تحقيق وتصوير:عادل بشر / لا ميديا -
في الوقت الذي يصب فيه التوجه العام في اليمن نحو تعزيز الأمن الغذائي،  وتحقيق الاكتفاء الذاتي من المحاصيل الزراعية، والتحرر من دول الاستكبار العالمي،  فإن هناك خطراً حقيقياً يهدد سلة غذاء اليمنيين وما تبقى من سبل عيشهم، التي باتت تحت  خطر شديد يتفاقم ويحمل تبعات وخيمة، تستهدف بأسلوب منظم وإجرامي الأراضي  والقيعان الزراعية شديدة الخصوبة، التي تغطي احتياجات الوطن من الحبوب والخضروات والفواكه بنسبة تزيد عن 85 في المائة.
والأشد خطورة أن التدمير الممنهج للأراضي الخصبة يتم بأيادٍ يمنية،  وعلى مرأى ومسمع من الجهات المختصة بالجانب الزراعي. البذور المستوردة، بما تحمله من فيروسات وأمراض، تُعد أحد الأسلحة البيولوجية الفتاكة بالتربة، والقاتلة للمحاصيل المحلية، والتاريخ خير شاهد على أن أمراض النبات والآفات التي تقضي على خصوبة التربة، قد تضاهي غزواً عسكرياً في إلحاق الدمار بالأرض والإنسان.
صحيفة «لا» تخصص ملفاً كاملاً، تنشره على حلقات، يركز على الآفات والكوارث التي تسببت بها البذور المستوردة، بذور الخضروات والحبوب، على أخصب القيعان والأودية الزراعية وكيف تحولت مساحات كبيرة منها إلى أراضٍ غير صالحة للزراعة.

آفات عابرة للحدود
كانت البداية من «قاع البون» الشهير بمساحته الشاسعة وتربته شديدة الخصوبة، في محافظة عمران، حيث تلقت الصحيفة شكاوى من مُزارعين حول ظهور أمراض فطرية وفيروسية تجعل تربة حقولهم «صالبة» غير صالحة للزراعة، بالإضافة إلى انتشار كبير لحشائش مضرة بالنبات والمحاصيل، جاءت مع بذور وتقاوي تم شراؤها من وكلاء لشركات خارجية محتكرة لتصدير البذور إلى اليمن.
هلال يحيى جودة، أحد كبار مزارعي القمح ومكاثري بذور البطاطس في «قاع البون»، التقيناه وسط حقوله في القاع الشهير بخصوبته، وكان الأسى والحزن ظاهرين على وجهه، وهو يرى محصول البطاطس، الذي أمضى عدة أشهر في زراعته ورعايته، يموت أمام عينيه، دون أن يتمكن من فعل شيء لإنقاذه.
يقول هلال جودة لـ «لا»: «اشترينا بذور بطاطس مستوردة من هولندا، وزرعنا بها أجزاء واسعة من الأرض؛ لكن وبمجرد أن يبدأ النبات بتحميل المحصول (بذور البطاطس) تحدث له انتكاسة غريبة، فتتعفن الجذور والمحصول الذي هو في طور التكوين، وتنتهي الثمرة، وكأننا لم نعمل شيئاً على مدى أربعة أشهر من تعب الحرث والزرع والسقاية ومخاسير ذلك، كل شيء يذهب هباءً منثورا».
يمسك جودة بأيدينا ويأخذنا إلى حقول أخرى في القاع الخصب ذاته؛ لكنها كانت «صالبة» ولا أثر لحياة فيها، فيشير إليها بيده المعفرة بالتراب قائلاً: «هذا جزء من مساحات كبيرة لم نعد نستطيع زراعة البطاطس فيها مرة ثانية؛ لأنها مصابة بفيروس دمر التربة وقضى على خصوبتها».
سألناه عن مصدر هذا الفيروس، فأكد أنه انتقل إلى حقوله من حقول مجاورة له، وصل إليها ضمن شحنة بذور مستوردة. «بدأ المرض في الحقول المجاورة قبل نحو أربع سنوات، وبعد سنتين انتقل إلى حقولنا، ومذاك والأرض كما ترونها، قاحلة، ومحرّمُ علينا زراعة البطاطس فيها، والسبب بذور النصارى!».
وبجوار الحقول القاحلة وجدنا مساحات خضراء مزروعة بثمار البطاطس، لا أثر فيها لأي أمراض أو آفات. ودون أن نستفسره عنها، قال هلال جودة: «هذه الحقول التي ترونها ممتلئة بالحياة والبهجة، هي نتاج بذور اشتريناها من الشركة العامة لإنتاج البذور، وهي بذور محلية خالية من الفيروسات والأمراض، وإنتاجها جيد».

استئجار حقول بعيدة
في موضع آخر من «قاع البون»، التقينا المزارع صالح بن صالح، ووجدناه يشكو من المشكلة ذاتها: «المشكلة أننا نزرع البطاطس وعندما تصل إلى مرحلة الزهرة تموت الشجرة، وكلما قمنا بسقايتها ازدادت مواتاً، وعندما نحرثها نجد البذور متعفنة، وكل يوم يتكاثر الفيروس وينتشر، ويزداد من عام إلى آخر، حتى أننا لم نعد نستطيع أن نزرع الأرض بالمحصول ذاته مرة ثانية».
وأوضح أن عدداً من المُزارعين الذين حدثت لهم هذه الكارثة، اضطروا إلى استئجار حقول بعيدة عن حقولهم المصابة، بغرض زراعتها بالبطاطس، الذي يُمثل جانباً هاماً في حياة المُزارعين، كونه يعود عليهم بالأموال التي تساعدهم على الاستمرار في العملية الزراعية، سواء لمحصول البطاطس وغيره من الخضروات أو محصول القمح الذي يشتهر «قاع البون» بإنتاج أجود أنوعه.

الهالوك
إلى جانب الفيروس الذي يقضي على الثمار ويُدمر التربة، هناك نبتة أخرى لا تقل خطورة عنه، يطلق عليها اسم «الهالوك»، تتكاثر وتنتشر بشكل سريع، ويعجز المزارعون عن إزالتها من حقولهم.
وفي هذا الصدد التقينا بالمزارع سعد القيني، وهو أيضاً من كبار المزارعين في «قاع البون»، وقال: «الهالوك جاء مع البذور المستوردة من هولندا، والآن هو مختلط بالتربة ولا نستطيع إزالته».
ويضيف: «إذا اقتلعنا نبتة واحدة، تنبت بدلاً منها عشر أخرى، وهكذا».
وحول مصدر «الهالوك» قال القيني: «اشترينا بذور بطاطس مستوردة من هولندا، وكانت بعض الأتربة عالقة بها، وعندما زرعناها في أرضنا، نبتت هذه الحشائش مع شجرة البطاطس، وانتشرت بكثرة وأصبح من الصعب إزالتها».

متطفل
التقينا المهندس الزراعي عبدالملك الشامي، الذي كان متواجداً في «قاع البون»، وسألناه عن طبيعة «الهالوك» وطريقة القضاء عليه، فقال: «الهالوك متطفل على محصول البطاطس، وهو يصيب البطاطس والطماطم، حيث يتطفل على محتويات البطاطس من الدرنات والجذور، فيُرسل جذوره إلى جذور البطاطس ويمتص العصارة الخاصة بالنبات ويُنهي المحصول».
وأوضح أن «الهالوك» ينتقل مع البذور المستوردة، وينتشر من حقل إلى آخر، وعندما يُترك حتى يُزهر ويُثمر فإن الثمرة الواحدة منه تُنتج نحو 200 ألف بذرة، تنتشر في الأرض كالنار في الهشيم».
وحول طُرق مكافحته وإزالته، قال الشامي: «يعمد بعض المزارعين إلى اقتلاعه، معتقداً أنه بذلك يقضي عليه، والحقيقة أنه يساعد في انتشاره أكثر. والطريقة الأفضل لمكافحته هي أن يتم قص النبتة قبل أن تُزهر، ويكون القص من الساق على مستوى سطح الأرض، وليس اقتلاع جذورها، بالإضافة إلى اعتماد الدورة الزراعية، بتغيير زراعة محصول الخضروات بمحاصيل أخرى مثل الشعير أو الذرة».



تدمير وادي ذرحان
في منطقة همدان بمحافظة صنعاء، التقينا المزارع «أبو هاشم الذرحاني»، الذي اشتكى من تعرض ثمار فاكهة الفرسك والخوخ للتلف، وإصابة أشجار تلك الفاكهة بأمراض مُهلكة.
وقال الذرحاني لـ«لا»: «وادي ذرحان من أخصب الأودية في مديرية همدان بمحافظة صنعاء، ويشتهر منذ زمن طويل بأجود الفواكه والخضروات، التي تمتلئ بها الأسواق في أمانة العاصمة والمحافظات المجاورة لها»، موضحاً أنه وخلال السنوات الأخيرة ظهرت أمراض عبارة عن بُقَع سوداء وما يُشبه «الصمغ» في ثمار فاكهة الفرسك، مما أدى الى تلف المحصول. «مزارعنا انتهت بسبب هذا المرض، الذي تسبب به مبيد فاسد اشتريناه من وكالات بيع المبيدات، فقضى على الثمرة وعلى الشجر».
وأشار الذرحاني إلى أن هذا المرض يُصيب الفرسك والبرقوق والأنجاص واللوزيات بشكل عام، وفشلت كل محاولات المزارعين في القضاء عليه، لافتاً إلى غياب وزارة الزراعة وأجهزتها غياباً تاماً.
وأكد الذرحاني أن مساحات كبيرة من حقول المزارعين في همدان انتشرت فيها حشائش غريبة ضارة بالأرض والنبات، جاءت مع بذور الجزر المستوردة، قبل نحو خمس سنوات، وتسببت بخسائر فادحة للمزارعين، إضافة إلى حشائش أخرى موجودة منذ سنوات عديدة، ولم تحرك وزارة الزراعة ساكناً لإزالتها، حد قوله.
وكانت «لا» قد حصلت على صورة من شكوى خطية مُذيلة بأسماء وتوقيعات نحو 40 مُزارعاً من أبناء منطقة همدان، وجهوا شكواهم إلى وزارة الزراعة والري، جاء فيها: «نحن مزارعون منطقة ذرحان بمديرية همدان محافظة صنعاء، قد مسنا الضرر وتدمير أراضينا الزراعية التي نعتمد عليها ومصدر رزقنا، ولا يخفاكم أن منطقة ذرحان كانت من أخصب الأراضي الزراعية في اليمن والتي تجود وتورد للعاصمة صنعاء أفضل الخضروات والفواكه؛ لكن للأسف تدمرت الوديان بسبب حشائش كانت مصاحبة لبذور الجزر المستوردة والمهربة من قبلكم، وأخطر الحشائش شوكة تعسر علينا إزالتها رغم المحاولات الكثيرة التي جربناها، ومنها استخدام الشيول لإخراج التراب واستبداله، إلا أنها سيطرت على الأراضي والوديان الزراعية في أغلب المنطقة، وأصبحت الأراضي قاحلة غير قابلة  للزراعة بأي نوع من أنواع الخضار أو الفواكه».
وطالب المزارعون في شكواهم وزارة الزراعة بإلزام مستوردي بذور الجزر المحملة بالحشائش الخبيثة، بإزالة الضرر عن أراضيهم ووديانهم وتعويضهم التعويض العادل.
وأثارت هذه القضية سجالاً كبيراً بين القطاعات والإدارات المختصة في وزارة الزراعة، ستوردها الصحيفة بالوثائق في حلقة قادمة من هذا الملف، بالإضافة إلى مواجهة مسؤولين في الوزارة بالقضية ومستجداتها.

الساق الأسود
في محافظة ذمار اشتكى مزارعون من انتشار مرض يسمى «الساق الأسود» في حقولهم الزراعية.
وأوضح المزارع الصيحي أن هذا المرض يُصيب جذور البطاطس ويقضي عليها وتكون له رائحة قذرة، لافتاً إلى أن النبتة المصابة إذا لم يتم إزالتها سريعاً وإخراجها من الحقل فإن المرض ينتشر ويصيب النباتات واحدة تلو الأخرى.
إلى جانب ذلك تنتشر حشائش أخرى تُسمى «الرنجس» تستوطن الحقول الزراعية وتقضي على النباتات والأرض الخصبة.

... يتبع في الحلقة القادمة.

رابط الحلقة الثانية من التحقيق
👇🏻👇🏻👇🏻