دمشق - أحمد رفعت يوسف / لا ميديا -
ما يجري في مناطق شمال شرق سورية ليس مجرد قتال بين قوات من العشائر ومليشيا قسد العميلة، وإنما صراع يتصل مباشرة بساحات ونقاط الاشتباك، من بحر الصين إلى أوكرانيا، مرورا بساحات الاشتباك الرئيسية في فلسطين المحتلة والبحر الأحمر.
موقع سورية في هذا الصراع يأتي من كونها مركز البؤرة الزلزالية، التي تتوسع دوائرها لتشمل كافة نقاط الصراع والاشتباك التي ستحدد شكل المنظومة الإقليمية والدولية التي تتشكل على أنقاض منظومة القطب الواحد برأسها الأمريكي والتي تتداعى.
«طوفان الأقصى» كان الصاعق الذي أوصل هذا الصراع إلى لحظة الانفجار، لأن العملية لم تكن مجرد عملية للمقاومة الفلسطينية على دماغ الكيان الصهيوني، وإنما جاءت تتويجاً لصراع تارة على الساخن وتارة على البارد، بدأ منذ سقوط الاتحاد السوفييتي، أوائل تسعينيات القرن الماضي، ثم أحداث أيلول في نيويورك وواشنطن عام 2001، ثم غزو أفغانستان، والعراق، ومقتل الحريري، والعدوان على لبنان عام 2006، والاعتداءات المتوالية على غزة ولبنان، وصولاً إلى أحداث الربيع العربي عام 2010، حيث أرادت القوى الغربية حسم الصراع لصالحها، من خلال مشروع الشرق الأوسط الجديد، الذي أرادت فيه إعادة تقسيم المنطقة على أسس عرقية وطائفية، إلى كيانات تدور في الفلك الصهيوني، والهدف السيطرة على كافة منابع وخطوط نقل الطاقة في العالم، وخاصة في الخليج ووسط آسيا وشرق المتوسط، وعلى الممرات البحرية والبرية والجوية، وخطوط التجارة والتوريدات العالمية، ورأينا كيف أن خط الغاز الذي خططوا لإنشائه من الخليج إلى المتوسط، عبر سورية، كان المشروع الأهم في هذا المخطط، والهدف محاصرة روسيا وتقسيمها، ومحاصرة الصين ومشروعها «الحزام والطريق»، وإسقاط إيران.
واضح من هذا السرد أن سورية كانت وما زالت وستبقى قلب كل هذا الصراع، والميدان الذي يحدد مصيره. وكان أصدق تعبير عن هذا الوضع ما قاله وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، بأن العالم الجديد سيتشكل بالطريقة التي ستنتهي بها الأزمة السورية.
لهذه الأسباب، كان لعملية «طوفان الاقصى» هذا العمق والتأثير، لأنها جاءت محصلة لكل هذا الصراع الذي بدأ يظهر معالم الفشل والتراجع على المنظومة الاستعمارية الغربية من جهة، ومدى عمق وتأثير عوامل القوة التي راكمتها دول وأطراف محور المقاومة، وعمقها وظهيرها الاستراتيجي في موسكو وبكين.
هذا يؤكد أن ما يجري ليس مجرد جولة من جولات الصراع، وإنما هو الجولة الختامية التي سيعلن في نهايتها الخاسر والمنتصر، وكيف سينتهي هذا الصراع، هل بالنقاط العادية، أم بالنقاط العالية، أم بالضربة القاضية، وهذا يعني أن الصراع مستمر حتى الوصول إلى تحديد نتيجته.
ولهذه الأسباب، لا يوجد طرف لديه إمكانية وقف القتال، ومازالت القوى الغربية تكابر وترفض الإقرار بهزيمة مشروعها، والقوى الصاعدة تمتلك من الأسباب والمبررات ما يجعلها تشعر بأنها سائرة نحو تحقيق انتصار غير مسبوق، وأن الزمن يلعب لصالحها، ولذلك فإن التوصل إلى وقف للقتال في فلسطين المحتلة وجبهات الإسناد مستبعد تماما، وحتى لو تم التوصل إلى ترتيب معين فلن يكون وقفا دائما للقتال، ولن يكون أكثر من فرصة لالتقاط الأنفاس، سيعود بعدها أشد وأقوى.
وبالعودة إلى القتال في مناطق شمال شرق سورية بين قوات العشائر وقوات قسد العميلة، وحتى نفهم أبعاد ومجريات ما يجري، لا بد من معرفة خلفيات الصورة، ومجريات الميدان، والعوامل التي تتحكم فيها.
• الدولة السورية تدعم قوات العشائر، وهي التي تدير كل هذا الصراع وتتحكم بمجرياته، بالتعاون مع الحلفاء في موسكو وطهران، مقابل دعم أمريكي لمليشيا قسد.
• فشل أمريكي «إسرائيلي» في غزة وفلسطين المحتلة.
• شعور «إسرائيلي» بأنهم وصلوا إلى مرحلة الخطر الوجودي ولم يبق أمامهم سوى محاولة جر أمريكا إلى تولي القتال ضد إيران وفي سورية بشكل مباشر، وهو ما أدى إلى الجنون «الإسرائيلي» المتنقل، في غزة وفي قتل إسماعيل هنية في طهران وفؤاد شكر في قلب الضاحية الجنوبية، وقبلها العدوان على الحديدة وضرب القنصلية الإيرانية في دمشق.
• فشل أمريكي مريع في مواجهة اليمنيين في البحر الأحمر، وضعهم في موقف ميداني محرج أمام الصين وروسيا وإيران، وشعورهم بأن انفجار الأوضاع في العراق وسورية، في وجههم، مسألة وقت لا أكثر، وهو ما يجعل انسحابهم من البلدين مسألة مطروحة، للتقليل من الخسائر وتجنب هزيمة مذلة.
• تركيا تقرأ جيدا أن مراهنتها على الولايات المتحدة أصبحت خاسرة، وأن الناتو في طريقه إلى التفكك، وأن مصالحها أصبحت مع موسكو والفضاء الأوراسي الصاعد، وسلوك هذا الطريق مستحيل بدون فتح النافذة السورية، مع ما يتطلبه ذلك من خطوات سياسية وميدانية، وهو ما جعلها تؤيد بقوة موقف سورية وروسيا في شرق الفرات.
• روسيا، التي تعرف مدى ترابط جبهتها الأوكرانية مع جبهات غرب آسيا، تعمل للرد على الخرق الأوكراني الأطلسي في كورسك، في غرب آسيا، وهو ما حمل على وجه السرعة شحنات الأسلحة النوعية إلى إيران وأكثر من طرف في المنطقة، ووقوفها بشكل مباشر وواضح إلى جانب قوات العشائر في مواجهة «قسد».
• إيران، التي تستعد للرد على الكيان الصهيوني، تدرك أنه لا بد من إعداد الساحة بكل هدوء، وتوصيل الرسائل المباشرة إلى الأمريكيين، بأن قواتهم في سورية والعراق تحت الأنظار والأيادي، وهو ما حمل شحنات معدات عسكرية سريعة لقوات العشائر.
الوضع الآن في شمال شرق سورية هدوء حذر، ووراء الكواليس دخول روسي بقوة على الخط عسكريا وسياسيا، يؤشر إلى مدى تراجع الدور الأمريكي، وهناك طلبات قدمتها روسيا وسورية لـ«قسد»، مع مهلة أيام قليلة للموافقة وإلا...
أما «قسد» فلا يزال بعض قادتها يكابر ولا يجيد قراءة الرسائل بشكل جيد، ولا يزال بعضهم يقعون ضحية أمل الاستقواء بالأمريكيين.
هي أيام قليلة وتتضح الصورة، بناء على ما ستشهد الفترة الفاصلة حتى انتهاء المهلة المعطاة لـ«قسد»، وفي كيفية تطور الأمور على ضوء رد إيران والمقاومة على الكيان الصهيوني.
وبانتظار هذا الرد، تقف سورية اليوم، بما تمتلكه من موقعها الجيوسياسي الهام والفريد الذي كان مرة نعمة وأخرى نقمة، أمام تطورات هامة تحمل الكثير من الأمل والبشرى بقرب الخلاص وبدء مرحلة جديدة مختلفة بشكل كامل عن المرحلة الصعبة التي تمر بها.
المصدر أحمد رفعت يوسف / لا ميديا