«لا» 21 السياسي -
في الإطار المعرفي العام، يتم تحليل العلاقة السعودية - الأمريكية ضمن مفهوم التبعية ‏السياسية والاقتصادية، وحتى الثقافية، بين طرف يمثّل الإمبراطورية وآخر تابع لها. إلا ‏أن هذا المفهوم جامد ويستثني عوامل وخصالاً متغيّرة بتغيّر الظروف التاريخية ذات ‏الصلة بالطرفين، وتحديداً السعودي. لذلك، لا يمكن تحليل السعوديين اليوم بشكل جاف ‏عبر ترديد مسألة التبعية للولايات المتحدة فقط؛ بل إن رابطة التبعية السعودية كانت، ‏وهي اليوم أكثر من أيّ وقت مضى، منطلقة من حالة نفسية تؤدّي إلى حمق في ‏التصرّف، وخصوصاً في فلسطين واليمن.
ففي فلسطين، تمثّل القضية عبئاً تاريخياً ‏وإزعاجاً يعكّر عملية ممارسة الرفاه والترف للأثرياء والطبقة الوسطى الاستهلاكية، ‏والممثلين عنها، أي الأمراء العرب. ولأنّ هناك علاقة سببية بين موت الفلسطينيين ‏وعذابهم، ورفاه الأمراء وشريحة واسعة عربية وعالمية في محيطهم، فكلّما تبرز ‏فلسطين معكِّرةً صفو الترف والاستهلاك يختلط الحمق النفسي والغاية السياسية، ‏وتخرج أسوأ أنواع الخطاب وغياب العقل وانكشاف للنوايا، بحسٍّ انتقامي يصل إلى أن ‏ينافس الصهاينة أنفسهم من دون مبالغة. فكيف يجرؤ أهل غزة على محاولة تعكير ‏استهلاك المطاعم الأمريكية والترفيه في «موسم الرياض»؟! ففي العمق إنّ ذهنية ‏المستوطنة والقصر هي ذاتها، والتهديد الفلسطيني لهما هو ذاته.‏
في اليمن، الأمر ذاته أيضاً، فالمسألة تتعلّق بالفقراء وصرختهم وثوريتهم وتوقهم إلى ‏الكرامة والحرّية. ولكن الحمق السعودي هنا منطلق من الفوقية التاريخية على اليمن ‏واليمنيين. وهذا تحليل جامد ومكرّر أيضاً. فالمسألة اليوم أن السعوديين، لأول مرة في ‏تاريخهم، وبدون أيّ سابقة خلال ملكهم، يجدون أنفسهم في جزيرة العرب وهناك وهن ‏وإضعاف للسطوة البريطانية، ثم الأمريكية فيها، ومن أين؟! من اليمن! من هنا، ‏يصعب على السعوديين فهم هذا الوضع الجديد. عقلهم -جدياً، ومن دون مبالغة- لا ‏يستوعب المسألة، والأهمّ أنه يرفض أن يتقبّلها.‏
المسألة هي خصلة بشرية، وخصوصاً للمراهقين، وأيضاً للطغم الحاكمة المتكبّرة ‏والمغرورة. لن يقبل هؤلاء تغيّر التاريخ. وحينما يتغيّر، يركنون إلى التكبّر والإنكار، ‏كالمراهق الذي تحذّره مراراً وتكراراً بأن لمس النار سيحرق أصابعه، ولكن لو أعدت ‏شريط التاريخ ألف مرّة، فالنتيجة واحدة أن المراهق بتكبّره سيلمس النار وتحترق ‏أصابعه، فهذه طريقة تعلّمه الوحيدة، وهذه أيضاً سنّة التاريخ مع المستكبرين.‏
منذ دخول الهدنة، والسعوديون يحاولون بالتكبّر ذاته قلب الأمور والتموضع من طرف ‏إلى وسيط، والهروب من سياساتهم وجرائمهم. كانت هذه وسيلتهم الغبية، وليس ‏الحمقاء، بالمعايير العقلية لأمراء بني سعود في تحاشي أثر الهزيمة. ولكن، نحن اليوم ‏وبعد «طوفان الأقصى» ومعركة «الفتح الموعود والجهاد المقدس»، في لحظة تاريخية ‏فريدة للنفسية السعودية، حيث ثمّة تقاطع في الحمق تجاه الفلسطينيين واليمنيين في آن ‏واحد، وأمست المعركتان معركة واحدة.‏
وعليه، يتضخّم الحمق السعودي، وهو ما نراه ينعكس كنوع من اضطراب ثنائي ‏القطب، والتقلبات النفسية، فمن ناحية إعلامية وفي الخطاب السياسي نشهد ارتفاعاً في ‏نكران الضعف والوهن للقوة العسكرية الأمريكية و»الإسرائيلية» في المنطقة، والتي ‏راهنوا عليها وما زالوا كوثيقة أمان أبدية لمشاريعهم الاقتصادية ومستقبلهم السياسي في ‏المنطقة. وهو ما ينعكس عبر محاولة تبنّي سياسات تصعيدية اقتصادية على اليمن ‏والذهاب بعيداً في الصهينة البجحة والحرب على الفلسطينيين، وكأن السعوديين في ‏حالة انتظار لنوع من التدخّل الغيبي الذي سيصبّ في مصلحة هذه السياسات، وهزيمة ‏الفلسطينيين واليمنيين.‏
رغم ذلك، فإنهم، وبعد تبنّي كلّ سياسة متهوّرة وحمقاء، سواء منع الحجّاج اليمنيين من ‏العودة أو التصعيد في الحرب الاقتصادية، وإلى ما قبل آخر اللحظات من الوعيد ‏اليمني، يتراجعون ويخضعون. فهم في حالة نفسية ما بين إنكار الوضع الجديد وبين ‏الشعور والإحساس بأنّ عصى القوّة السياسية والعسكرية الحقيقية هي لدى خصومهم، ‏وليست معهم أو حتى مع الأمريكيين و«الإسرائيليين»، في المنطقة كلّها وفي فلسطين ‏ولبنان واليمن. بل إنّ القول المنسوب إلى السعوديين والأمريكيين بأنكم لن تقدروا على ‏اليمنيين لهو مؤشّر إلى ذلك، وما ثبات صوابيّته سوى مؤشر ودليل آخر أيضاً على أن ‏تصرّف اليمنيين كفاعل ثوري في المنطقة ليس خاضعاً لقواعد الردع والاشتباك ‏التقليدية وأحكام الحدود والجغرافيا الوطنية لهو الخيار الأجدى في التعامل مع العدوان ‏الغربي.‏
وبالعودة إلى التضخّم في الحمق السعودي، فهو يمتدّ ما بين عدم تقبّل الوضع التاريخي ‏الجديد لجزيرة العرب في يمن مستقلّ وحرّ وعزيز، والأهمّ قوي ومقتدر، وأن هذا ‏يقتضي تأقلماً واحتراماً ونهاية للنظرة الدونية، وأن صنعاء عاصمة لها حرمة وعصمة ‏كأيّ عاصمة، وأن الشعب اليمني ذو سيادة وحرمة في ممتلكاته واقتصاده وحياته، ‏وصولاً إلى عدم تقبّل واقع أن الوضع الإقليمي لما بعد «طوفان الأقصى» يقتضي أن ‏البحث عن حل أمني تقني عبر البنية العسكرية الأمريكية والصهيونية رهان واضح ‏خسارته، وأن مركزية القضية الفلسطينية ثابت، لا متحوّل، في تاريخ العرب ‏والمسلمين، وأن مسار التطبيع على هامش مستقبل المنطقة. والأهم في كل هذا، أنه لا ‏يبدو أن هنالك قدرة إبداعية في الفكر الاستراتيجي للسعوديين للوصول إلى توليفة ‏للتكيّف مع هذا الواقع الجديد سوى التقلّبات النفسية والحمق الذي لن يؤدّي إلا إلى ‏ارتكاب أخطاء استراتيجية كبرى تكلّفهم الكثير.‏
فالنقطة أنه ورغم ذلك فإن هذا الحمق السعودي يتمظهر على شكل نكران وتكبّر من ‏جهة، ويتمظهر في الوقت ذاته شعوراً بالأزمة. ومن الممكن رؤية شعور الأزمة أنه ‏ورغم كل المحاولات السعودية لإعادة تصدير شرعية وخطاب جديد معاصر وحداثي ‏يتناسب مع العولمة الاقتصادية والثقافة الاستهلاكية الأمريكية، إلا أنه ومع أوّل شعور ‏بالأزمة تعود السلطة والناطقون عنها إلى الأدبيات والعصبيات الأولى لقيام الدولة، وهي ‏العصبية الوهابية، وخطاب العداء على أسس طائفية ضدّ الآخر. لذلك، نلاحظ اليوم، ‏ومع حماقتهم بالتواطؤ مع الأمريكي و»الإسرائيلي» المزدوج ضدّ فلسطين واليمن، عودة ‏الشحذ على وتر العصب الوهابي أمام الآخر، وهذا مؤشّر نفهم عبره أنهم رغم النكران ‏والتكبّر فهم يشعرون بالمأزق والأزمة.‏
والنتيجة، في نهاية المطاف، أن التعنّت والتجبّر السعودي لن يزولا بالتهديد والوعيد، ‏بل سيقابلونه بالسخرية والإنكار. فالشواهد التاريخية تخبرنا أن هذه اللحظات التي ‏يتغيّر فيها التاريخ بما يفرض فيه الفاعل التاريخي الصاعد أنه نظير وذو مكانة، نادراً ‏ما قوبلت باستيعاب. وما التوافقات المرحلية والاتفاقات والتسهيلات سوى تسويف ‏سعودي، ولن تفضي بانسيابية إلى تملّك اليمن السيادة الكاملة على مجاله الجوّي ‏ومعابره البحرية أو إلى قبول السعوديين بقوّة ثورية فلسطينية تلهب مشاعر الملايين. ‏وعليه، فالسعوديون سيستمرّون في مسارهم ذاته إلى أن يلمسوا النار بأيديهم، وحينها ‏فقط سيستوعبون الظرف التاريخي الجديد في صدمة سيهرولون بعدها للتأقلم معه بأقلّ ‏الخسائر.‏

موسى السادة 
كاتب عربي - «الأخبار» اللبنانية