيليجرام»، «إكس»، «فيسبوك»، و«إنستجرام».
الحملة تحثّ المواطنين على عدم الكشف عن معلومات حساسة على الإنترنت. وبانتظام، ينشر حسابٌ مُخصّصٌ مقاطع فيديو تُحذّر من التنصت على الهواتف والتصيّد الاحتيالي ومخاطر خدمات الأقمار الصناعية مثل «ستارلينك»، التي يزعم المسؤولون أنها قد تُستغلّ من قِبَل الجيوش المُعادية.
ما بدأ كمصطلح شائع، أصبح منذ ذلك الحين مبدأً للأمن السيبراني، وركيزةً أساسيةً في حملة السيادة اليمنية. وفي بلدٍ يُصبح فيه الغموض درعاً، والتهرب غريزة بقاء، لم يعد «مدري» مجرد رد فعل سلبي؛ إنه عملية مقاومة ممنهجة تحمي النسيج الاجتماعي اليمني من الاعتداءات المعادية، وتؤكد أن جبهته الداخلية ليست مكشوفة وليست للبيع.
المصدر ترجمة خاصة:أقلام مانع / لا ميديا