الفنان التشكيلي السوري نبيل السمان في حوار لـ«لا»:اليمن العريق أدهش شعوب العالم بقدرته على تشييد القصور في قمم الجبال
- تم النشر بواسطة حنان علي / لا ميديا
حاورته في دمشق: حنان علي / لا ميديا -
أحد فناني الجيل الرابع في تاريخ الفن التشكيلي السوري العريق. لوحاته مشاهدٌ دراميّة أخاذة، ميادين شاسعة لصراع الألوان وإحياء الأحداث الغابرة. رحلة فاقت الأربعين عاماً، مسكونة بهاجس هوية الفن السوريّ العتيق، منسوجة بشغف الأساطير والأيقونات والانتصارات وملامح الحقب المتتالية. أتراه يحمل مسؤولية نقل التاريخ والثقافة لونياً إلى المستقبل؟ أم أنه يؤثر إشعال تساؤلات العارفين؟
الفنان التشكيلي السوري نبيل السمّان يكشف لصحيفة «لا» عن عمق فلسفته ورؤيته الفنية الفريدة في حوار مترع بألوان الحياة.
الوالد كان صديقاً لبعض كبار قادة الحركة الفنية الحديثة في سورية: الأستاذ فاتح المدرس، والنحات حامل وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الأولى الفنان
سعيد مخلوف... ما تأثير الطفولة الفنية الثرية على نبيل السمان؟
لا ريب أني طفل محظوظ، إذ لطالما انشغلتُ صحبة والدي بزيارة مراسم أولئك الفنانين الرواد مبكراً، متلقياً عوالم الفن المبهر، مشكلاً شغفي، مطوراً قدراتي الفنية. ولم يمضِ الزمن طويلاً حتى نلتُ بعمر 13 عاماً الجائزة السنوية لمجلة «أسامة» المخصصة للأطفال. أعتقد أن منح الأطفال فرص التعرف على الأشياء مبكراً يُبقي مخيلتهم متقدة دفاقة.
درست التصميم الداخلي أو قسم الديكور، في كلية الفنون الجميلة، وتخرجت فيها عام 1981، مع ذلك حرصت على تدريس الفن للأطفال. هل حاولت زرع طفولة مماثلة لجيل جديد؟
نعم، درست العمارة وأنجزت أعمالاً خاصة بالديكور، مختبراً المواد مثل الخشب والقماش والألوان وكيفية تشكيل الفراغ؛ لكن ما زالت تجربتي بالتدريس تؤكد القدرة على إطلاق خيال الأطفال بقدر ما يمكن تخزين الإبداع داخل مخيلتهم. طالبتهم برسم ما يرونه من وجهة نظرهم، ثمّ الاطلاع وتقييم أعمال زملائهم، في محاولة لتحريرهم من التفكير التقليدي والخروج عن المألوف، خاصة أن المناهج التعليمية في سورية تلقينية كثيراً ما تحجب الأطفال عن إضفاء رأيهم الشخصي، على نقيض الأساليب التعليمية المتبعة في الخارج، حيث وصلت بعض المدارس إلى إلغاء الامتحانات، ودفع الأطفال للبحث والعمل بروح الجماعة، ذلك ما حاولتُ اتباعه في منهجي التعليمي الخاص.
في زمن الانبهار بالتقدم الغربي، دعنا نتوقف لحظات عند ذاكرة الحضارة العتيقة لليمن، والتي تعجز الكلمات عن وصفها، حينما ازدهرت الفنون والعلوم والزراعة والتجارة على نحو لا يصدق...؟
نعم، بالفعل، فقد أدهش اليمنُ العريق شعوبَ العالم بقدرته على تشييد القصور في قمم الجبال الشاهقة، وشهد تاريخه حضارات عظيمة، أبرزها سبأ، مملكة معين، وحضارة حضرموت. أستحضر الآن صديقة سورية متزوجة من مهندس يمني، وقد شغفها حبّ اليمن لدرجة داومت على إلقاء محاضرات شهرية في مكتبة الأسد الوطنية، مطلعة الحاضرين على تاريخ وإبداعات العمارة اليمنية ناثرة الدهشة بين الأرجاء.
ما لبث اليمن الحاضرة الأولى في شبه الجزيرة العربية. فإذا ما أردنا البحث عن أمكنة مفعمة بالآثار، علينا الإشارة بفخر إلى اليمن والبحرين، جنباً إلى جنب مع درة التاج الروماني، مملكة تدمر العظيمة وما امتلكته من امتداد جغرافي مذهل.
عبر التراث العريق المفعم بالموسيقى والغناء، فن العمارة، والشعر المحكي والنبطي والمقفى، ظهر جلياً تفرد وأصالة المجتمع اليمني. أما فن العمارة اليمنية فالشاهد الأكبر على براعة اليمنيين عبر الأزمان. لكن للأسف الشديد تم إدخال القات إلى اليمن على يد المستعمر الإنجليزي، الذي أعتبره الأسوأ على الإطلاق، فهو تخريبي داحض لتدفق الحضارة إلى الأجيال الجديدة.
يعتبر هاشم علي رائد الفن التشكيلي في اليمن، لحق مسيرته الإبداعية فنانون يمنيون كثر، أذكر منهم: عبدالجبار نعمان، فؤاد الفتيح، آمنة النصيري، وغيرهم كثير، قدموا أعمالاً فنية رائعة عبرت عن الثقافة والتاريخ والحياة اليومية في اليمن. كيف يرى نبيل السمان دور اليمنيين المقاومين من جهة والفن اليمني من جهة أخرى في ظل الظروف الراهنة والحرب على غزة؟
المواقف البطولية لليمنيين تجاه ما يحدث في غزة زادت كراهية العالم الغربي لليمن، فما توانى الإعلام عن تصويرهم قراصنة البحار. إلا أنني وبكل فخر، أعجز عن التعبير عن مدى أصالة ونخوة وصدق الشعب اليمني قولاً وفعلاً. فقد وقف إخوتنا اليمينون الجسورون أصحاب الكرامة، وقفة عز وتحملوا دفع أثمان باهظة تجاه القضية العادلة والحياة الشريفة.
هل تؤيد توثيق الأحداث الجارية فنياً؟
إنني من أنصار مدّ فترة زمنية بين الحدث وبين التعبير عنه فنيّاً، فالعصر عصر الصورة والأخبار العاجلة لحظة بلحظة. أما حرب الإعلام اليوم فليست أقل وطأة من الحرب العسكرية، فمن تسمي نفسها «إسرائيل» لا تقصد من حربها إلا القيام بتطهير عرقي وإبادة جماعية لا تغتفر، وليس للقتل المجاني حدود أو إنسانية أو أخلاق، ذلك استجابة لجهد الصهاينة في إثبات الرواية التوراتية عن أرض الميعاد: «وَأَعْطَيْتُكُمْ أَرْضاً لَمْ تَتْعَبُوا عَلَيْهَا، وَمُدُناً لَمْ تَبْنُوهَا وَتَسْكُنُونَ بِهَا، وَمِنْ كُرُومٍ وَزَيْتُونٍ لَمْ تَغْرِسُوهَا تَأْكُلُونَ»؛ السردية التوراتية «الإسرائيلية» التي دحضها المفكرون الباحثون الكبار أمثال فراس السواح وخزعل الماجدي. ومن ناحيتي أوقن بأن هذا الكيان إلى زوال، وما يحصل اليوم ما هو إلا بداية نهايته، طال الزمان أم قصر، وكل يوم أعتبره خطوة صوب النصر.
إذن، أنت من أنصار اكتمال الصورة قبل توثيقها...؟
نعم، فالفنان أو الأديب أو الشاعر لا يعتبر بنكاً للمعلومات؛ إذ يتوجب على المثقف معرفة مكانه من الزمان والمكان قبل التعبير عن موقفه فنياً. ومع ذلك فالفن الحر لا يمكنه إغفال المواقف الثابتة والواضحة، التي لا تحيد عن تحرير القدس رغم الاستعلاء الغربي وسطوته ودعمه للكيان الصهيوني بشتى السبل، عدا عن محاولاته الفاشلة لإخضاع اليمن. لا ريب أن الجهود المبذولة للتطبيع مع الكيان الصهيوني أثبتت عدم صلاحية هذا الكيان للسلام، وعدم رغبته بالتعايش أو مشاركة الأرض، ولا سبيل للتحرير إلا عبر الصراع والمقاومة لإثبات الحقوق.
لفتتني هوية لونية جديدة وسمت لوحاتك قيد الإنجاز، الأصفر على نحو خاص، هلا حدثتنا عن هذا التجديد اللوني؟
لكيمياء اللون احتمالات لا نهائية، ما زلت أختبر الألوان بطرق شتى: إضاءاتها، وتجاورها ضمن دراما وصراع لونيّ سينتصر فريق منها على الآخر. ما لبث العمل الفني عملاً توليدياً يأخذنا بكل مرحلة لمكان ما، فلا تجسد لوحتي اليوم فكرة أو شخوصاً أو تحتمل أزمنة عدة؛ لكن اللون يقدم نفسه مجاوراً غيره بنقلات لا يفرقها خط فاصل. الأصفر خيار مخيف وخطير مثله مثل الأخضر، وكل لوحة تشكل مختبراً للمشروع الذي أعمل عليه.
معرضك الأخير كان بعنوان «وجه ومدينة»، تضمنت لوحاته عدة أزمنة هادفة إلى إيقاظ المنحوتات التدمرية والهلنستي، مستعيدةً الرموز في الفن والفكر والحرب باختزال إبداعيّ. ما سر هذا الإخلاص للتاريخ؟
أقرّ بأن هوية الفن السوريّ هاجسي الشخصيّ، وأحاول لونياً الانتقال بالتاريخ إلى المستقبل، وأوافق وجهة نظر إلياس زيات (أبرز أسماء الجيل الثاني في التشكيل السوري) بأن الفن في سورية ما أصابه الانقطاع عبر الزمن، بدليل أن الأيقونات البيزنطية السورية أخذت مفرداتها من النحت التدمري. أما عمرنا بالتشكيل فأقدم بكثير من 120 سنة.
نحن أمة ممتدة لتاريخ عشرة آلاف سنة. بلادنا ذات تاريخ عريق وحضارة عظيمة. أما أيادي أبنائها السوريين فأسهمت في بناء العديد من الهياكل الهامة في روما وغيرها من المدن القديمة. لعلها تفاصيل تاريخية مثيرة ومعقدة، لكنها تظهر القدرة الإبداعية والمهارات البارزة للشعب السوري.
دعيني أستحضر أسطورة أوروبا ابنة ملك فينيقيا، التي خطفها ملك الآلهة بصورة ثور أبيض وأخذها إلى جزيرة كريت، وما لبث أخوها قدموس حين طفق يبحث عنها أن أسس مدينة وأثراً لا ينسى. رمزية الأسطورة تتجلى بأن أرضنا منشأ البدايات التي نقلناها برحابة صدر للآخرين، من أمثال النظام الستيني والاثني عشري وتقسيم السنة إلى 12 شهراً، أوائل الموسيقى والأساطير.
أتنشُدُ توثيق التاريخ السوريّ بشكل أو بآخر؟
لا أعتبر لوحتي وثيقة، بل هي مشهد يحمل جرعة من التساؤلات يجيب عليها العارف بالتاريخ، يفك رموزها ويبين المعرفة بتفاصيلها. لوحتي تحتمل تشاركية الانطباعات وتعددية العناوين. وما زلت أعارض وجهة نظر الفنان المأسور بأسلوب محدد؛ لأنه لن ينجو من فخ التكرار.
هل من لوحةٍ نهائية لدى نبيل السمان؟
في كتابه «الثابت والمتحول» أشار أدونيس إلى أنّ الشعر عبر لغته الخاصة يتمرد على اللغة. اكتمال اللوحة أمر مماثل، كثيراً ما تقلقني لوحة ما مركونة جانباً، وسرعان ما ألبي نداءها بريشتي وألواني.
ما كلمة نبيل السمان الأخيرة لـ»لا»؟
أعتقد أن الوقت والحظ إن ساندا الشخص في إكمال مشروعه، فإن ذلك يعتبر إنجازاً كبيراً. على سبيل المثال، لوحات الفنية الجدارية لإدوار شهدا تعتبر مثالاً رائعاً على ذلك. ثمة فنانون يكرسون خبراتهم بأكملها لمشاريعهم، ويجب علينا أن نقدر أعمال بعضنا البعض ونحترم تميز المبدعين في تقديم أعمال فنية مهمة وأصيلة. نحن سعداء في الوقت ذاته بأننا شهود على هذا العصر.
المصدر حنان علي / لا ميديا