تحقيق وتصوير: عادل عبده بشر / لا ميديا -
لم تكن شمس الاثنين 4 آذار/ مارس الجاري قد خمدت تماماً في مخدعها بعد رحلتها اليومية من المشرق إلى المغرب، فاسحة المجال لليل المهيب بعباءته السوداء، حتى أوشكت الأجواء في منطقة الساعد بمحافظة الجوف أن تضاء مجدداً، ليس لشروق الشمس من مغربها كإحدى علامات قيام الساعة، وإنما نتيجة خلاف على إحدى حصادات القمح المركزية في إحدى المزارع الاستثمارية الكبيرة. وصل الأمر إلى التهديد بإحراق الحصادة الرابضة وسط قاع مزروع بالقمح مساحته تقارب 150 هكتارا.
تعود جذور الحكاية إلى مشكلة أساسية تتكرر عام بعد آخر، في مثل هذا الفصل، حيث يدب القلق في صدور أصحاب حقول «الذهب الأصفر» حين تكون الأرض الخضراء قد اكتست لونها الذهبي، مؤذنة بموسم الحصاد الشتوي لسنابل الخير.
الشعور بالقلق لدى المزارعين والمستثمرين في القطاع الزراعي، وخصوصاً في مجال القمح، ينبع من كون جني المحاصيل يأتي في ظل صعوبات عدة تواجه مرحلة الحصاد وتُهدد بنسف التوجه الوطني لتحقيق الأمن  الغذائي ونيل السيادة والاستقلال الحقيقيين من دول الاحتكار العالمي للغذاء. أبرز تلك الصعوبات عدم توفر الميكنة الزراعية، وأهم عناصرها آلات الحصاد الحديثة، بالشكل المطلوب، وبما يتناسب مع التوسع المستمر في المساحات المزروعة والتوجه الوطني والثوري لملء سلالنا الفارغة عبر إنتاجنا المحلي، وتوفير مخزون استراتيجي آمن وصحي.
صحيفة «لا» كانت حاضرة في موسم الحصاد الشتوي للقمح في الجوف العام الماضي 2022/  2023، ورصدت مشاكل المزارعين، وطرحتها على طاولات المسؤولين في الجهات المختصة، الذين وعدوا بحل تلك الإشكاليات وتلافي العوائق وإصلاح الخلل، على مدى عام كامل، فلا يأتي موسم الحصاد في العام 2024 إلا وقد تم معالجة كل أخطاء المواسم الماضية، ووضع خطط ذات بعد استراتيجي تتوازى مع التوسع المستمر في زراعة القمح، باعتباره أمنا قوميا يضمن لليمن حريته واستقلاله وكرامته.
جاء الموسم المنتظر، وبدأت عملية حصاد السنابل الذهبية منتصف شباط/ فبراير المنصرم، بشكل غير رسمي، قبل تدشين الموسم رسمياً وإعلامياً بحضور قيادات من الجهات الزراعية المختصة، صباح الرابع من آذار/ مارس الجاري. غير أن الوعود السابقة لم تحضر. وحدها المشاكل الموسمية ظلت مسيطرة على المشهد الميداني، ورصدتها صحيفة «لا» في أحاديث عدد من كبار المزارعين ومسؤولي مزارع استثمارية.

صورة إعلامية
تم اختيار مزرعة «السنيدار» في منطقة الساعد، التي تعد أخصب منطقة في الجوف، لتكون مكاناً لتدشين موسم الحصاد الشتوي للقمح للعام 2023/ 2024، نظراً للمساحة الكبيرة المزروعة بالقمح في المزرعة، واستخدامها نظام الري المحوري بطول 400 متر للجهاز الواحد، والذي يغطي في دورانه خمسين هكتاراً.
وحتى تكون الصورة جميلة في وسائل الإعلام التي حضرت لتغطية الحدث، تم توفير خمس حصادات مركزية «الكمباين»، والبدء بعملية حصاد السنابل الذهبية في مشهد زراعي يُثلج القلوب، كون تواجد خمس حصادات مركزية في مزرعة واحدة، يعني أن الحكومة أوفت بوعودها في حل أكبر مشكلة وعائق في طريق تحقيق الاكتفاء الذاتي من محصول القمح، والمتمثل في عدم توفر الحصادات المركزية بما يتناسب مع المساحات المزروعة بهذا المحصول، والتي تتوسع عاما بعد آخر، إلا أن نجم التفاؤل بدأ بالخفوت تدريجياً مع مغادرة المسؤولين في الجهات الزراعية المختصة، الموقع، حيث تسربت الحصادات واحدة بعد الأخرى، وقُبيل الغروب لم يبق في المزرعة سوى حصادتين، فقط، بل وفجأة أقبل بعض الرجال من مزرعة استثمارية أخرى يطلبون إحدى الحصادتين، مؤكدين أنهم كانوا يعملون بالحصادة المطلوبة في حصاد محصول القمح في مزرعتهم حين طُلب منهم إحضارها مؤقتا لصباح يوم التدشين.
أوضحوا أن المختص بتوزيع الحصادات التابعة للمؤسسة العامة لإكثار البذور على كبار المزارعين والمزارع الاستثمارية في الجوف، طلب منهم أن يخرجوا الحصادة إياها لبعض الوقت إلى موقع التدشين بهدف «التصوير» ثم استعادتها لمواصلة عملية الحصاد في مزرعتهم.
اتضح بعد ذلك أن أربع حصادات من الخمس التي تم التدشين بها، كانت موزعة على مزارع أخرى، وتم «استعارتها» لغرض التدشين إعلامياً.

كان المزارعون ساخطين
بينما كان مسؤولو الجهات الزراعية يبتسمون لكاميرات الإعلاميين. عبّر عدد من مسؤولي المزارع  الاستثمارية وأيضاً من كبار المزارعين، الذين حضروا التدشين، عن سخطهم لعدم قيام الجهات الحكومية المختصة بمسؤوليتها في الاهتمام بالجانب الزراعي ومعالجة مشاكل حصاد محصول القمح، التي تتكرر في كل موسم، وابرزها عدم توفر «الكمباين» (الحصّادات)، بالشكل المطلوب للإسراع في عملية الحصاد، كون تأخر الحصاد وبقاء السنابل حتى اشتداد الحرارة يتسبب بخسائر كبيرة للمزارعين من خلال تعرض المحصول لهدر كميات كبيرة نتيجة تساقطها بفعل الرياح، وكذلك تراجع جودة المحصول لبقائه في سنابله فترة طويلة.
وحذر المزارعون ومشرفون عن مزارع استثمارية من أن التساهل في توفير الحصادات المركزية بالشكل المطلوب قد يؤثر سلباً في استدامة زراعة القمح، كون العلاقة بين المُزارع وبين العملية الزراعية هي علاقة مكسب وخسارة، فإذا استمرت الخسائر موسماً بعد آخر بسبب مشاكل يمكن للجهات الحكومية حلها، فإن المزارعين سيعزفون عن الزراعة وتتحول الأرض الخصبة إلى جدباء قاحلة.
ولكي تكون المكاسب مضمونة يجب أن تكون تكاليف الزراعة قليلة، ولن يحدث ذلك إلا بالميكنة الزراعية، التي تضمن خفض تكاليف الإنتاج مع الحصول على منتج بجودة عالية.

نائب وزير الزراعة : وفرنا 27 حصادة صغيرة و11 كبيرة
صحيفة «لا» التقت عددا من المسؤولين في وزارة الزراعة واللجنة الزراعية والسمكية العليا، والمؤسسة العامة لتنمية وإنتاج الحبوب، وواجهتهم بشكاوى المزارعين التي يعرفونها جيداً، والحلول التي وضعوها لمعالجة اختلالات المواسم الماضية، وأبرزها عدم توفر الحصادات المركزية لحصاد المزارع الاستثمارية والكبيرة.
نائب وزير الزراعة والري - نائب رئيس اللجنة الزراعية والسمكية العليا، الدكتور رضوان الرباعي، قال: «هناك مساران لتوفير الحصادات للمزارعين، الأول لصغار المزارعين وتم خلاله توفير 27 حصادة صغيرة، وبالنسبة للمزارع الاستثمارية والمزارع الكبيرة تم توفير 11 حصادة كمباين من المؤسسة العامة لإكثار البذور، بخلاف الحصادات التي يمتلكها القطاع الخاص، وهناك حصادات مركزية ستصل خلال الفترة القادمة لتنضم إلى هذا الأسطول من الحصادات الكبيرة، لتكون بمثابة بنية تحتية للميكنة الزراعية بمحافظة الجوف».
الدكتور الرباعي، الذي كان في عجلة من أمره أثناء حديثه معنا خلال تدشين موسم حصاد القمح بالجوف، أشار إلى أن هذا الموسم لن يشهد أخطاء مثل الموسم السابق، ولن يتساقط المحصول، بينما أعرب المزارعون الذين كانوا متواجدين عن سخطهم من تساقط محصول القمح، نظراً لعدم توفر الحصادات اللازمة بالشكل المناسب.
سألناه عن عدد الحصادات التي يمتلكها القطاع الخاص وتم استخدامها في الحصاد هذا الموسم، وكذلك الحصادات التي قال إنها ستصل قريباً وتنضم إلى «الأسطول»، لكنه استقل سيارته وغادر مع بلوغ الشمس كبد السماء.

رئيس مؤسسة إكثار البذور : وفرنا 39 حصادة صغيرة و10 كبيرة 
وكيل وزارة الزراعة والري لقطاع تنمية الإنتاج - رئيس مجلس إدارة مؤسسة إكثار البذور المحسنة - سكرتير اللجنة الزراعية والسمكية العليا، المهندس سمير الحناني، كان أكثر صبراً على حرارة الشمس، أثناء حديثه معنا وسط حقل السنابل الذهبية.
قال الحناني: «العام الماضي كانت المشكلة الأساسية في الحصاد هي عدم توفر حصادات كبيرة بما يوازي التوسع في المساحات الزراعية، حيث كانت المتوفرة ما يعادل 5-6 حصادات تابعة لمؤسسة إكثار البذور، وكانت غير جاهزة، وصيانتها غير متوفرة بالشكل المطلوب، بينما هذا العام تم إنزال مناقصة لاستيراد 6 حصادات كمباين، بالإضافة إلى الحصادات المتواجدة، حيث بلغ عدد الحصادات المركزية 10 حصادات مصانة جاهزة تم إنزالها إلى الجوف». 
وأشار الحناني إلى توفير 39 حصادة صغيرة «دراسة» للمزارع الصغيرة، ضمن معالجة مشاكل الحصاد في الجوف، مؤكداً في الوقت ذاته أن المساحة المزروعة بالقمح في الجوف زادت عما كانت عليه الموسم الماضي.
وأوضح الحناني أن المساحة المخصصة لإنتاج بذور القمح تبلغ ألف هكتار، متوقعاً أن يصل إنتاج البذور في هذا الموسم إلى 60 ألف كيس سعة 50 كيلوجراما، مقارنة بنحو 25 ألف كيس إنتاج العام الماضي، ومتوسط إنتاجية الهكتار الواحد في هذا الموسم قد يتراوح بين 3-5 أطنان، مقارنة بـ2-3 أطنان في الموسم الماضي.

نائب مؤسسة إنتاج الحبوب : الحصادات قديمة ومتهالكة
كما التقت صحيفة «لا» المهندس صلاح أحمد المشرقي، نائب المدير العام التنفيذي للمؤسسة العامة لتنمية وإنتاج الحبوب - رئيس لجنة شراء بذور وحبوب القمح في الجوف، الذي علق على استمرار ترحيل مشاكل حصاد القمح في الجوف من عام إلى آخر، وخصوصاً فيما يتعلق بعدم توفير الحصادات الكبيرة لحصاد المساحات الشاسعة، قائلاً: «حصلت المؤسسة العامة لتنمية وإنتاج الحبوب في الموسم السابق على دعم من وزارة المالية لشراء بذور القمح بمبلغ مليار ريال، وبموجب التفاهمات والاتفاقات بين مؤسسة الحبوب واللجنة الزراعية والسمكية العليا ووزارة المالية، تم الاتفاق على تخصيص هذا المبلغ لشراء حصادات الكمباين، التي كانت -كما ذكرتم- أكبر مشكلة واجهناها بالموسم السابق وأثارت استياء الكثير من المستثمرين وأصحاب المزارع الكبيرة، وتم الاتفاق على أن تتولى اللجنة الزراعية والسمكية العليا شراء وتوريد حصادات الكمباين من الخارج بالاستعانة بالمؤسسة العامة لإكثار البذور المحسنة، كونها جهة اختصاص في عمل وتشغيل حصادات الكمباين ولديها كادر هندسي مؤهل ويمتلك خبرة واسعة في شراء الحصادات وتشغيلها وصيانتها ويعرفون جيداً الشركات العالمية المصنعة لأفضل أنواع الحصادات».
وأضاف المشرقي: «تم تجهيز المواصفات الفنية المطلوبة والمناسبة للبيئة اليمنية وتجهيز أوراق ومعاملات شراء الحصادات الكمباين، إلا أنه نظراً لوجود العدوان الأمريكي والبريطاني على بحار وسواحل اليمن تعذر وصول حصادات الكمباين لليمن حتى الوقت الراهن، وهذا الأمر لم يكن بالحسبان، وما زالت أعمال المتابعة مستمرة من قبل جهات الاختصاص».
جدير بالذكر أن العدوان الأمريكي البريطاني على بلادنا بدأ في 12 كانون الثاني/ يناير الماضي، أي قبل بدء موسم الحصاد بشهر واحد فقط.
 المهندس المشرقي أوضح أن اللجنة الزراعية العليا، وتلافياً لإشكاليات عملية الحصاد، تولت «تمويل  إصلاح كافة حصادات الكمباين المملوكة لمؤسسة إكثار البذور، وتم تجهيزها بالكامل، وعددها عشر حصادات، ونقلها من ذمار إلى الجوف، بتمويل من مؤسسة الحبوب  هذه الحصادات الآن تعمل بطاقتها القصوى، مع علمنا أنها قديمة ومتهالكة، إلا أن الكادر الهندسي المتخصص من مؤسسة إكثار البذور يقومون بواجبهم ليل نهار في إصلاح أي أعطال تحدث للحصادات، من أجل مواكبة عملية الحصاد».
وأكد أن إجمالي عدد الحصادات الكمباين المتوفرة حالياً 10 حصادات، إضافة إلى حصادة واحدة مملوكة لإحدى المزارع الاستثمارية، وهي التي أشار لها نائب وزير الزراعة في تصريحه بالقول « بخلاف الحصادات التي يمتلكها القطاع الخاص».
ولفت المشرقي إلى أن البيانات الأولية لإجمالي المساحة المزروعة بالقمح في الجوف هذا لموسم تتراوح ما بين 7 - 8 آلاف هكتار، موضحاً أن خطة مؤسسة تنمية وإنتاج الحبوب للموسم القادم تتضمن إنتاج ما يعادل 60 ألف كيس بذور قمح سعة 50 كيلوجراما، والتي ستحتاج لزراعتها نحو 20 ألف هكتار.
والسؤال الذي يفرض نفسه بناءً على تصريح نائب مدير مؤسسة تنمية وإنتاج الحبوب: كيف ستستطيع الجهات المختصة حصاد 20 ألف هكتار من محصول القمح وهي التي فشلت في تغطية حصاد 7 آلاف هكتار فقط؟! 

الفرق بين الكمباين  والدراسات»
بلغة الأرقام، يقول المهندس الزراعي عبدالسلام مطهر: «الزراعة معتمدة على الحصاد، والحصاد فيه نسبة تالف كبيرة، فمثلاً في الجوف لو أردنا أن نحصد بالآلات اليدوية، فهذا يعني الاحتياج لعمالة كبيرة، تُكلف في الهكتار الواحد نحو 120 ألف ريال، إضافة إلى تكلفة استئجار «الدَّرّٓاسة»، وهي آلة فرز السنابل وإخراج الحبوب، بنحو 70 ألف ريال، وبهذا تكون التكلفة الإجمالية لحصاد الهكتار الواحد من محصول القمح 190 ألف ريال، ويستغرق إنجاز الحصاد يومين إلى ثلاثة أيام، وكمية المفقود من المحصول كبيرة، بينما لو استخدمنا الميكنة الحديثة، والمتمثلة في «الكمباين» (الحصَّادات) المركزية، فإن تكلفة حصاد الهكتار لن تتجاوز 35 ألف ريال، ووقت الإنجاز من ساعة إلى ساعتين فقط، والمفقود من المحصول قليل، ففي الحصاد اليدوي، المُزارع خسران، بينما بالميكنة الحديثة يضمن المكسب والجودة وسرعة الإنجاز».

ختاماً..
 اليمن يطمح إلى أن يتحرر من هيمنة دول الاستكبار العالمي، بالتوسع في الزراعة وتحقيق الإكتفاء الذاتي من الحبوب، وخصوصاً القمح، فهو يمتلك كل مقومات الزراعة من أراضٍ خصبة شاسعة وتنوع مناخي وأيادٍ عاملة. ومنذ بزوغ شمس ثورة الـ21 من أيلول/ سبتمبر 2014، أولت القيادة الثورية، ممثلة بالسيد القائد عبدالملك بدر الدين الحوثي، اهتماماً كبيراً بالزراعة، مؤكداً في أكثر من خطاب أهمية الاكتفاء الذاتي من المحاصيل الزراعية، وفي مقدمتها محصول القمح. 
هذا الطموح لن يتحقق على أرض الواقع إلا بالعمل الجاد والتعاون الحقيقي بين حملة المحاريث والإرادة، وبين «أصحاب المعالي والسعادة».